عبد الوهاب بدرخان
لا يمرّ التغيير في السياسات من دون آلام خصوصاً في دولة عظمى، والتغيير الذي يطرحه انتخاب دونالد ترامب هو من هذا النمط. وقد ظهرت مؤشراته الأولى داخل الولايات المتحدة بممارساتٍ لمؤيديه أثارت لتوّها مخاوف لدى المهاجرين والمسلمين والسود والنساء، وكذلك بالتعيينات الأولى في إدارته.
في المقابل، لم تتأخّر مؤشّراته خارج الولايات المتحدة ويمكن رصد خمسة منها على الأقل: قلق أوروبي على السياسات الدفاعية للمرّة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى بعد انتهاء الحرب الباردة، استقبال ترامب لأحد رموز اليمين المتطرف في بريطانيا، وتزايد الغزل بين تياره وأحزاب أقصى اليمين في أوروبا، التقارب المؤكّد بين ترامب والرئيس الروسي وتأثيره المباشر في السياسات الدولية خصوصاً في الأزمة السورية، محاولة الوزير جون كيري فرض حلٍّ يراعي مصلحة إيران في اليمن استباقاً لرحيل الإدارة الأميركية الحالية، واستشعار حكومة إسرائيل الظرف الأميركي الجديد مناسباً لكتم أصوات المؤذّنين بالصلاة، فضلاً عن إضفاء شرعية على بؤر استيطانية لا يعتبرها القانون الإسرائيلي نفسه شرعية بسبب إقامتها على ملكيات خاصة لأفراد فلسطينيين.
تنافست التوقّعات، غداة فوز ترامب، بشأن الفارق المحتمل بين مبالغات المرشّح وخيارات الرئيس، وهذا صحيح عموماً لكن يبقى أن المرشّح بنى لنفسه صورة ولسياساته تصوّراً لا يمكن أن يكونا مغايرَين للحقيقة، ولا مناقضَين لتعبيرات ناخبيه كما تراءت في الواقع بعد فوزه. ثم أن سيَر الأشخاص الذين باشر تعيينهم لإدارته، بدءاً بنائبه مايك بنس، ثم الرئيس التنفيذي لحملته الانتخابية «ستيفن بانون» والمرشحين لوزارة العدل ومجلس الأمن القومي وإدارة آل «سي. آي. أيه»، تبيّن ملامح متقاربة في يمينيتها ومطابقة للأفكار، التي ضخّها ترامب المرشّح إلى حدّ أن الانتقادات الأسوأ لهم تأتي من أوساط حزبه «الجمهوري» قبل منافسه «الديموقراطي».
ومع ذلك، يُقال إن العمل المؤسساتي هو ما يعوّل عليه لضبط إيقاع الرئيس، صحيح أن الحُكم على سياساته سيكون بعد تسلمّه مهماته، لكن الإشارات التي أطلقها حتى الآن أقلقت أقرب حلفاء أميركا وأصدقائها قبل ألدّ خصومها. وبالتالي فإن خطابه الهادئ عقب فوزه لم يعن أنه سيتخلّى عن توجهاته المتشدّدة. تعاملت المنطقة العربية مع مجيء ترامب إلى البيت الأبيض بحذر لكن بأمل أن يعمد إلى تصحيح أخطاء إدارة باراك أوباما والمفاهيم المغرضة التي حكمت سياساتها. فالرئيس المنتهية ولايته كان مسكوناً بفكرة التقارب مع إيران، وهذا شأنه بل لا ضير فيه مبدئياً، أما أن يُخضع استراتيجيته تجاه دول الخليج والعرب عموماً لهذا الهدف حتى بعدما تأكّد بأنه صعب المنال، فهذا مما يعسر فهمه ناهيك عن قبوله. ولا تزال مقابلته مع مجلة «اتلانتيك» وثيقة مفعمة بالمواقف السوداء، التي تنمّ عن أفكار مسبقة وعداء دفين للعرب مقابل مهادنة مكشوفة لإيران. وفي الأعوام الثلاثة الأخيرة، بعدما بلغت التدخّلات الإيرانية حدّاً غير مسبوق في تغذية الإرهاب وتأجيج الأزمات في سوريا والعراق واليمن، لم يعد العرب يأملون بأكثر من أن تكفّ إدارة أوباما عن تغطية تمدّد الهيمنة الإيرانية طالما أنها غير قادرة أو بالأحرى غير راغبة في وضع حدّ لها. ومن الواضح أن التوصّل إلى الاتفاق النووي، الذي يفاخر أوباما بأنه من أهمّ إنجازاته، استوجب سياسة تجاهل أميركي متعمَّد لكل انتهاكات إيران، وكانت في بعضٍ منها متحدّية للمواقف الأميركية المعلنة كما في سوريا، أما في اليمن فتغاضت واشنطن عن ممارسات «الحوثيين» إرضاءً لإيران وشجّعت على التعامل معهم ل «احتوائهم» في العملية السياسية الانتقالية، وواصلت مسايرتهم بعدما قادوا الانقلاب على الحكومة الشرعية.
لكن الأدهى كان في استغلال المسألة الإرهابية، إذ عتّمت واشنطن على كل ما لديها من تقارير عن الدعم الإيراني للإرهاب بل اعتبرت إيران شريكة في الحرب على «داعش» حتى لو دفعت بميليشياتها لاستباحة مناطق السنّة وارتكاب جرائم قتل وخطف وسحل ونهب وإحراق منازل وممتلكات.
673 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع