خالد القشطيني
لا شك أن من أشهر الشواهد في التاريخ الإسلامي والأدب العربي ما أوصى به أبو العلاء المعري أن يُكتب على قبره، وهو ذلك البيت الشهير الذي يفتتح به قصيدة تشاؤمية طويلة تعبر عن حظه من الحياة وعن مأساة الإنسان فيها عموما:
هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد
نلمس فيها من الحكمة بقدر ما نشعر فيها من السخرية المرة.. لا عجب أن تبقى خالدة على مثواه. وأتصور أبناء سوريا اليوم يرددونها صباح مساء، إذ يواجهون بربرية «داعش» من الشرق، وبطش نظام الأسد من الغرب. ولكنها كانت نادرة في تاريخنا العربي، حيث لم يفسح الفقهاء أي مجال لبلاغات أدبية خلاقة لشواهد القبور. ولكن لفت نظري في مقبرة باب المعظم ببغداد هذا الشاهد الظريف والأليم بأنفاسه العامية:
يا قاري كتابي.. ابك على شبابي
بالأمس كنت حيا واليوم في التراب
مزاج ميلانخولي تام مما اشتهروا به في تلك الديار. ومن دون أي شك، لا شيء من ذلك يناظر روح الدعابة والسخرية في الشواهد الرخامية في الغرب. ويظهر أن القوم هناك في أوروبا استأنسوا بهذا اللون من الأدب. وتجد في لغاتهم مجموعات أدبية كثيرة عن روائع وغرائب شواهد القبور (epitaphs) يختار القراء منها ما يعتبرونه مناسبا لهم عند موتهم. ولم يسلم من هذه الأدبيات المقبرية حتى أصحاب المهن والحرف. عانوا كما عانى أكثرنا من زيارة طبيب الأسنان وما يفعله بأسناننا من حفر ودق ونشر وحشو. وهو ما عاناه بالضبط أحد الشعراء الإنجليز من مركب أسنانه الدكتور جون براون في عيادته المكلفة في هارلي ستريت. مات هذا أخيرا، وما إن سمع بموته الشاعر حتى تبرع بكتابة هذا الشاهد لقبره:
أيها الغريب سر رويدا رويدا نحو هذه البقعة
ففيها جون براون يحشو آخر حفرة في حياته!
ومشى هذا الظرف حتى تناول الحرفيين وأصحاب المهن والمصالح. اشتهر في زمانه الطباخ الفرنسي الكبير ألكسيس سوير، الذي اعتبره الخبراء في الأكل والقصف أعظم طباخ ظهر في أوروبا خلال القرن التاسع عشر. ما إن أذيع نبأ رحيله إلى الآخرة حتى تبارى الأدباء والشعراء في نعيه، فقال فيه أحدهم ممن هاموا بشوربته وحلوياته واستيكاته وشو توبريانه:
وا أسفاه! لقد رحل الطباخ سوير!
حقا! حقا! وبموته ماتت الطنجرة الفرنسية، حقا!
ويا أسفاه على فقدها!
1050 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع