الأدب الروائي ليس بالصنعة التي تقررها اليوم فتنشئها غداً، ذلك أن تجربة الروائي الغنية بمعاني الحياة واختلاف أحوالها، هي مورده ورصيده في تشكيل حكاياته وشخوصها وأدق تفاصيلها على مدار حياته.
ولنفرض أن الأديب عانى من قرصة الفقر والبرد ومرارة الحرمان، فمن الطبيعي أن يكون توغله في وصف آلام بؤس الفاقة، أكثر تمكّناً من روائي آخر عاش في سعة من رزقه، حتى أنه ولو عالج المواضيع المشتركة التي يتمتع بها الناس على اختلاف درجاتهم وطبقاتهم في المجتمع، إلا أنك تشعر وكأنه يصبغ كتاباته بلون نفسه الحزينة، فيسكب عليها من كآباته وآهاته، وقد يندفع نتيجة يأسه إلى الزهد في الحياة والتغافل عن مباهجها، التي استكثرت نفسها عليه، فيذهب ويعلل النفس بحياة أخرى أخلد وأوسع من حياة فانية ضاقت عليه بما رحبت، حياة أخرى فيها من الزاهدين أمثاله يعوضون مع بعضهم البعض ما فاتهم من الدنيا الزائلة، إن من سرور أو من نعيم، فلا نستغرب إن شاع في الإنتاج الأدبي مواضيع ذم الدنيا وإعلاء القناعة بالقليل منها، تغنياً بالحياة الأخرى الباقية، وكسباً لحسنات مضاعفة، لضمان المنزلة المميزة لاحقاً مع المنعّمين المعوضين.
وكما ذكرنا في المقالة السابقة، فالبيئة الطبيعية ليست هي العامل بعينه الذي يؤثر في شخصية الأديب ومنها في إنتاجه الأدبي، وإنما هناك بقية العناصر السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تدخل جميعها في تركيب العقل والفؤاد، فالظروف السياسية مثلاً لا تقل تأثيراً عن الاجتماعية والثقافية في توجيه الإنتاج الأدبي، وهنا تكمن الخطورة والخسارة في آن واحد، ذلك أن نظام الحكم المسيطر في المجتمع عادة ما يحاول المحافظة على امتيازاته وهيمنته بشتى الوسائل، سواء أكان ذلك اقتناعاً منه بصلاح ما يقرره للمجموع، أم للطبقة والخاصة المحيطة به، أو للاثنين معاً، فالذي يهمنا في نهاية السطر أن هذا الأديب من حيث هو إنسان بيئته، هو وليد كل هذا النتاج من التقييد المفروض والسائد على حرية قوله وفكره، ومن بقية الظروف الأخرى التي بانت وكأنها اجتمعت عليه حتى تكالبت.
من هنا يتمايز الأدباء ويتفرق إنتاجهم، فأن تروي مقطعاً كاملاً من الحياة المشتركة بين فقيرها وغنيها، بين كادحها ومنعمها، وتكون مقنعاً ومتنبهاً لخط سير الشخصيات وردود أفعالهم، كل وفق انفعال الشخصية المرسومة له، فتنبض بإحساس هذا الفقير، وتصور مشاعر الغني المناقضة له، هذه التوليفة ليست بالأمر الموفق بين الكتاب والروائيين العرب إلا في ما ندر، فالأديب العربي إمّا أنه منتصر للفقير على حساب الغني، أو العكس... إمّا أنه مبدع في شرح دوافع الفقير واختياراته، أو العكس، غافلاً عن الشعيرات الدقيقة الفاصلة بين الفقر والغنى، وأدق التفاصيل التي تحكم كلا الطرفين، مع أن الاستمتاع بقراءة النص الأدبي، إنما يعود إلى تلك الإشارات الذكية التي تلتقطها هنا وهناك، وتشعر وأنت تبتسم لها وكأنك تنتمي إلى بعضها.
وصلنا أن دفاع الفرد قديماً عن قبيلته ببلاغته لا يقل بطولة وشرفاً عن دفاعه عنها بسيفه ورمحه، فكانت القبيلة تقيم احتفالاتها إذا ولد فيها شاعر موهوب، واليوم وبعد كل السنين التي مرت على احتفاء القبيلة، لا نزال ندافع عن الشاعر ونهمل أمر الأديب، فمَنْ يسجل ويوثق الحقبات والمراحل الزمنية بأيامها ومناسباتها، أليس هو الأديب بإنتاجه الأدبي؟ ومَنْ يحفظ للغة العربية شموخها وعراقتها واستمراريتها؟ أليس هو النص اللغوي واحترافية كتابته وانتقاء ألفاظه؟
منذ زمن الخلفاء والمبالغ ترصد للأدباء والمشتغلين بهموم اللغة للتفرغ لأعمالهم، والتخفّف من تكاليف عيشهم، واليوم عوضاً عن الالتفات إلى هذا الأديب صاحب الموهبة وتشجيعه على مواصلة مشواره الصعب والطويل، نتركه لكده ومعاناته، فإن استطاع أن يسرق سويعات يُقمن أدبه، فهو وما سرق، وإلا فليمضِ ويستنزف عمره في أسخف أمور حياتية يمكن أن يمر بها صاحب الوعي الكبير والثقافة الواسعة. ولأن المقاومة فن لا يتقنه إلا القلة، فكم من إبداع قُتل وأعمال أدبية لم تر النور، لأن طاقة صاحبها استهلكت في غير موطنها الأصلي، فمن قرأ نصاً أدبياً لم يُكتب بعد؟
1116 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع