د . هالة مصطفى
لاشك ان الجهد الدبلوماسى الملحوظ الذى قامت به السعودية لعقد اتفاق الرياض بشقه التكميلى،الذى وُقع مؤخرا مع قطر يصب فى مصلحة الاستقرار الاقليمى ككل وليس فقط منطقة الخليج.
صحيح أن جوهر الاتفاق يتعلق بالعلاقات البينية للدول الخليجية وبتعهد كل دولة منها بعدم التدخل فى الشئون الداخلية لدولة أو دول أخرى هناك، إلا ان حضور القضية المصرية وموقف قطر مما يحدث فى الداخل المصرى يجعل من هذا الاتفاق شاملا يتجاوز مجلس التعاون الخليجى ويُكسبه أهمية خاصة ومن هنا كان ترحيب مصر به.
ومن المفترض أن يضع اتفاق الرياض نهاية لعوامل التوتر التى اعترت تلك العلاقات بسبب السياسات القطرية التى اتخذت نهجا مغايرا لجاراتها الاقليمية وفى مقدمتها السعودية طوال السنوات الماضية ، فكانت أشبه بمن يغرد خارج السرب.
فتاريخياً كانت هذه الخلافات تتمحور حول ترسيم الحدود, ومنذ منتصف التسعينيات من القرن الماضى بدأت تلك الخلافات تأخذ طابعا سياسيا واضحا وتحديدا بعد تولى الشيخ حمد بن خليفة الحكم خلفا لوالده الذى تم عزله وانتهاجه لسياسات اعتبرت صدامية على المستوى الاقليمى وهو ما بدا فى علاقته بأكبر قوتين اقليميتين (السعودية ومصر) اللتين ربطهما تحالف وثيق منذ منتصف السبعينيات .
ومن هنا بدأت «الحروب الاعلامية» من خلال قناة الجزيرة التى تزامن إنشاؤها (1996) مع هذا التغييرفى الحكم ما أدى الى كثير من الأزمات الدبلوماسية التى كان يتم إحتواؤها إلى أن تفاقمت الأمور بعد حقبة الربيع العربى وسحبت كل من السعودية والبحرين والامارات سفراءها من قطر فى 2014 حتى عودتهم أخيرا اليها بعد اتفاق الرياض، وقيام قطر من جانبها بابعاد عدد من قيادات الاخوان بها.
وبالعودة إلى طبيعة التغيير الذى اعترى السياسة القطرية بعد تولى الشيخ حمد للحكم فيمكن إيجازه فى محورين أساسيين، الأول، أن تكون للدوحة سياسة خارجية مستقلة عن مجلس التعاون الخليجى، والآخر أن يكون لها دوراقليمى مؤثر يعطيها وضعا متميزا فى الاستراتيجية العالمية للدول الكبرى فى المنطقة خاصة الولايات المتحدة، أى تحقيق المعادلة الصعبة التى تجمع بين صغر حجم الدولة مساحة وسكانا من ناحية، وطموح الدور المستند إلى الثراء والموقع، فضلا عن شبكة العلاقات الواسعة التى تربطها بالحركات السياسية الاسلامية التى شكلت قوى المعارضة الرئيسية فى بلادها، من ناحية اخرى. ومن هنا كان نجاحها فى القيام بدور «الوساطة» فى بعض النزاعات الاقليمية (فى لبنان و السودان و اليمن).
إن ما أعطى لهذا الدور دَفعة سياسية مهمة هو ارتباطه بالتغيير الذى عرفته الاستراتيجية الأمريكية بتزايد اعتمادها على الدول الاقليمية الأصغر وتوظيفها فى طرح المبادرات أو الوساطة (مثلما حدث فى توسط قطر بين القوات الأمريكية وحركة طالبان أفغانستان فيما يتعلق بالافراج عن الرهائن الأمريكيين الذين احتجزتهم الأخيرة) وكذلك فى تقديم الدعم اللوجستى خاصة فى فترات الحروب، حيث أقيمت فيها أكبر قاعدة للقوات الجوية الأمريكية بعد غزو أمريكا للعراق هى قاعدة «العديد»، وهى أيضا أكبر مشتر للأسلحة الأمريكية.
إن كل ذلك يقودنا للحديث عن حقبة الربيع العربى التى شكلت الرهان الأكبر لقطر لتدعيم سياستها وإعادة تشكيل توازن القوى الاقليمى، فدعمها للثورات العربية كان يعنى ببساطة مساندتها للأنظمة الناشئة البديلة، سعيا لأن يكون لها حلفاء أو شركاء اقليميون جدد بعيدا عن الدوائر أو التحالفات الاقليمية القديمة والمستقرة، مما يوفر لها نوعا من القيادة المستقلة عن الدول الخليجية الأخرى خاصة السعودية لما لها من ثقل خاص. فى هذا السياق جاء دعمها للاخوان ماليا وسياسيا واعلاميا الذين سعوا بدورهم للسيطرة على المشهد السياسى فى أعقاب تلك الثورات (تونس، مصر، ليبيا، اليمن) .
واستفادت قطر من علاقتها التاريخية بجماعة الاخوان المسلمين التى تعود الى منتصف الخمسينيات عندما هاجر كثير من قياداتها وكوادرها (كان من ضمنهم الشيخ يوسف القرضاوى) إلى دول الخليج إثر صدامهم مع النظام المصرى بعد محاولة الاغتيال الفاشلة التى قاموا بها ضد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وكانت قطر بالطبع من ضمن تلك الدول (التى أسسوا فى جميعها أفرعا للجماعة بها) ونجحوا على مدى عقدين من الزمان من الستينيات إلى الثمانينيات فى التغلغل فكريا ومؤسسيا فى المجتمع والدولة القطرية.
بعبارة أخرى شكًل الاخوان المسلمون فى قطر ركيزة أيديولوجية رئيسية للدولة سعت لأن تكون بديلا ولو نسبيا عن «الوهابية السلفية» السائدة فى منطقة الخليج، تقوى من قدرتها على الاستقلالية و المنافسة فى محيطها الجغرافى أولا ثم فى باقى الاقليم لاحقا وهو ما أضحى مصدرا من مصادر القوة الجديدة لها. لا شك أن أحداث 11 سبتمبر فى الولايات المتحدة (2001) وسعيها للبحث عن بديل سياسى اسلامى للجماعات المتطرفة توافق مع المساعى القطرية نفسها، ليصبح الاخوان هم القوى «المعتدلة» من وجهة النظر هذه التى يمكن دعمها وتمكينها من خلال الاجراءات الديمقراطية لاحتواء تلك الجماعات . وجاء تفعيل هذه الاستراتيجية مع إدارة اوباما التى تحمست لها بأكثر من سابقاتها. وعندما وصل الاخوان إلى الحكم فى مصراصبحت قطر - من خلال علاقتها بهم - دولة شبه مركزية فيما يتعلق بنفوذها السياسى والاستراتيجى فى المنطقة، على خلاف توازن القوى الاقليمى الذى ساد منذ الثمانينيات، الا أن ثورة 30 يونيو التى أنهت حكم الاخوان فى مصر قد أحدثت شرخا كبيرا فى تلك الاستراتيجية وأعادت العلاقات بين القاهرة والرياض الى سابق عهدها، وبالتالى بدأ توازن القوى يعود تدريجيا الى ما كان عليه فحدث التراجع القطرى بحكم هذا الواقع الجديد .
أن تغيير السياسات القطرية ليس أمرا سهلا يمكن توقعه سريعا، لأنه يتطلب من الدولة إعادة تعريفها لدورها الاقليمى ومراجعة تحالفاتها، والأهم تحديد موقعها فى الاستراتيجية الدولية . فهل ننتظرمن قطر سياسات جديدة أم ستظل سياستها متأرجحة بين القديم المعروف والجديد الذى لم تتضح معالمه بعد ؟ !
1196 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع