د. محمد عياش الكبيسي
إن إشراف المجتمع على التعليم بصورة مباشرة بعيدا عن هيمنة الساسة والتجّار جعل التعليم وثيق الصلة بالمجتمع، ويتبادل معه خطوط المنافع والتغذية المتبادلة، فالمجتمع يدعم ويؤازر ويراقب ويقوّم وفق منظومة قيمية ثابتة ومعروفة، لتعود له الفائدة بمخرجات راقية وكفاءات عالية تلبّي حاجاته وتستجيب لطموحاته، وهذه الكفاءات تقوم أيضا برفع مستوى الوعي والشعور بالمسؤولية لدى المجتمع، ما يضاعف لديه القدرة على دعم المؤسسات التعليميّة وتقويمها، وهكذا تتخذ العلاقة بين هذه المؤسسات ومجتمعاتها حلقة دائرية وتراكمية تساهم بصورة تصاعديّة ومستمرة في تطوير المجتمع وتطوير المؤسسات أيضا.
لقد كان المجتمع على دراية تامّة وتفصيليّة بما يدور داخل المؤسسات التعليميّة، فيتناقل الناس أخبار الأساتذة المتميّزين والطلاب النابغين والحوارات العلميّة والمؤلّفات والرسائل والأفكار والمقولات، وكان المجتمع يصدر أحكامه وتقويماته، فيقول مثلا: «لا يُفتى ومالك في المدينة» وهذا حكم مجتمعي لم يصدر من سلطان ولا شيخ قبيلة ولا عن شورى علميّة أو تنظيميّة، وهذا المجتمع هو نفسه الذي استثنى الشافعي من هذه القاعدة يوم كان تلميذا صغير السن عند الإمام مالك، وكان الناس يزدحمون عليه ليسمعوا منه ما لم يسمعوه عن شيخه!
وهذا المجتمع هو الذي لاحق حجة الإسلام الغزالي من بغداد إلى دمشق بعد أن آثر الاختفاء والبُعد عن الخَلق، فكشفوه بأسئلتهم وأخرجوه من مخبئه في مئذنة الجامع الأموي، ولم يسمحوا له بكتم علمه، فذاع صيته أكثر من ذي قبل!
هذا ابن خلدون يكتب عن ابن هشام: (ما زلنا ونحن في المغرب نسمع أنّه ظهر في مصر عالم بالعربيّة يقال له ابن هشام أنحى من سيبويه)، هكذا كانت أخبار العلماء تنتقل من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق وهي صورة من صور اهتمام المجتمع بالعلم وأهله.
هذه العلاقة تركت بصماتها الواضحة في منهجيّة التعليم (الأصيل) ومخرجاته علما وعملا وأداء، ومن ذلك:
أولا: الحفاظ على هيبة العلم وصيانته من الأهواء والأغراض السياسيّة وغيرها، وذلك من خلال رقابة المجتمع الصارمة لسلوك علمائه واستعداده أيضا لحمايتهم وتقديم كل ما يحتاجون إليه لضمان استقلاليتهم ونزاهتهم، وهذا هو الذي يفسّر نفور غالب العلماء عن قصور الخلفاء، واستمرار التعدديّة الفقهيّة والفكريّة والتي قد تتفق أو تختلف مع ما يراه الخليفة نفسه.
ثانيا: نشر المنتج المعرفي على نطاق واسع رغم بدائية أدوات النسخ والنشر في تلك العصور، فكان الكتاب يتجاوز حدود الزمان والمكان، ويحظى بالخدمة تحقيقا وتعليقا وشرحا واستدلالا ونقاشا حتى بعد وفاة مؤلّفه بمئات السنين.
ثالثا: حرص المؤسسات العلمية على تكوين المخرجات المقبولة اجتماعيا علما وعملا وأدبا، بحيث أنّك لا تستطيع أن تتصوّر تلميذا لأبي حنيفة مثلا أو الشافعي يخرج عن قيم المجتمع وآدابه العامة، فضلا عن أن ينتكس في الموبقات والدناءات.
رابعا: استمراريّة الأداء في خدمة العلم وفي خدمة المجتمع حتّى النفَس الأخير، فالعالم لا يعرف شيئا اسمه (التقاعد)، ولم يسجّل لنا التاريخ حالة واحدة عن عالم اعتذر عن التعليم لكبر سنّه وحاجته إلى الراحة أو العناية.
خامسا: العلاقة الروحيّة بين العالم والمتعلّم حتى وصلت في الكثير من الحالات إلى مستوى أقوى وأرسخ من مستوى العلاقة بين الأب وأبنائه! والمجتمع يدوّن هذه العلاقة في ذاكرته وفي توثيقاته، فليس هناك عالم واحد إلا ونعرف من شيوخه ومن تلاميذه.
لقد عايشت ما يمكن تسميته بقايا ذلك التراث الأصيل والجميل ورأيته في آصفيّة الفلوجة ومنوّرة الرمادي وحميديّة سامراء وقادريّة بغداد، وغيرها من المدارس العراقيّة التي احتفظت إلى حدّ ما بذلك السمت الذي يجمع بين العلم والتربية، وبين خدمة العلم وخدمة المجتمع، وهي صورة مشابهة لما نقله لي أخي الشيخ الخليل النحوي عن محاضر موريتانيا ومناهجها في التربية والتعليم وعلاقاتها المركّبة والمتداخلة مع المجتمع.
نعم هذه التجارب الأصيلة قد لا تكون قادرة اليوم على مواكبة العصر ومتطلّباته الحادّة، وهي لا شك بحاجة إلى الكثير والكثير حتى ترتقي إلى ممارسة دورها التاريخي المشهود بتخريج (قادة مجتمع مهابين)، لكنّ التجارب الحديثة -لو صدقت مع نفسها- لما أمكنها الاستغناء عن كلّ ذلك التراث.
إنّ واحدا من أوجه معضلة التعليم الحديث تكمن في الانفصال عن المجتمع بقيمه وثقافاته واحتياجاته ومشاكله، فلا هي تتابع حالة المجتمع وما يجري في قطاعاته المختلفة، ولا المجتمع يدري ما يدور في قاعاتها ومكتباتها ومكاتبها باستثناء تلك المناسبات الاحتفالية واللقاءات المحدودة والطارئة لحل مشكلة ما مع طالب أو أكثر.
إن مجتمعاتنا لا يمكنها الوثوق مثلا بأستاذ شريعة لا يصلّي، أو يحمل فكرا وسلوكا يصادم هويّتها وثقافتها، ولا ترضاه معلّما لأولادها، ومع هذا فلا توجد في كلّ كلّيات الشريعة أدوات لتقويم السلوك، وكل أدوات الاختبار عندنا إنما تتجه لفحص ما يكتبه الطالب من معلومات في ورقة الامتحان، وهذا معناه من الناحية النظرية على الأقل أن كليات الشريعة قد تخرّج للمجتمع (موظّفين دينيين) منحرفين في أفكارهم أو سلوكهم، فأين سيكون موقع هؤلاء في المجتمع؟ وأين ستذهب تلك الجهود التي بذلتها الدولة ومؤسساتها التعليمية؟
إن مجتمعاتنا تعجّ بالشكوى من (الشيخ المنافق) و (السياسي الخائن) و (الصحافي الكاذب) و (الموظّف المرتشي) و (الطبيب المهمل) وكل هؤلاء قد تخرّجوا من مؤسّساتنا التعليميّة، ونحن الذين منحناهم (شهادة) تؤهّلهم لممارسة دورهم هذا في المجتمع، فما هو ردّنا على هذه الشكوى؟
إنّ الفصل بين (العلم) و (الأخلاق) هو سمة من سمات التعليم المعاصر، وإن كان هذا الفصل غير معترف به نظريّا فهو مطبّق عمليّا، فقبول الطالب ونجاحه وتخرّجه إنما يعتمد على أدائه في ورقة الاختبار حصرا، هذا هو المعيار، وقد أصبح هذا جزءا من ثقافتنا حتى أننا لا نستطيع أن نتخيّل إمكانيّة وضع معايير أخلاقيّة أو سلوكيّة؛ لأنّنا نفكّر بسلّم الدرجات وأوزانها، وإقحام الأخلاق في هذا السلّم ليس باليسير، لكننا ننسى أنّ هذا الذي لا يمكن أن نتصوره في تعليمنا المعاصر كان هو المعيار المعمول به لما يزيد على ألف سنة بحيث لا يمكن لنا أن نتصوّر خلافه! وهذا لوحده دليل على أنّ تعليمنا المعاصر لم يكن حالة نموّ وتطوّر طبيعي يتناسب مع حاجة المجتمع ومتطلّباته بقدر ما كان تقليدا للغير، واستيرادا كاملا لمنتَجهم كما نستورد منهم حاجياتنا الأخرى.
875 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع