آرا دمبكجيان
نستنتج مما جاء في الجزء الثاني من هذا البحث بدء عصر جديد من (النضال) التركي ضد روسيا، وهو خالٍ من اي عملية تستر بأسم الصداقة السابقة. اذ بقيت تركيا مصرة على الخوض في غمار صراع اقتصادي في البداية، فأدى هذا الى استقطاب الطرفين حول التناقضات القائمة بينهما. و كانت النتيجة اقتناع حكام تركيا بأن هناك جدار صلب يقف حائلا امام تحقيق احلامهم في الوحدة الطورانية.
التشكيل الرسمي للحلقات النهائية للطوران الكبرى
من الأمور الجالبة للنظر في الحركة الطورانية المعاصرة هو تشكيل القيادات حتى قبل إيجاد دولة (الطوران الكبرى). و تحاول تركيا أتخاذ الخطوات التنظيمية الحيوية معتبرة الحركة الطورانية في برنامجها العسكري الأساس. لهذا السبب دعت في تشرين الأول من عام 1986 الى إقامة مؤتمر دولي تحت غطاء ظاهري برئ بعنوان "تركيا و بحوث في توركولوجي"، و الأخيرة تعني علم دراسة الأقوام التركية. كان هدف المؤتمر، و كما جاء في التلفزة التركية: "دراسة احوال شعب مهم جدا تعداده 140 مليون نسمة يسكن في الأراضي الواقعة من البوسنة الى الصين." و لكن النوايا الخفية كانت غير ذلك. فقد حاولت توحيد الشعوب الناطقة بالتركية و ايجاد السبل الكفيلة لخلق دولة جامعة لها لأن "مصير البشرية يجب ان يولد من هناك" حسب رأي (العلماء) الأتراك.
من الأسماء التي أختارآباء الحركة الطورانية لدولتهم العتيدة هو "تركستان". هذا و قد تشكلت أعداد من الحلقات في سلسلة تشكيل الدولة الطورانية الموعودة، فاتخذت الهيئة العسكرية مثلاً، شكلها، من الأدوار الأبتدائية للتنظيم. ففي بداية العشرينات من هذا القرن شكّل نوري باشا و خليل باشا (هيئة الأركان التركية.)
لم تتحقق أحلام الأولين في خلق الدولة التركية الموحدة، و بدأت تلك الترسبات بالطفو ثانية فوق السطح كخبث متجدد، اذ تحاول القيادات التركية تحريك الشعوب الناطقة بالتركية و بث الحياة في برنامجهم العتيد.
فقد نظموا مؤتمرا شعبيا آخرا في آلما آتا، عاصمة كازاخستان، في 18-20 كانون الأول 1991. أوجد المؤتمرون هيئة استشارية مؤقتة عليها ان تحافظ على التواصل و التنسيق بين (الأراضي) التركية. و تشكلت فروع لتلك الهيئة في منطقة البحر الأسود الأدنى و القفقاس و كازاخستان و آسيا الوسطى. و من اهتماماتها ايجاد فروع لها داخل الدولة الروسية في مناطق اورال و ياقوتيا و جنوب سيبيريا. و هذه الفروع جميعها مؤهلة لتشكيل الجسم الرسمي للدولة الطورانية المرتقبة. و كان القوميون العنصريون في كازاخستان و آذربيجان و تاتارستان مندفعين في تشددهم الى درجة ان طالبوا المؤتمر تشكيل تنظيمات ذات طابع سياسي رسمي من دولهم في أثناء انعقاد ذلك المؤتمر.
يجرنا كل هذا ان نعتقد ايجابا ان الحلقات الرسمية النهائية للدولة الطورانية الكبرى تتشكل من غير تباطؤ، و لكن محاولات و جهود تركية في خلق تلك الدولة بصورة رسمية لن تتحقق ما دامت كل من كازاخستان و قرغيزستان و أوزبكستان و تركمنستان لا تريد التنازل بهذه السرعة عن الحقوق و الحريات و الأستقلال التي جنتها بعد زوال الحكم السوفييتي و الأنخراط ثانية تحت حكم تركي استعماري جديد، حتى لو كان باسم (الأخوة التركية) أو (اللسان التركي الواحد) أو (الدين الأسلامي المشترك).
و لكن، و بعد سنة واحدة، و في 30-31 تشرين الأول 1992، عقد في انقرة مؤتمر قمة لرؤوساء آذربيجان، كازاخستان و قرغيزستان، اوزبكستان، تركمنستان، و تركيا، و خرج المؤتمرون باتفاقية عن "التعاون و التكاتف المتبادل". و لكن في الواقع كانت تلك الأتفاقية تعتبر مركز ثقل الحركة الطورانية – حسب منظور تركيا – و موجهة بالدرجة الأولى نحو روسيا، أرمينيا، اليونان، جورجيا و ايران. فذكرت جريدة "كيهان" الإيرانية وقتها أن القادة الأتراك يبذلون جل جهدهم لمد نفوذهم في عدد من الجمهوريات المستحدثة نتيجة الأنهيار السوفييتي و بعث الحياة في التوجهات الأستعمارية للأتراك العثمانيين و الطورانيين.
و في هذه المرة ايضا لم تتمكن تركيا من توحيد تلك الدول رغم الأتفاقيات الموقعة بينهم، اذ كانت حجج الدول الرافضة انه ليس من المعقول حصر التعاون المتبادل ضمن اراضي الدول التركية اللسان فقط. و هذا معناه انه ليس بامكان تلك الدول قطع علاقاتها كافة مع روسيا و حلحلة روابطها مع الأخيرة، تلك العلاقات و الروابط التي تشكلت و اتخذت القالب النهائي خلال عدة عقود متوالية من الزمن.
بمعنى آخر، كانت هذه الدول التركية اللسان تعتبر ان الروابط القائمة على الفكر الشيوعي لمدة 70 سنة مع روسيا، وريثة الشيوعية السوفييتية، اقوى من روابط (الأخوة التركية) و (اللسان التركي الواحد) و (الدين الأسلامي المشترك) التي تربطها مع تركيا.
و ختاما لهذا البحث تحضرني الأسطر في أدناه عن الأحلام التركية في اثناء الحرب العالمية الأولى أنقلها ترجمة عن كتاب "الأمتداد التركي – الألماني نحو ما وراء القفقاس" الذي طُبع في يريفان في 1980 لمؤلفه بدليان: (...في مؤتمر باطوم الذي عُقد في شهر ايار 1918، ذكر وهيب باشا القائد العام للجيش التركي في جبهة القفقاس الى مندوب أرمينيا بكل صلافة ما يلي: "انكم ترون بأنفسكم أن القدر بنفسه قد دفع تركيا من الغرب نحو الشرق. لقد ابتعدنا عن البلقان، و نبتعد الآن عن أفريقيا، و لكن يجب ان نحتل عموم الشرق. لأنه في هذا المكان نجد أخوتنا في الدم و اللغة و الدين. هذا هو هدفنا الذي نسعى اليه منذ قرون. يعيش أخوة لنا في باكو، داغستان، تركيا و غيرها. علينا ان نفتح الطريق نحو تلك المناطق...". "...أنتم الأرمن تطالبون بمناطق ناخيجيفان و زانكيزور فتغلقون طريقنا نحو ايران و تمنعوننا من النزول الى وادي نهر كور الذي يقودنا الى باكو. و أما بمطالبتكم بمناطق كارس و آخالكالاك، تمنعوننا من الوصول الى كازاخ و كيانجا. على الأرمن أن يحيدوا عن طريقنا و أن يفتحوا ابواب الشرق امام الأتراك. بمعنى آخر، نحو مناطق ما وراء القفقاس، داغستان و آسيا الوسطى.")
لقد فات المؤلف ان يذكر ان مؤتمر باطوم المذكور في اعلاه كان تحت رعاية انكليزية اذ وقفت بريطانيا مساندة تركيا. نتجت عن هذا المؤتمر ثلاث معاهدات بين ارمينيا و تركيا في 18 حزيران 1918 و بين آذربيجان و تركيا و جورجيا و تركيا في الشهر نفسه.
ان هذه الأعترافات الصريحة نحو تأسيس (الطوران الكبرى) تعرّي مرة ثانية الأسباب الحقيقية للحقد التركي و كراهية دعاة الطورانية نحو أرمينيا و الشعوب غير التركية كافة التي تقف جغرافيا في طريق تحقيق احلامهم في ضم الأراضي الواقعة في آسيا الصغرى و منطقة ما بين النهرين (طمعا في نفط شمال العراق في منطقة الموصل الغنية بالنفط و بابا كركر في كركوك) جنوب تركيا، و شرقا نحو مناطق ما وراء القفقاس و أورال و آسيا الوسطى نحو منغوليا و منشوريا، و غربا نحو البوسنة و كوسوفو في البلقان.
949 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع