الصراع والتطرف الفكري

                                              

                         جابر رسول الجابري

مقدمة :

باديء ذي بدء لابد لنا من أن نتطرق لتعريف معنى كلمتي الصراع والتطرف ليتسنى لنا أن نلج في مسارهما ونشأة وسلوك كل منهما,

كلمة صراع تعني إستخدام القوة للإطاحة بطرف آخر وسواء كانت تلك القوة فكرية أم عضلية فهي وسيلة ذلك الصراع , أما لغويا ( صرعه أي أطاح به ) والحديث يقول ...ليس الشديد بالصرعه أي لا تكمن قوة الانسان في الاطاحة بآخر , والصراع الفكري عبارة عن نزعة غريزية عند الإنسان تخرج عن سيطرة وأداء العقل , ويعتبر الصراع الفكري وسيلة أو مطية للتطرف الفكري حيث لا وجود لصراع فكري بدون وجود تطرف فكري ,

أما التطرف فهو يعني ( الغلو ) وكما هو الحال في وصف غلو اليد أو غلو الأرجل فإن المعنى واحد ألا وهو قصر الشيء وإنقباضه وإنحسار قدرته (غلت أيديكم أي إنقبضت وإنحسرت قدرتها ) , ويحدث الغل الفكري عادة عند عجز العقل البشري عن إدراك كنه حقيقة أمر ما والجهل بمعرفة تأويله وذلك بسبب إعتماد العقل على المعرفة المعلوماتية المتمترسة في محرابه فقط وإنحسار قابليته عن الادراك الخارجي أي ما يطلق عليه بالظن في استنباط حقيقة الشيء أو ما يسمى بقصر النظر في الرؤية العقلية , وهي أيضا نزعة غريزية نسبية عند الانسان أي غير متساوية تتأرجح نسبتها حتى عند الفرد الواحد ولأنها ناتجة عن تأرجح نسبة حب الذات الإنسانية ( الأنا ) وبسبب رضوخالعقل وميوله لسيطرة نزغات النفس لتحقيق رغباتها , ان الفكر التسلطي أو الديكتاتورية ما هو الا مرآة عاكسة لسلوك يعبر عن وجود غلو فكري عند الإنسان .


نشأة التطرف والصراع:

حياة الانسان ومنذ النشوء حافلة بالصراعات غير أننا نجد أن أقدم وأهم تلك الصراعات هي نوعين : الاول صراع فكري والذي ينضوي تحته مسمى الصراعات الدينية أو مسمى التنظيرات الفلسفية  والثاني هو صراع قومي عرقي والذي ينضوي تحته مسمى الصراعات الاقتصادية أو صراع الوجود , وسواء كان ذلك الصراع فكريا أم صراعا قوميا عرقيا فإن محرك ومولد ذلك الصراع هو الغلو الفكري (الظن) , الصراع القومي العرقي هو أول وأقدم تلك الصراعات (حسب ما تم توثيقه في روايات الكتب السماوية) نشب عندما قرر الرب ان يكون للانسان وجودا ثم جعله كيانا منافسا لبقية المخلوقات ( اني جاعل في الارض خليفة ) فاعترضت الملائكة على ذلك القرار ظنا منها بأنها هي الأولى إستحقاقا لهذه المكانة وذلك لوجود إستنتاج منطقي بأنهم الاكثر طاعة والاكثرعبادة وأيضا بسبب (الظن) بان الإنسان سيكون عاصيا ودمويا , الا ان ذلك الصراع سرعان ما كبا بعد إدراكهم بأن إستنتاجهم كان قاصرا لأن الحقيقة تختلف عن ذلك حيث أن الله يعلم وهم لا يعلمون , ثم إندلعت شرارة صراع قومي آخر بإعتراض إبليس على تفضيل كيان الإنسان وأيضا بسبب الظن وإعتقاد إبليس بأنه الافضل خلقا , أما أقدم وأول صراع سجله التأريخ بين بني الانسان نفسه فهو الصراع الديني الذي حدث بين قابيل وهابيل لتنافسهما على إرضاء الله فتقبل من أحدهما مما أثار غيض الآخر ولو أن الآخر آب الى الله لتقبل منه أيضا لكنه تصور وظن ان التخلص من الاول سيتيح له المجال بأن يفوز برضا الرب في حين أنه خسر التنافس بسبب الظن والاستنتاج الخاطيئ وهذا ينطبق تماما على الصراعات الدينية والقومية والعرقية في عصرنا الحالي سواء الصراعات المذهبية أو الصراعات الدينية أو الصراعات القومية والعرقية لأن كلا المتصارعان يعانيان من الغل الفكري والعجز عن ادراك الحقيقة . وللإطلاع فان هناك أديان متعددة في الوجود الانساني وهي كالتالي :

الاول : الاديان السماوية التوحيدية : ابرزها اليهودية والمسيحية والاسلام والصابئية والايزيدية والدرزية والبهائية وكلها تؤمن بوجود خالق وإله واحد وان هناك حياة اخرى ويوم قيامة وحساب وان هناك ملائكة ورسل وانبياء ....الخ لكنها تختلف في الرؤية والسلوك للوصول الى الهدف .

الثاني : الاديان متعددة الآلهة والروحانية ومنها الهندوسية والسيخية والبوذية والجاينية كل تلك تؤمن بتعدد وجود الارباب والآلهة وان لكل واحد منهم واجب وقدرة محددة .

ثالثا : الديانات الفلسفية التي تعتمد على التنظير الفكري للإنسان  وابرزها الكونفوشية والزرادشتية والطاوية والشنتو واليافالي .

رابعا : الديانات الوثنية والبدائية التقليدية وهي التي تستخدم شواهد ملموسة تستخدمها كوسيلة للتواصل مع الرب الواحد أو عدة آلهة أوأنها قد تستخدم تلك الشواهد الملموسة كصورة تشبيهية لنفس الرب وقد انقرضت غالبية تلك الاديان الا من بعض يتواجد في مجتمعات فقيرة ومتخلفة كما في اجزاء من افريقيا وامريكا الجنوبية .

ان كل تلك الاديان تشترك بهدف واحد الا وهو تقويم سلوك الانسان في خلال حياته وتنظم علاقته بالآخرين  ودفعه لإنتهاج العمل الصالح وذلك من خلال السيطرة على موجه السلوك الانساني الا وهو العقل البشري ( ملاحظة أن القرآن الحكيم يذكر طلب أهل النار وهم أهل خبرة وتجربة في الحساب لمعرفة مواطن الايجابية والسلبية في الحساب الرباني فيتوسلون به ( ربنا أبصرنا وسمعنا فإرجعنا نعمل صالحا ...سورة السجدة12) أي لاوجود لطائفة او عرق ينفع للجزاء أو كيفية العبادة بل وجود العمل الصالح .

ان من اهم اسباب وموجبات وجود الصراع الفكري والديني هو وجود طرف آخر منافس يملك أيضا وسيلة اقناع فكريه مسندة بثوابت وبراهين منطقية  يتم من خلالها جذب العقل البشري للانخراط في منهجيته ولذلك لا يولد صراع عند الاديان ذات الحجة والبراهين العقلية الضعيفة اتجاه الاقوى بل هي تتقوقع وتعتزل محيطها الخارجي مسارا وسلوكا  وفكرا ومنهجا للحفاظ على وجودها ,

وبما ان فكر الانسان متطور عقليا فانه يرتقي كلما اكتسب جيلا جديدا بكم من المعرفية والخبرات المكتسبة والمنقولة مما يدفع ذلك العقل المنقاد الى إستنباط وإستكشاف طرق ومسارات اكثر خبرة ودقة وتعقيدا مما يؤدي الى عجز العقل البشري عن إدراك كم هائل من المعلومات فيقتصر على الجزئية التي يميل اليها عقله فعندها يحدث الإختلاف في الرؤية مما قد يؤدي الى تغيير المنهج الفكري حتى عن العقيدة الأم أو بقاءه في إطار ومسار منهج العقيدة الأم الا انه يشذ عنها سلوكا, وقد تتعدد وتتنوع تلك الاختلافات الاستنتاجية والرؤى في العقيدة الفكرية الواحدة فتنشق كل منها الى عدة عقائد فتذهب الى تفسير حسب ظنها وتسمى تلك الفرق الفكرية بالمذاهب اي ماذهب اليه الاعتقاد في استنتاج  المسار العقيدي لسلوك الانسان في نقطة فكرية معينة ناهيك عن أن كل تلك المذاهب تبقى مشتركة في مشتركات اصولية ومنهجية واحدة لكنها تختلف في نمط السلوك ومساره , وهذا لا يحدث فقط في عقيدة الأديان السماوية بل يشمل كل الأديان التي لديها قوة وقابلية على البقاء في الوجود , لم تكتفي تلك المذاهب بالإعتزال عن المسار الام التي كانت مجمعة عليه بل راح كل طرف يصارع طرفه الآخر أيضا وكل منها يظن بأنه هو الاصل والاخر قد إنفصل عنه في حين انهم كلهم نحوا عن مسارهم القديم والمشترك واصبح كل منهم له نهجه وسلوكه رغم إرتباطهم جميعا بنفس اصول وجذور العقيدة الاصلية , حدث هذا لكل الاديان المذكورة آنفا وخاصة منها السماوية كاليهودية والمسيحية والاسلام , بل ازداد الصراع وتطور الى صراع مزدوج باتجاهين الاول صراع  باتجاه مذهبي والثاني باتجاه العقائد الدينية الاخرى وهذا ناتج عن تطرف الفكر البشري وعجزه .

ملخص :

كل الاديان هدفها واحد الا وهو احقاق الحق والمساوات بين بني البشر والرحمة وكل الصفات والسلوكيات الانسانية الجميلة وذم الظلم والعنف والباطل وكل السلوكيات الشهوانية والغريزية المنبوذه هذا من جهة ومن جهة اخرى كلها تدعوا للخضوع لارادة الرب والامتثال لاوامره وخاصة منها الاديان السماوية التي تتضح الاهداف فيها بعبادة الرب والانقياد لاوامره للحصول على الجزاء في اليوم الآخر اي في حياة ما بعد الموت , لهذا لا نجد مسوغا وسببا منطقيا وعقليا لكل تلك الصراعات لانها كلها تؤمن أن الحساب والجزاء هو امر منوط بالخالق في يوم القيامة وان اي منهم لا يحاسب او يجزى الا عن سلوكه فقط  وليس عن سلوك ومسار الآخرين فكل إنسان منوط بعمله وسلوكه , والسؤال الملح هنا اذن لماذا الصراع ؟.


بيرمنجهام - المملكة المتحدة - السابع عشر من كانون الاول2014
  

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1264 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع