طبول من بعيد: ما لم يُكتب عن حرب العراق وإيران
لم يتم تأريخ الحرب العراقية – الإيرانية بما يحيط بها من كل جوانبها بعد. يشارك فلاح رحيم في روايته "صوت طبول من بعيد" في رسم الصورة الكبرى لهذه الحرب، بتفاصيل إنسانية خاصة.
إيلاف من بيروت: تكتب "صوت الطبول من بعيد" ما لم يُكتب من قبل عن الحرب العراقية - الإيرانية، وتُسجل ما صمتت عنه روايات تمجيد القتل ورثاء السلم.
بدءًا من عشية اندلاع الحرب، تأخذ هذه الرواية القارئ إلى خنادقها الأمامية من خلال يوميات دقيقة تنقل ما يعنيه الحضور في عين العاصفة من أفكار وأحاسيس. بؤرة الرواية فاتنة بولندية، تصادف وجودها في الرمادي مع شركة لبناء مضخات الماء على نهر الفرات في سنوات الحرب الأولى، وسرعان ما تتحوّل إلى أذن مرهفة تستقبل قرع الطبول الآتي من بعيد ونبض المحارب الذي تهدد الحرب وجوده وعقله.
في الرواية حركة مكوكية بين خنادق الحـرب الخانقـة وعالم بغداد والرمادي، تكشف لشـخصيات الرواية وللقارئ حقيقـة الحرب والحب والأيديولوجيا في زمـن العراق الصعب. إنها شـهادة كاتب عاش الحرب في خنادقها الأمامية، واكتوى بنارها، وقرر أن يقول كلمته.
تكتيك القنفذ
"صوت الطبول من بعيد" (379 صفحة، دار الرافدين للنشر – بيروت) رواية لفلاح رحيم عن الحرب العراقية – الإيرانية. يقول رحيم عن روايته الجديدة: "تأخر صدورها أربعين عامًا عن الحدث الذي تصفه وتعلّق عليه، وجاء في لحظة تأزم عراقية لا تختلف حرجًا عن سابقتها، يحاول فيها جيل جديد من العراقيين تصحيح ما تراكم من أخطاء".
يواصل الكاتب العراقي في روايته هذه، وهي الثالثة له، سلسلة السرد التي بدأها برواية "القنافذ في يوم ساخن" عن اللحظة الراهنة بعد عام 2003، وما يواجهه المثقف العراقي من مراجعات لأفكاره إزاء الواقع الجديد، وعلاقته بالآخر. من ثم، عاد إلى سبعينيات القرن الماضي برواية "حبات الرمل... حبات المطر"، يسرد فيها قصة "سليم"، أو لنقل فلاح رحيم، الذي يعاني الحب الموجع الرومانسي في مجتمع تحرسه عيون تراقب أدنى التحركات، وتدفع بالمعارضين إلى السجون، أو إلى التدجين ضمن الحزب الواحد.
بذلك، ظل سليم على مدار الروايات الثلاث يستعير "تكتيك القنفذ في الاختفاء" كي يبقى وسط حقل الألغام، حيث الحرب الحقيقية التي أحرقت الأخضر واليابس. وهو يكابد كل هذا الحصار والاغتراب النفسي وسط بيئة طاردة، مضيفًا إليهما سؤال الوجود والعدم، وجدوى الانتماء لفكر محدد يسير بين ضفتيه، طارحًا مشاكسة المثقف الذي لا يركن إلى قناعة ثابتة.
تحكمها الحرب
يصف الروائي في رواية "الطبول" عمق التشوه والارتياب من البقاء حيًا وسط بؤرة طاردة، إضافة إلى تحولاته الداخلية ونزعته للتخلص من الأيديولوجيا، بمعنى السير باتجاه واحد. لكنه يبقى دائمًا حائرًا بين نداء العقل والجسد، فهو "يدرك الآن وهو يستعيد دفاع نعيم الغريب عن نفسه أن في نفس الإنسان دهاليز مظلمة لا تنكشف إلا في مواقف صغيرة، تومض وتنطفئ لتتركنا في ظلام الثقة الآمنة بالعقل... صار يتبع هواه غير مستعد لمزيد من التأجيل".
الرواية تحكمها الحرب منذ البداية، ويتخللها الموت - مقتل كريم (شقيق سليم) في جبهة القتال الذي يمثل الحياة بكامل مرحها. وحتى حين توهم "سليم" أن انقضاء خدمته العسكرية سيقوده إلى الحرية، فإنه يواجه خارج الخدمة الحياة المحفوفة بالمخاطر بسبب السلطة التي تخاف من المثقف المغاير، حتى إنها رسمت له الجدران التي يجب أن يلوذ بها كي يبقى حيًا. ورغم شحة هذه الحرية، فإنها يفتقدها حين يزج به في حرب شرسة لثماني سنوات بين العراق وإيران.
ثيمتان متشابهتان
في هذه الرواية، تنازع السرد ثيمتان متشابهتان في الزمن وتقلباته، ولكنهما مختلفتان في المكان: الثيمة الأولى هي "سليم" وواقعه العراقي - الشرقي المقيد، والثيمة الثانية هي "بيانكا" البولندية الآتية من أتون الحزب الواحد أيضًا، التي كانت تعمل مع شركة بولندية في صحراء الرمادي، في غرب العراق.
ينتقل السرد بسليم من شوارع بغداد والرمادي إلى سواتر الحرب في العمارة، في جنوب بغداد، حاملًا كتبه وأسئلته، وحتى علاقته بـ"بيانكا" الأجنبية التي تحمل هم مواجهة السلطة في بلدها، كما يواجه هو السلطة في بلده العراق؛ لم تكن جوابًا عن أسئلته المحيرة، بل تحوّلت هي نفسها إلى سؤال معقد: "أهي الاغتراب الفاغر في صلب كل وقائع الحياة العراقية".
ثمة تقاطعات أخرى سعى المؤلف إلى توثيقها لإظهار مقدار ما تفعله الشظايا، لا بالجسد فحسب بل بالنفس: "هناك إحساس، نعم هو إحساس لا فكرة، بأن حدثًا عظيمًا قد وقع ومزق أرق الخيوط في نسيج حياته مرة وإلى الأبد".
السرد في الرواية
يحفل سرد الرواية بالوقائع العراقية من دون فذلكات لغوية أو افتعال زائد عن الحاجة، على الرغم من اكتنازها بالتأمل الفلسفي. ويذكرنا عمل رحيم هذا بالسرد الثري لنجيب محفوظ وفؤاد التكرلي من ناحية اللغة الواضحة العميقة في الوقت نفسه، والتقطيع والتنقلات في السيناريو، وكأن العمل مصنوع للدراما، فنحن ننتقل من عائلة سليم في البياع في غرب بغداد، إلى أصدقائه في البار، وإلى الرمادي، وإلى السواتر في العمارة جنوب العراق، في خيط سردي واحد، ما أن تكر حبات مسبحته حتى تعود من جديد.
ثمة مقاربتان في بداية الرواية: الأولى الإهداء (إلى ذكرى أخي حسين الذي قتلته الحرب العراقية - الإيرانية في السادسة والعشرين، وكنت يومها أصغره بعامين؛ بينما أصارع الهرم يبقى هو فتيًا إلى الأبد) الذي يوحي لنا بأن الموت سيأتي إلى بيوت الجميع، إذ لم يعد الحزب الواحد يحارب الأفكار التي لا تتلاءم مع سياسته فحسب، بل إن الجميع عرضة للفناء، ومن دون معنى؛ والأخرى تتجسد في مقدمة للسارد شبيهة بمقدمات "ألف ليلة وليلة" في مقاربة الحكاية، ومن ثم الدخول في تفاصليها.
645 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع