محمود سعيد
الواسطي فنان عظيم، لا نعرف عن حياته الشّيء الكثير لكننا نعرف اسمه يحيى بن محمود الواسطي، ولا نعرف متى ولد؟ ولا نعرف أيضاً أين نشأ.
أهم ما نعرفه أنه توفي في بغداد سنة 1237م، لكن لقبه الواسطي يدل على أنه ربما ولد في واسط، القريبة إلى الكوت الآن، والتي لا تبعد عن بغداد سوى بضعة ومئة كيلومتر. وكان لقب المدينة آنذاك يطلق على من ولد في مدينة معينة، أو من نشأ فيها، أو درس فيها، لكن رسوماته تصور الحياة البغداديةّ أفضل تمثيل.
إننا في الوقت الحاضر نعيش حالة هستيريةّ ظلاميةّ منذ 2003 وحتى الآن، فكثيراً ما هوجمت المرأة في هذا الوقت الشّاذ، واعتدي عليها، وانتقص من حريتها، بشتى الأعذار، فهي تارة متبرجة، وأخرى ناشز، وثالثة مستهترة، ورابعة خارجة عن التقاليد، وحجج أخرى ما أنزل الله ولا القانون ولا العرف بها من سلطان أو تعاليم أو خلق. مجتمعنا العربي من الأندلس حتى العراق، عاش بشكل عام والعراقي البغدادي بخاصة سبعة قرون متفتحاً، مسالماً، متعدداً، يسوده الإخاء والوئام بشكل لا نحلم به الآن.
ما يتسير لنا أن نرى واقع ذلك المجتمع المتآخي المتفتح على حقيقته إلّا بعد أن ننظر ونتمعن بعشرات الصور التي أنجزها فنانا العظيم الواسطي الذي عاش قبل نحو ألف عام.
رسم الواسطي أكثر من مئة لوحة كانت الأفضل في زمانها في أي مكان وزمان. ربما كان هناك رسامون وفنانون عظماء في زمانه، لكنهم قضوا معظم حياتهم في بلاط الحكام وقصور الأغنياء، فصورا جمال الملكات والأميرات والثريات الفاتن المعجز، لكنهم قلّما نظروا إلى المجتمع وصوروه على حقيقته كما فعل الواسطي، حتى جاء عصر النهضة وظهر إلى الوجود النظريات الشمولية من اشتراكية وشيوعية وازدهرت الفلسفات الإجتماعية في شتى أنحاء أوربا وسادت بعدئذ العالم كله، حينئذ جرى التركيز على ابناء المجتمع بغض النظر عن مكانتهم الشخصية، ومركزهم الاجتماعي، وكفاحهم في الحياة، ونضالهم لتحسين أوضاعهم الأجتماعية.
لهذا كان الواسطي في نظري رائداً للفن الذي يهتم بالناس، أي الفن الملتزم. صور فناننا العظيم المجتمع البغدادي خير تمثيل. فقد رسم ببراعة لوحات فريدة توضح ماذهب إليه الحريري في مقاماته، وكان الحريري قد سار على نهج الهمداني، الذي كان أول من ابتدع القصة القصيرة الفنية في التاريخ، القصة التي ابتعدت في مضامينها عن الأدب العالمي المعاصر له، إذ اهتمت بالناس والمجتمع بشتى طبقاته وشرائحه، فهناك الأمير والثري والجندي والفقير والمستجدي والتاجر، والمصلي وشارب الخمر، والراقصة والمتدينة. لم يحصر الهمداني والحريري ومئات كتاب المقامات "القصة القصيرة" أدبهم، وإبداعهم بفئة معينة قط، كان الشعب كله أبطالهم، كالأدب الحديث، ثم جاء الواسطي ليصور هذا الشعب والمجتمع.
ولعل الواسطي كان أول فنان عظيم عرض لوحاته في الجامعات والمراكز الأدبية والفنية فاقتناها حشد كبير من الناس منهم أمراء وملوك وأثرياء وعامة الناس، ليسوا من العراق وحده بل من جميع أقطار العالمين العربي والإسلامي، من الأندلس حتى الهند.
ليست هذه الأسطر القليلة دراسة أو شعاع ضوء على فن الواسطي، لم يدر بخلدي هذا، لكني أردت فقط أن أذكر بعض اللمحات المبتسرة عن مجتمع بغداد، آنذاك، وأخاله أيضاً مجتمع كل المدن الواقعة تحت نفوذ الدولة العباسية، فالحضارة تنتقل وتنتشر كما ينتشر الهواء في كل مكان، وعندما أقول بغداد فأعني لا بغداد حسب، بل دمشق وحلب وبيروت والقدس والقاهرة إلى قرطبة.
إن نظرنا إلى هذه الصّورة بتمعن فسنرى أشياء كثيرة تفصح عن طبيعة المجتمع المدني العربي والبغدادي وتكشف مدى الحريةّ التي نفتقدها الآن، حرية كان ذاك المجتمع يمنحها للمرأة، طيلة سبعة قرون انتهت قبل تسعمئة سنة:
المرأة في هذه اللوحة تتمتع "كما أسلفت" بحريةّ حضاريةّ محجوبة عنها الآن مع الأسف، في هذا المنظر اجتماع في مسجد لسماع خطبة، تجلس النّساء في الطّابق العلوي، والخطيب والرّجال في الطّابق التحتي، ويبدو من الرّسم ما يأتي:
1- إن بعض هاتيك النّسوة لا يغطين أوجههن حتى في أوقات الصّلاة كما يفرض بعض المسلمين الآن وفقاً لمذاهبهم المتعصبة.
2- إن خمار بعضهن لا يغطي الوجه كله بل العينين فقط.
3- إن النّساء اللواتي اخترن الخمار لم يخترنه سميكاً ليحجب جمالهن، وواقع بشرتهن بل هو شفاف بحيث يبدو ما تحته واضحاً، أي أن الخمار يستعمل ليس لستر الوجه بل للزينة في الأغلب، فالعيون واضحة بما يكفي لإبراز جمالها وفتنتها.
4- إنهن متزوقات كلهن، يستعملن "المكياج" بشكل عام، فجميعهن يضعن أحمر الشّفاه، ويتكحلن، ويبدين زنتهن لكن بشكل محتشم لا غبار عليه، تحسدهن عليه فتيات اليوم وغاداته.
5- إن ستا من سبع نساء يبدين شيئاً من شعور رؤوسهن، وهذا يعني حريةّ لا يتمتع بها نسوة العراق الآن تحت نفوذ عمامات النّفاق والشّر والجهل والتعصب والظّلام السّوداء والبيضاء.
5- إن ملابسهن وطرازها فائق الجمال، متناسق الألوان، آخاذاً رائعاً، يفوق ما تستطيع المرأة الآن ارتداءه في الأماكن العامة.
هل يمكن أن يتخيل المرء وضعاً سيئاً بالغ الانحطاط للمرأة في العراق أسوأ من وضعها الآن؟ ألا يكفي لتصوير سوء الوضع أن زمانها وأوضاعها الاجتماعية قبل أكثر من عشرة قرون أفضل منه الآن؟
ثانياً إن نظرنا إلى اللوحة الثّانية،
فسنرى مجتمعاً متحرراً يحسده عليه مجتمعنا الحالي، هناك ثري أو أمير الخ؟ يحتفل في مناسبة معينة، جلب مجموعة من الرّاقصات، ومغنيةّ وجوقة عازفين على العود والصّنوج والمزمار والدّفوف، وساعة تصوير اللوحة كان الجميع مستمتعاً، المضيف والضيوف والفنانون. أين منه ظلام اليوم السّائد، فبين يوم ويوم تشن عصابات المؤلفة من رجال كهنوت قبيحين، ممسوخين، يقودون أميين حاقدين على المجتمع والبشريةّ والعراق والعراقيين، فيقتلون ويذبحون ويشردون، ويستولون على البيوت، والممتلكات. لا يسلم منهم أحد سوى المقربين من زعمائهم. هاجموا النّوادي بتهمة الخروج على النصوص، وهاجموا الحلاقين بتهمة الخروج على الآداب، وهاجموا النّساء بتهمة الخروج على الفضيلة، وهاجموا العلماء والمثقفين بتهمة الخروج على تعاليم غريبة تافهة لئيمة خالية من كل تفكير أو أحساس أو حضارة.
ثالثاً:
هذه اللوحة تعبر بصورة لا تقبل لشك عن انفتاح هائل عاشته مجتماعاتنا العربية وبخاصة عاصمة الإمبراطورية بغداد فهنا يبرز الاختلاط واضحاً بين الجنسين.هناك شخص تسامره حببته، وخادمة تخدم الإثنين، وراقصة تبدو شبه متبرجة، فهي ترتدي تنورة تكشف السّاقين وقليلاً من فوق الرّكبة. وجوقة أخرى من الموسيقيين، والمغنين. وتشاركها شقيقتها اللوحة الثّانية في تصوير راقصتين عازفتين ترقصان وتحتسيان الخمرة، أو تقدمانها لمن يشربها.
اتمنى لو يشاهد هذه الصّور المعممون ليرجعوا إلى صوابهم وليعيشوا كما يهوون ويتركوا غيرهم يعيش بسلام.
1211 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع