د.هاشم عبود الموسوي
ملعونةٌ تلك الأيام،وما أحلاها على عشوائيتها.. وعلى فوضويتنا، وتطلّعنا لآفاق مجهولة.. نعتبرها اليوم وكأنها مرّت سريعة، وتركت في أذهاننا انطباعات لا تُنسى.. كُنّا في البصرة في نهاية الخمسينات من القرن الماضي آنذاك شبابٌ متحفّزين للثقافة، كالرسم والشِّعر والقصة والمسرح والمقالة، وكان يستهوينا كلّ شيءٍ جميل.. كُنّا على مختلف توجّهاتنا الانفعالية، وجوديّون، ويساريون، ومُتقمّصي السياسة.. جيلٌ واعد مُتحمّس، يُريد أن يخلق المعجزات.. فمنهم من استمرّ في عطاءه وبرز في مجال إبداعه، مثل محمد خضير، ومحمد الجزائري، وطالب غالي، وقاسم حول، وهادي الصكر، وحميد البصري، وخالد الخشان وأسعد العاقولي.. وأسماء كثيرة بلغت العشرات.. ومُنهم من انزوى بعيداً، أخفتّهُ عنّا الأيام، ممن كانت لبعضهم صولاتٌ وجولات.. أرجو أن يكونوا على قيد الحياة.. أتذكّر أنَّ أحد الأدباء البصريين قال عنّا آنذاك مُجاملاً أيّانا: "سوف لن يأتي جيلٌ مثلكم بعد اليوم"، وكان اتحاد الأدباء فرع البصرة، وقد وفّر لنا فعلاً الرعاية التي لا تُنسى. وبعيداً عن المجاملات أو التحيّز لمدينتي، فإنّني أجزم بأنَّ البصرة لا تزال تزرع المُبدعين، وتُخرجهم قطوفاً دانية في كلّ السنين.
إلا أنّني أُريد هنا أن أُشير إلى ظاهرة، كانت تنتابنا في فرص الاستراحة بين الحصص والدروس اليومية، ونحن في الثانوية المركزية بالبصرة، حيث نلتقي متلهّفين، للاطلاع والاستماع إلى ما كتبه أحدنا.. نقرأ لبعضنا البعض، وأحياناً نُطلع بعضنا بعضاً على ما قرأناه لآخرين من إبداعٍ جديد.
وقد كانت موجة الوجودية قائمة، استقطبت مُثقّفين معروفين في العراق، أمثال حسين مردان، ونزار عباس، وخالد السلام وآخرين، ومن الجانب الثاني كان نزار قباني يُغرينا بقصائده العارية، من "طفولة نهد"، وغيرها.
آنذاك، كُنتُ أمتلكُ القدرة على التقليد، والادعاء بأن ما كتبتُهُ هي خاصة بشعراء وأدباء معروفين.. فمرّة كتبتُ قصيدة نسبْتُها للسياب، وقصيدة أخرى للمرحوم المهندس، والشاعر أسعد الشبيبي، الذي سَكَنَ البصرة في تلك السنين، وأحبّه البصريون كثيراً.. ذاك الرجل المُبدع والخلوق، وقد بكيتُ كثيراً عندما سمعتُ باغتياله من قبل البعثيين الأوباش بطريقةٍ بشعة.. كما قلّدتُ أشعار بعض البصريين آنذاك، وأشعار البياتي، وغيرهم.. وكُنتُ دائماً أعترفُ بعد ذلك بأنَّ القصيدة كانت من تأليفي، فتنهال عليّ الشتائم من زملائي، وأحياناً يدّعي أحدهم بأنّه كان مكتشفاً اللعبة، وأنَّ القصيدة كانت ضعيفة وركيكة.. الخ. لكنّني هذه المرة، أعددتُ لهم العدّة لمواجهتهم بسلاحٍ لا يُقاوم.
في تلك الأيام المشوبة بالهوس، ونحن لا زلنا مُراهقين، حاولتُ أن أُقلّد نزار قباني، وأعرض على زملائي قصيدة مدّعياً بأنها وصلتني مؤخراً من بيروت، وقد كتبها نزار قباني ولم تُنشر في العراق.. وتجمّع الطلاب حولي يُريدون قراءتها، ثم تناقلوها في الاستراحات، حتى أنّني أعتقد أنّها اُستنسخت، وأُعيد كتابتها في ذلك اليوم أكثر من مئة مرّة.. وعندما أردتُ في اليوم التالي أن أعترف لهم بأنّي كُنتُ كاذباً، والقصيدة ليست لنزار قباني، وإنما من نظمي أنا، فقال لي أحدهم متهكماً: "إنّكَ لم تصل بعد إلى هذا المستوى لتدّعي بأنّها من نظمك"، سخرتُ منه في داخلي، وظلّ الكثيرون منهم لا يُصدّقون ما أدّعي، ثم تناسيناها بسبب النتاجات والنشاطات المتواترة لهذا المجتمع الصغير، والذي تفرّق بعد ذلك في بقاع الأرض، لكنّ الشمس ظلّت تُشرق على البصرة، وتمنح أرضها ثماراً إبداعية لا تنضب.
أنا انقطعتُ عن الكتابة والنشر لمدّة ثلاثين عاماً عجاف.. كُنتُ أخاف أثناءها أن أموت، كان يحدوني أملٌ واحد فقط، هو أن أرى نهاية الطاغية، الذي أخرسَ فينا جُذوة الحياة.
صدّقوني أنّني حالياً لا أخاف من الموت ولا أخشاه، وأنا عندما عُدتُ اليوم أجترّ الذكريات، وكأنّ أيام مراهقتي بعد لم تنتهي، أودّ أن أنشُرَ هذه القصيدة المجنونة الممزوجة بنزوات الشباب الذي ولّى مُنذُ زمنٍ بعيد.. والقصيدة هي:
عـــــراء
كُتبت في عام 1960
هاشم عبود الموسوي
أُحبّها
فهل ترى تُحبّني
أرسمُ في وسادتي
وجهاً لها..
أمتصّ من شفاهها
ذؤابة السنين
وفرحتي المشتعلة
أضمّها تحت اللحاف
مُطوّقاً أنفاسها
أسألها
متى نكونُ هاهُنا؟
يضمّنا هذا السرير
ونُشعل النيران
في شتاءنَا
فلا نُحسّ أن..
البرد والجليد
يدخلُ في عظامنا
أُمطرُها بالأسئلة
أُفرغُ فيها شهوتي
وثورتي المؤجله
لكنّني أُفيقُ في العراء
كان التسافد في الفراش
محضَ افتراءٍ وافتراضْ
آواه من أحلامنا
تبعثُنا من موتنا
ترسِمُ في أذهاننا
سماوة الحياة
لكنّها تخذِلنا
تقتُلُنا
تكشفُ عن عرائنا
سريّةٌ عاداتنا
ما منحت يوماً لنا
غير اشتهاءٍ
للتجامع في الخواء
د.هاشم عبود الموسوي
949 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع