تجاوزات التاريخ الأربعة

                                     

                          أرا دمبكجيان

كَتَبَ الدكتور هنري آستارجيان هذه المقالة و وافقَ مشكوراً أن أُترجمَها الى اللغة العربية و أنشرها في موقع "الگاردينيا" بعد أن ذكرتُ له أسم الموقع فأجاب أنه موقع محترم و هو يطّلَعَ عليه بين الحين و الآخر.
الدكتور هنري آستارجيان عراقي الأصل من مواليد كركوك سنة 1934 و تخرَّج من الكلية الطبية الملكية سنة 1958 . أكملَ دراستَهُ في أسكتلندا و أنكلترا و هاجر الى أمريكا في 1966 حيث ألتحق بجامعة UCLA .

تجاوزات التاريخ الأربعة

أحداثٌ أربعة رصًّعتِ الكرة الأرضية و الحضارات القائمة- أحداثٌ مختلفة، بعضها جيدة (مثل الديانات التوحيدية الثلاثة، على الرغم من أعتراض البعض بخصوصها)، و بعضها شريرة (مثل الطوفان العظيم الذي غَمَرَ اليابسة متجاوزاً القمم العالية، فجاءت الى الوجود جزر البحر الأبيض المتوسط مثل سانتوريني). أثَّرَت هذه الحوادث على البشرية التي خزنتها في ذاكرتها المتوارثة.
لم يتجاوز التاريخُ هذه الأحداث، بل تطّبَّعت فيه و ستبقى الى أن يُصبح الزمن بلا ذاكرة.
أثَّرت أربعة أحداثٍ متميِّزة في القرن الماضي على الأُمم و الدول، فأمتدَّ بها الزمن نحو الحاضر، و لهذا السبب أضحَت هدفاً للبحثِ و التدقيقِ المستمرين.
و بنظرة خاطفة على تلك الأحداث يتبيَّن أنها عديمة الديمومة أيضاً على الرغم من أنها تركت آثاراً في ذاكرة التاريخ، و الأخير في مرحلة تجاوزها في الوقت الذي نتطرَّقُ اليها الآن.
من الضرورة أن ننظرَ الى الخلف لتأكيد الماضي و توقُّع ِ المستقبل و أستقبالِه.
و لأجلِ ذلك يجب البدء من أنتهاء الحرب العالمية الأولى عندما كانت باريس في 1919 مركز أستقطاب الفعاليات السياسية. كانت جُثّة  الدولة العثمانية ("رجل أوروبا المريض") وُضِعَتْ على منضدةِ التشريح بحضور بريطانيا العظمى و الحلفاء المنتصرين في الحرب. بدأت و أكتمَلَت تقطيع أوصالِ الجُثّة حسب توصيات مارك سايكس البريطاني و جورج بيكو الفرنسي، و كان الأثنانُ من بيروقراطيي وزارتيهما الخارجية. و كانا باشرا بعمليهما قبل سنتين من ذلك التاريخ بإعطاءِ ما ليس لفرنسا الى فرنسا، و ما ليس لبريطانيا الى بريطانيا. و عليه وقَعت سوريا تحت الأنتداب الفرنسي، و فلسطين و بلاد ما بين النهرين و قبرص تحت الأنتداب البريطاني. أمّا لبنان التي كانت إدارياً ضمن سوريا، أصبحت كياناً منفصلاً تحت الأنتداب الفرنسي.
و في العاشر من آب 1920 وُقِّعَتْ على معاهدة في مدينة سيفر في فرنسا و دُعِيَتْ في حينِها "معاهدة السلام مع تركيا". شرعَنَت معاهدة سيفر أتفاقية سايكس- بيكو، إذ كان الدافع من المعاهدة تقسيم الأراضي الواقعة شرقي البحر الأبيض المتوسط ... و هكذا صارت.
جاء تقسيم الأراضي الجديد بمشاكل لم تكن في الحسبان، حيث رُسِمًتْ خطوط الحدود بين سوريا و العراق بشكلٍ تعسُّفي بأستعمالِ مسطرةٍ عادية الى خطوطٍ مستقيمة، فقُسِّمَت مثلاً عشيرة شمَّر بين سوريا و العراق.
و في الوقتِ نفسهِ وَقَعَ الملك فيصل الهاشمي، الذي تُوِّجَ ملكاً على سوريا، ضحية صراعِ القوة و الأرض بين بريطانيا و فرنسا، و بعد ستة أشهر خلعته فرنسا عن عرش سوريا. و بسبب أشتراك عائلتهِ (مع لورنس العرب) في الحرب الى جانب الحلفاء، كان على الأنكليز إيجادِ عرشٍ له. و بعد مفاوضاتٍ طويلة صاحبها ليَّ الأذرُع، وجدوا له عرشاً في كيانٍ جديد أوجَدوه بأسمِ العراق و التي كانت منطقةُ الموصل المختلَف  عليها، من ضمنِ أراضيه. و تُوِّجَ تحت أسم فيصل الأول ملك العراق. و أمّا أخوه الأمير عبد الله، الذي أصبح ملك الأردن بعد حين، تُوِّجَ في شرقِ الأردن عندما كانت أسرائيلُ في بدايةِ خَلْقِها تحقيقاً لأتفاقيةِ سايكس – بيكو و وعدِ بلفور. و نتيجة لأستحضاراتٍ بريطانية لاحقة، أصبح عبد الله بن الحسين الهاشمي ملكاً على الأردن التي أُسْتُقْطِعَت من فلسطين.
و أستمرَّت كلُّ هذه الفوضى الناتجة عن أتفاقية سايكس – بيكو لمدة قرنٍ تقريباً، و ما الحروب التي قامت و تُقامُ في شرق البحر الأبيض المتوسط، بشكلٍ أو بآخر، تَدُلُّ على تفكيكِ أوصالِ الكياناتِ التي مَنَعَت معاهدةُ سيفر من حدوثِها. و بكلمةٍ أخرى، هذا هو موت ترتيبات سايكس – بيكو.
تجاوزَ التاريخُ سايكس – بيكو...
-------------
نتجَ عن تفكيكِ أوصالِ الدولة العثمانية تفكيك نظامِ حكمِ الخلافة. كانت البلادُ العربية الأسلامية جزءاً غير مرغوبٍ بها في دولةِ الخلافة العثمانية، فأحَسَّت بالأستقلالِ عن الظلم الذي لحقها من نظامِ الحكم. لهذا السبب، شاركوا في الحرب ضد العثمانيين بمساعدة لورنس العرب.
تَمَخَّضتِ الأحداثُ في تركيا عن مجيء ضابطٍ تركي بأسم مصطفى كمال (أتاتورك)، فقادَ حملة عسكرية (تقولُ بعض المصادر إن القوى الأوروبية هي التي حرَّضَتْهُ و عاوَنَتْهُ) لتأسيس جمهوريةٍ عصرية و علمانية. و نجحَ في أحتلالِ ولاية بعد أخرى في حملة إعداماتٍ بالجملة، و قطع رقابَ الملالي، و أخضعَ الأقوامَ الموجودة في تركيا الى سلطته. و لا تستطيع الذاكرة أن تُمحيَ المجازر التي أقامها في درسيم (حالياً تونجيلي)، و إحراقه مدينة سميرنا (إزمير الحالية) مع سكانها من اليونانيين. و قد روى شهود العيان مآساة تلك المدينة، حيث كان سكانها يقفزون الى البحر بالآلآف تخلُّصاً من لهب الحرائق لئلا يحترقوا أحياءاً. كان هذا الحل أختيارهم الوحيد حيث حوصِرَت المدينةُ من الشرقِ و الشمالِ و الجنوب بقوات مصطفى كمال. لم يكن هناك أي أملٍ بالنجاة غير سفن البحرية البريطانية (الراسية في الميناء-آ.د.). حتى هؤلاء لم يمدوا يد العون لأن الوقت كان الرابعة عصراً و ضباطُ السفنِ يتناولون الشاي في ذلك الوقت المعتاد عليه، و يستمعون الى الفرقة الموسيقية و هي تعزفُ أعذب الألحان  على أجهزةِ الكمان. مات الآلآفُ من الرجالِ و النساءِ و الأطفال غرقاً في الوقت الذي كان بإمكانِ البحرية البريطانية إنقاذهم ... و لم تفعل.
ذاقَ الأكرادُ أيضاً من هول المجازر إذ لم تعتبرْهُم الدول العظمى من "الأقليات" ليوضَعوا ضمن بنود معاهدة لوزان 1923-1924 في مجال حماية الأقليات الأثنية في تركيا. جاءت المعاهدة الى الوجود نتيجة الخيال الأستعماري للورد جورج كيرزون البريطاني و عصمت إينويَنو الذي مَثَّلَ الجمهورية التركية المشكَّلة حديثاً من قِبلِ مصطفى كمال. و جاءت هذه الى الوجود لإلغاء معاهدة سيفر الموقَّعة في 10 آب 1920 (رأت الدول الأوروبية أن التحالف مع تركيا قوية أفضل من تقطيع أوصالها الى شعوب المنطقة من أرمن و أكراد بكياناتٍ ضعيفة...فوقّعت معاهدة لوزان... و ألغت معاهدة سيفر...- آ.د.)، و لم تعترفْ بالأكراد كأقلَية حالهم حال المسيحيين و اليهود الذين تمتعوا بالحماية الإجبارية حسب بنود معاهدة لوزان.
غَيَّرَ مصطفى كمال الحروف العربية، حتى كتابة القرآن بها، الى الحروف اللاتينية. سَنَّ قوانينَ ثورية، بعضها تجميلية، و أكثرها مثاراً للسخرية كان  shapka kanunu   أي قانون القبعات.، التي أجْبَرَتِ الناسَ على تبديل الطربوش التركي التقليدي بالقبعة الأوروبية  fedora  السائدة آنذاك و بالقبعة ذات الحافة الواقية للشمس.
أّسَّسَ مصطفى كمال نوعاً من الديمقراطية على مبدأ لكل شخصٍ صوتٌ أنتخابيٌ واحد  one-man, one-vote system ، و أسَّسَ أيضاً حزب الشعب الجُمهوري Cumhuriyet Halk Partisi-CHP  الذي سيطرَ على الحياة السياسية للدولة لنصف قرن. و كانت جريدة ulus  لسان الحزب الرسمي تنشرُ مبادئ الثورة التجديدية في الجُمهوريةِ الحديثة.
بعد عقدين من الزمنِ أو أكثر، و ضمن صراعٍ سياسيٍّ داخلي، نجحَ الحزبُ في الحكمِ على رئيسِ الجمهورية جلال بايار و رئيس الوزراء عدنان مندريس بالموت. لم يُنَفَّذ الحكمُ بالأول لكبرِهِ بالسن، أمّا الثاني فشُىنقَ علناُ. كان سببُ إدانتيهما هو الفساد. إضافة الى هذا أتُّهِمَ رئيسُ الوزراء عدنان مندريس على أن رجال الأمن وجدوا قطعة من ملابس داخلية نسائية في قاصتهِ الخاصة...
أصبحت جمهورية تركيا جزءاً من حلفِ بغداد الذي كان أتحاداً بين تركيا و العراق و إيران و باكستان، أما الولايات المتحدة الأمريكية فكانت تحضر بصفة مراقب. و كانت الأستراتيجية المتوخاة من الحلف أحتواء الحدود الجنوبية للأتحاد السوفييتي منعاً لإنتشار النفوذ الشيوعي جنوبا. و قد عُقِدَ الحلفُ بعد معاهدة بورتسموث في 1948 التي كان لها الأهداف ذاتها، و لكنها تحلَّلت وسقطَت بمدة قصيرة.
أنضَمَّتْ تركيا الى حلف شمال الأطلسي NATO  بعد أن وافقت الدول العظمى على أنضمامِها بسبب موقعها الجغرافي.
بإمكان تركيا الآن أن تُقَدِّمَ نفسها كدولةٍ ذات سيادة و علمانية و ديمقراطية.
ذات سيادة، كانت في السابق.
ديمقراطية، كانت في الماضي، لدرجةٍ ما.
و لكن علمانية، لم تكن.
أمتّدَّت ديمقراطيتُها الى نظام شخص واحد، صوت واحد في الأنتخابات، و لكنها كانت مقَصِّرة فيما يخص حقوق الأنسان و حقوق المرأة، و حق إبداء الرأي، و الحقوق المدنية كافة. واجه الصحفيون الأعتقال بِتُهَمَةِ إهانة ما هو تركي. و تَعَرَّضَ الى التُهَمَةِ نفسها الأدباءُ و الكُتّاب. حَمَلَت تركيا كلَّ هذه الوقاحاتِ و تجرَّأت الى تقديمِ طلب الأنضمام الى الأتحاد الأوروبي. و تستمر كل هذه الى يومنا هذا.
غَيَّرَ "قانون القبعات" ما على رأسِ الأتراك، و لكنه لم يتمكّن من تغييرِ ما في داخل الرؤوس...أي طريقة التفكير.
نَتَجَ عن الزمنِ و الأحداثِ و التعصُّبِ الديني أخيراً الحالةُ السياسيةُ الحالية التي تسعى الى تأسيسِ خلافةٍ أسلامية معاصرة يدفعها تأجيج سياسي للأغلبية التركية في البلد.
ليس على رئيسِ الجمهوريةِ رجب طيّب أردوغان أن يبذلَ قصارى جهدِهِ لتحقيقِ مأربه، فالأتراك جاهزون و مستعدّون لذلك.
ترأّسَ الرئيسُ السابق عبد الله غول حزب "العدالة و التنمية" الجديد. و تبعهُ سياسيٌّ أكثر فطنة، رجب طيّب أردوغان، رئيس وزرائِهِ السابق و رئيس الجُمهورية الحالي، الذي أُنتُخِبَ بأنتخاباتٍ شفافية سيطر عليها بأغلبية ساحقة جاءت بشخصٍ حُلمُهُ إحياء الخلافة العثمانية، و عكست تلك الأنتخاباتُ عقليةَ و نفسيّةَ المواطن المُنْتَخِب.
أنتهجَ أردوغان سياسة َدفْنِ الكمالية و تأسيس خلافة على النمط العثماني. و قد دعا مؤخّراً رؤوساءَ و ملوكَ العالم، مع رئيس جمهورية أرمينيا، لحضورِ الأحتفالاتِ المنوي إقامتها لإحياءِ ذكرى أنتصارِ العثمانيين على بريطانيا في معركة كاليبولي (جاناك كاليه – جنّة قلعة) في 24 نيسان 2015، و هو اليوم الذي يتذكّره الأرمن في إحياءِ ذكرى الإبادة الجماعية التي أرتكَبَتْهُ تركيا العثمانية قبل 100 سنة. و هذا العمل هو أكثر من دليل على رغبَتِهِ في التقدُّم نحو خلافة عثمانية هو على رأسِها.
لقد نجحَ في مسعاه...فقد ماتت الكمالية و تجاوزها التاريخ.
في الوقتِ الذي يجري كل هذا في تركيا، أستجَدَّت أحداثٌ تُقلِقُ أمنَ المنطقة، و على رأسِها ما دُعيَ بالربيع العربي، الذي أبتدأ في تونس عندما أقْدَمَ مواطنٌ عادي من الباعة المتجوّلين على حرقِ نفسِه حيّاً أحتجاجاً على فسادِ الحُكمِ في تونس و تجاوزاتِه على الشعب. أشْعَلَت هذه الحادثةُ ناراً غير مسيطرٍ عليها في الدول العربية القابلة للأشتعال. نتجَت عن تلك الشرارة حرائقٌ في ليبيا و مصرَ و سوريا و اليمن. كان العراقُ في موقفٍ متأزِّمٍ بعد إنتهاء حكم صدام حسين في 2003. و خرّجَ من تحتِ الرماد العداء السُنّي-الشيعي، فالصراع المسلَّحِ بينهما. لم تتمكن الطائفتانِ من السيطرة على خلافاتِهِما من ألفيَّةٍ و نصف الماضية، و الحرب القائمةُ بينهما هي حربٌ بالنيابة. تبحَثُ إيران دائماً عن مصالِحِها الجيو-سياسية في الدولِ العربية من خلالِ التجمُّعاتِ الشيعية في لبنان و سوريا، و العراق بصورةٍ خاصة. أمّا العربيةُ السعودية فتقومُ بتمويل سُنَّة المنطقة.
قّدَّمَ أردوغان نفسَهُ كبطلٍ في الدولِ العربية و كمغامرٍ دائمي و خليفةٍ كارهٍ للحقوقِ المدنية عندما أتَّخَذَ موقفاً مُدافِعاً لفلسطين. أتَّهمَ أسرائيلَ بقتلِ المدنيينَ في غزّة و معاملتها غير الأنسانية للفلسطينيين، في الوقتِ الذي ينكرُ الإبادةَ الجماعية للأرمنِ من قِبَلِ أسلافِهِ. و قّدَّمَ دعماً غير مشروط للأخوان المسلمين في مصر و رئيسِها السابق محمد مرسي، فأنتَقَمَتِ الأدارةُ الجديدة لمصر بتقديمِها قضية الإبادة الجماعية الأرمنية كدليلٍ على إجرامِ تركيا و معاملتِها اللاأنسانية للأقلياتِ في البلد.
أنسَخَبَ أردوغان من مؤتمَرِ دافوس في 2009 محتَجّاً على عدمِ منحِهِ الوقت الكافي للكلام في المؤتمر عكس نظيره ممثّل أسرائيل (ففرِحَ العرب و الفلسطينيون على أن أنسحابَه كان بسبب وجود رئيس دولة أسرائيل – آ.د.). و في محاولةٍ منه أستفزاز أسرائيل بكسرِهِ الحصارَ المفروضِ على غزّة، أرسلَ سفينة مافي مرمرة مُحَمَّلة بشحنةِ بضاعةٍ مجهولةِ الهُوية حيثُ تصّدَّتها البحرية الأسرائيلية  و كانت النتيجةُ مقتلَ تسعة من البحارة الأتراك.
عندما ننظرُ الى العالمِ العربيِّ الآن، نرى أن الربيعَ العربيَّ قد مات، و تجاوزه التاريخ.
--------
لديَّ لوحةٌ مؤطّرة و معلَّقة في مكتبتي تتضمَّنُ صفحة كاملة لمقابلة صحفية أجراها صحفيٌّ لجريدة  Ozgur Politica  بتاريخ 30 نيسان 1996 وضع لها عنواناً  "القضية الأرمنية و الكردية ذات علاقة متبادلة". كانت تلك المقابلة صدى للخطابِ الذي ألقيتُهُ في البرلمان الكردي في المنفى في مدينة بروكسيل. أَكَّدْتُ فيه عن حقوقنا في أرمينيا الغربية حسب البنود في القسم VI من المواد 88-93 من معاهدة سيفر و أستناداً الى الخارطة الني رَسَمَها الرئيس الأمريكي وودرو ويلسن.
كان الخطاب ذا توقيت مناسب بسبب الفعاليات السياسية التي كانت تجري خلف الكواليس من قِبَل ألمانيا و الرئيس التركي توركوت أوزال و البروفيسور دوغو إركيل لتشكيلِ نوعٍ من الحكمِ الذاتي للأكراد ضمن حدود تركيا، أي ضم أرمينيا الغربية – الولايات الأرمنية الست حسب معاهدة سيفر- الى المقاطعاتِ الكردية المقترَحَة.
كان هذا العمل غير ممكن، و أنا كنتُ هناك لأقولها صراحة.
تحوَّلَت القضيةُ الكردية الى صراعٍ للتحرير عن طريقِ العملياتِ العسكرية في 1984 بقيادة عبد الله أوجالان. كان حزبُهُ ذا التوجُّه الماركسي يدعى حزب العمال الكردستاني PKK .
أستهلَكَتِ الحربُ 35,000 ضحية من الجانبين، و خَلَقَت لتركيا موقف عدم أستقرار و توازن كدولة و لنظامِها الشوفيني ذي التوجُّه التركي على حساب الأقليات الأثنية في الدولة، بعد أن أنكَرَ مصطفى كمال و جمهوريتُهُ الجديدة الهُويةَ الوطنية للأكراد و عَرَّفَهُم تحت أسم "أتراك الجبل".
بدأ الكفاح الكردي من أجل حكمٍ ذاتي في أواسطِ القرن التاسع عشر بقيادة الأمير بدرخان الذي أعلنَ الحربَ على الخلافة العثمانية المركزية بتجنيدِ 40,000 من الأرمن و الأكراد. لكن حركتَه فشلت. سَحَقَتِ الحكومةُ محاولاتٍ أخرى متعاقِبة قام بها عددٌ من الشيوخِ و رؤوساء القبائل مثل الشيخ سعيد و الشيخ عبيد الله. و في العقودِ الأولى من القرنِ العشرين أرتكبَ مصطفى كمال أتاتورك جريمة إبادةٍ جماعية ضد الأكراد، خاصةً سكان درسيم، إذ أختطَفَ الأطفالَ من صدورِ أمّهاتهم و أودعهم في أماكن بعيدة ليشبُّوا أتراكاً. و أصْدَرَ قانوناً تُجْرِمُ التحدُّث، و حتى الغناء، باللغة الكردية، و منع الأحتفال بعيد نوروز.
في أثناءِ حملَةِ أتاتورك ضدَّ الأكراد دَمَّرَ ثلاثة آلآف قرية كردية و رَحَّلَ ثلاثة ملايين من الأكراد من ديارِهِم و أصبحوا لاجئينَ في مدنٍ من الأكواخ حول أسطنبول.
بعد أن خّسرَت الحكومةُ في ساحة القتال، نَقَلَت تركيا الحربَ الى القرى الكردية و التجمُّعات السكانية المختلفة، في الوقت الذي شَكَّلَت "حرسُ القرى" Korucu  من القبائل الكردية المخلِصة للدولة لمعاملة أقرانِهِم من الأكراد بطرقٍ حيوانية. قَتَلوا و أغتصبوا بوحشية الرجالَ و النساءَ و الأطفال. و في حادثةٍ معروفة أختطفوا عروسةً يوم عرسها و أجبروها على التعرّي ثم أغتصبوها أمام أنظار أهلها و القرويين.
بعد أن فشَلَ نظامُ أردوغان في إلحاقِ الهزيمة ب PKK ، أنتدَبَ سياسة "Verkurtul"، أي (أدفع و كُن حُرّاً). فاوضوا أوجالان بعد أن قُبِضَ عليه في كينيا و سُجِنَ في جزيرةِ إمرالي. و في العام الماضي، وافقَتْ الحكومة التركية على القيامِ باحتفالاتِ نَوروز و أعطوا الأكرادَ محطّةً إذاعية، و كذلك سَمَحَت تشكيل حزبٍ سياسي بصورة قانونية بأسم  Halkin Democratic Partisi (HDP)  أي، حزبُ الشعب الديمقراطي الذي إفتتحَ مكاتبَ له في واشنطن. و رَشَّحَ رئيس الحزب صلاح الدين ديميرتاش نفسَه لأنتخاباتِ الرئاسة ضدّ أردوغان. حصلَ على 10 بالمائة من الأصوات فقط، إذ لم يُدْلِ الأكرادُ بأصواتِهِم لصالحِهِ ففاز أردوغان بمساعدة السياسي الكردي مسعود برزاني الذي شاركَه منصَّة الخطابة في ديار بكر.
و أخيراً، قام عبد الله أوجالان بالإشادةِ بالمشاركةِ الكردية في معركة كاليبولي كدليلٍ على الإخلاص الكردي لتلك الحكومة التي جَلَبَتْ الى شعبِهِ الموتَ و الدمار.
و أعتماداً على المُعْطياتِ كافة...من الواضحِ أن الثورةَ الكردية قد ماتت، و من الممكن أن نقول أنّها أستُبْدِلَتْ بعملية تطوُّر. و هذا هو التجاوز الرابعِ للتاريخ في القرنِ الماضي.
هل القضيّتان الأرمنية و الكردية مرتبطتانِ مع بعض؟
المستقبلُ وحده سيُجيب عن هذا السؤال...

الدكتور هنري أستارجيان
ترجمة: آرا دمبكجيان


  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1119 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع