الدكتور مصطفى جواد.. المنتصر في حربين عالميّتين
الذكرى الخمسون لرحيل اللغوي البارز تحلّ اليوم
الزمان/حسين محمّد عجيل:لم يدخل الدكتور مصطفى جواد، اللّغويّ والمؤرّخ العراقيّ الشهير (1969-1906) في سلك الجيش سوى لمدة محدودة، حين دُعي لخدمة الاحتياط في اليوم الأوّل من سنة 1941 ملتحقاً بدورة الضّباط الاحتياط في الكليّة العسكريّة الملكيّة، قبل أن يُسرّح من الخدمة في العام نفسه لأسباب صحيّة، ولشكواه من مرض مزمن في رِجله اليسرى. فكيف شارك إذن في حربين عالميّتين تفصل بين نهاية الأولى وبدء الثاني 21 عاماً، وانتصر فيهما؟ مع أنّ عمره كان ثمانية أعوام حين اندلعت الحرب الأولى سنة 1914
والحقّ أنّ وقائع حياته تؤكّد أنّه انتصر في الحربين كلتيهما، انتصاراً فذّاً يستحق ان نفرد له هذه المادّة، ولكن في غير المجال العسكريّ.
فقد شاءت مقادير الزمان الغريبة أن تشلُّ كلّ حرب منهما، مفصلاً مهمّاً في مسيرة مصطفى جواد التعليميّة، وفي توقيت حسّاس من حياته، وتضعه كلّ منهما في دوّامة محنة حقيقيّة، تكاد تصرفه عن بلوغ أقاصي طموحاته. لكنّ إرادته في أن يكون مصطفى جواد الذي عرفناه، والذي نستذكر اليوم الثلاثاء 17/12/2019 بفخر مناسبة اليوبيل الذهبيّ بمرور 50 عاماً على رحيله، وإصراره على أن يكون الظاهرة الثقافيّة غير المسبوقة والتي يصعب تكرارها في تاريخ الثقافة العراقيّة، تلك الإرادة الفذّة وهذا الإصرار العجيب، جعلاه معاً، ينتصر لنفسه ولثقافة بلاده في الحربين كلتيهما.
من بغداد إلى بساتين دلتاوة
كانت حياة مصطفى جواد المبكّرة تسير هادئة رخيّة، فقد كان يعيش في كنف أبويه في بيت ميسور نسبيّاً بمحلّة عَقْد القُشَل، بين سوق الهيتاويّين ومخفر قاضي الحاجات وسط بغداد القديمة التي عشقها طوال عمره، وكان يحظى برعاية أبيه الأُسطة جواد، الخيّاط التركمانيّ المشهور بالمدينة، والمنحدِر من أسرة تُركمانيّة أصلها من قرة تبّة في كركوك.
وفي حدود السنة السادسة من عمره، أُصيب أبوه بالعمى، وتوقّف عمله، فاضطّر الوالد المبتلى لتأمين حياة أسرته الكبيرة، بشراء بساتين في دلتاوة (قضاء الخالص في محافظة ديالى حاليّا)، ونقل أسرته كلّها، التي تضمّ زوجتيه وولديه وبناته السبع منهما، للإقامة هناك في بيته وسط بساتين النخيل.
ولمّا بلغ مصطفى سنّ الدّرس في الكتاتيب، أدخله أبوه كُتّاباً في دلتاوة، فتعلّم حروف الهجاء على الأسلوب القديم، وبدأ يتلقّن القرآن الكريم، واستمر على ذلك نحواً من سنتين. ومع اندلاع الحرب العالميّة الأولى سنة 1914? أدخله أبوه (المكتب) بحسب تسمية نظام التّعليم العثمانيّ، الذي كانت مدّة الدّراسة الابتدائيّة فيه أربع سنوات.
كان العراق آنذاك خاضعاً للدولة العثمانيّة، التي اختارت أن تكون في صفّ ألمانيا ضد الحليفتين القويّتين بريطانيا وفرنسا، في صراع كونيّ هائل انتهى بعد أربع سنوات بانهيار دولتي المحور العثمانيّ الألمانيّ وتقسيمهما. وكان على العراق وأبنائه- ومنهم الصبي مصطفى جواد الذي توفي والده الضّرير سنة 1915- دفع الفاتورة الباهظة لتلك الحرب المدمّرة، والانتقال إلى وصاية محتلّ جديد، بعد نحو أربعة قرون من الاحتلال التركيّ.
الحرب العالميّة الأولى
الزمان: النصف الثاني من شهر آذار 1917.
المكان: مدرسة دَلْتاوة (قضاء الخالص في محافظة ديالى حاليّا).
الحدث: القوات البريطانيّة تجتاح البلدة.
بعد أن داهمت القوات البريطانيّة بغداد فجر يوم 11 آذار 1917? واستكملت احتلالها، توجّهت شمالاً لمطاردة قطعات الجيش العثمانيّ المتقهقر، فاجتاحت دلتاوة بعد أيّام، ومرّت بالمكتب الذي كان مصطفى جواد تلميذاً فيه بالصّف الثّالث الابتدائيّ، لوقوعه على الطريق العامّ من النّاحية، فكان هذا آخر يوم دراسيّ لمصطفى جواد في العهد العثمانيّ.
واستذكر مصطفى جواد في أيلول 1953? هذا الحدث الذي أنهى حياته الدّراسيّة مؤقّتاً، قائلاً: “واحتل الانكليز العراق وأنا في الصّفّ الثّالث الابتدائيّ، أقرأ (علم حال نه ديرلر؟) ولا أعرف المُراد بهذا السّؤال سوى كلمة (الحال)”.
وتحدّث في آخر مقابلة تلفزيونيّة أجريت معه قبيل وفاته، عمّا حلّ به بعد إغلاق مدرسته، واحتلال بلدته، وبلاده كلّها: “وخرجتُ من المدرسة، وانصرفتُ بعد ذلك لشؤون الأملاك التي تركها لنا والدنا، وأكثرها بدلتاوة، فمعظمها كانت بساتين، وكنّا نشتغل بها باعتبارنا أهلها”.
وبذلك أنهت تداعيات الحرب العالميّة الأولى حياته الدراسيّة تماماً، ومنعته ظروفه من العودة حتّى بعد أن أعادت السلطات البريطانيّة بعد مّدّة فتح المدارس بنظام جديد.
وحين نقله أخوه إلى بغداد، بوصفه الوصيّ عليه، أدخله مدرستين فيها لبضعة أشهر، كان أبرزهما المدرسة الجعفريّة الأهليّة الواقعة قرب سوق الغزل ببغداد، والتي ظهر فيها ميلُه إلى دراسة العربيّة، لكنّ تقصير أخيه في تسديد أجور المدرسة، “ضَنّاً منه بالنّفقة” على حدّ تعبير مصطفى جواد، اضطّره إلى تركها بعد مدّة قصيرة، غير أنّ هذه المدّة كانت كافية للفت أنظار مدرسيها إلى نبوغه.
الفاقة.. وطريق الخلود
مع استمرار تدهور ظروفه المعيشيّة، ضاقت عليه سُبُل العيش في بغداد، فكان يعاني من الفاقة وضيق ذات اليد. ووصف في سيرته الذّاتيّة أيامه تلك بهذه العبارات المؤلِمة: “وقد قاسيتُ من الفقر، وشظف العيش، والعَوز ما يطول ذكرُه ويؤلِم بيانُه، حتّى حلّت سنة 1920 الميلاديّة، وفيها ضاقت عليَّ سُبُل العيش في بغداد، فرأيت أن أنتقل إلى دلتاوة وانتفع بحصصي في البساتين الموروثة، وإن كان الغالب على غلّاتها التمر، وهو أرخص الفواكه في العراق”.
وبعد عودته إلى دلتاوة، لم تفارقه الفاقةُ التي غادر بغداد بسببها؛ نظراً لضآلة مردوداته الماليّة من الفلاحة. وقال واصفاً صعوبة أيّامه تلك: “كنتُ مُضِيْقاً دائماً، لأنّ غلّة البساتين من التّمر لم تكن تكفي في الإنفاق، ومرّت عليّ أيام لم أستطع فيها أن أشتري حذاءً بدلاً من حذائي العتيق البالي المتهرّئ”.
ولذلك لم تسعفه ظروفه في دلتاوة لاستئناف دراسته على نحو منتظم، بعد انقطاع دام أكثر من ثلاث سنوات، وكان يمكن أن يظلّ فلاحاً في بساتين أسرته في دلتاوة، لولا أنّ نباهة الفتى جعلته ينتصر على ظروفه القاسيّة، ودلّته على طريقه نحو الخلود.
ووصف تلك اللّحظة المفصليّة في حياته، التي قرّر فيها استئناف دراسته سنة 1920 قائلاً: “تركتُ المدرسةَ وبقيتُ أعمل مزارعاً. وقد كدتُ أن أبقى أباشر البساتين وأعتني بها، لولا صديق اسمه جميل خلف رحمه الله، شوّقني إلى العودة للمدرسة، وتَرْك البساتين وزراعتها. احترتُ برهةً، ثمّ توكّلتُ على الله، وعدتُ للدراسة”.
مبتعثاً إلى القاهرة وباريس
كانت الثمرة المباشرة لهذا القرار المهمّ، إنهاؤه المدرسة الابتدائيّة صيف سنة 1921؟ ثمّ المسارعة بتقديم أوراقه لدخول امتحان القبول في دار المعلّمين الابتدائيّة ببغداد، الذي نجح فيه، وكانت هذه خطوة كبيرة غيّرت حياته كلّها، وصف مشاعره إزائها فيما بعد بقوله: “كنتُ بين التّصديق والتّكذيب”، ذلك أنّ ميله الشديد للغة العربيّة بدأ يترسّخ ويلفت إليه أنظار أساتذته الذين شجّعوه ورعَوْه، كما بدأت شخصيّته الأدبيّة بالظهور في هذه البيئة المؤاتية، فشرع ينشر قصائده الأولى في ثلاث مجلّات كان يصدرها أساتذتها، ليتخرّج في الدار سنة 1924? ويعيّن معلماً في الناصريّة والبصرة والكاظميّة ودلتاوة فبغداد مرّة أخرى، ثمّ عيّن مدرساً في مدينته الأثيرة بغداد، التي سطع اسمه في محافلها الأدبيّة واللغويّة والتاريخيّة والتراثيّة، خلال العقد الذي أمضاه معلّماً فمدرّساً، بعد أن نشر عشرات المقالات والأبحاث والقصائد في أبرز الصحف والمجلّات العراقيّة والعربيّة، وأخذت تصدر أولى تحقيقاته لكتب التراث، حتّى اختير ضمن المبتعثين إلى جامعة السوريون في باريس لدراسة التاريخ، وكانت القاهرة، تلك المدينة الحافلة بالأسماء اللّامعة في الثقافة العربيّة، التي وصلها في أيلول 1933واختلط بكبار أدبائها وشعرائها وعلمائها لنحو عام، محطّته الأولى لتعلّم اللّغة الفرنسيّة التي عشقها “منذ أن كان يرى طلّاب المدرسة الجعفريّة يدرسونها على رؤوف القطّان، فتأتي على أفواههم حلوةً عذْبةً، كان يسيل لعابه لها، كما لو كانت أكلةً شهيّةً لذيذة”، كما يقول صديقه جعفر الخليلي.
في السوربون
في مطلع تشرين الأوّل 1934 وصل إلى باريس، وبعد يومين من وصوله كتب لصديقه وأستاذه أنستاس الكرمليّ واصفاً حاله، قائلاً: “ضاقت عليّ الدنيا على سعة باريس، ولا سيما أنّي أجهل كلّ شيء فيها… قضيتُ يوماً أو بعضَ يوم في باريس والدنيا مسودّة في عيني، لا أعرف أحداً، ولا أرشدُ أمراً، ولا أهتدي طريقا”.
لكنّه ما لبث أن اهتدى إلى الطريق الذي أوصله للمجد، وأخذ نفسه بالشدّة حتى تعلّم الفرنسيّة، وبلغ منه ذلك أنّه كتب إلى الكرملي في شباط 1935? يقول: “والله لو استطعتُ استعارة عشرةَ أدمغةٍ وعشرين عيناً، أو استئجارهن للركض إلى هذه اللغة لفعلتُ! فهذا الدماغ الصغير يكلُّ، وكلٌ من العينين تملُّ، فلا حَوْل ولا قوة إلا بالله عليه توكلتُ وإليه أُنيب!”.
وفي غمرة تمتّعه بفرصة ذهبيّة للدّراسة بجامعة السّوربون، لم تكن تخطر له على بال في سنوات كدحه الطّويل، استهلّ مقالةً له نشرها بمجلّة بغداديّة في شباط 1938? بهذه العبارات المستوحاة من تجربته الشّخصيّة: “سعادةُ البلاد وطُمأنينةُ أهلها باعثان على نشر العلم واقتباسه، وعدمُهما يؤدّي إلى العكس. وهذا الأمرُ واضحٌ في الأفراد كوضوحه في الأمّة جمعاء، فكم من الموهوبين الأذكياء الذين حُرموا العلمَ، وحُرمَ هو ذكاءَهم، قد ضاعت مَلَكاتُهم، ولم تربح الإنسانيّةُ منهم شيئاً مذكوراً، لانصرافهم بكلّيّتهم إلى دفع الشّقاء أو مقاومة الضُّرّ والفقر”. ولا شكّ عندي في أنّه كان يعني نفسه بكلامه هذا عن الموهوبين، الذين تتأرجح فرصُهم بحسب حالة البلاد ومدى رعاية القائمين على الحكم لهم، فتمثّلتْ له، هناك في مدينة النّور، سيرةُ كفاحه المضنية، وصراعه مع الفقر والحرمان في بغداد ودلتاوة، وإصراره على التّعلّم، حتّى تهيّأت له الظّروف الموضوعيّة فتوّجت مساعيه الذّاتيّة.
وساعده أستاذه في السوربون المستشرق الشهير لويس ماسنيون، في إنهاء خطوات مرحلة الإعداد للدّكتوراه، واختار موضوعاً تاريخيّاً هو “سياسة الدّولة العبّاسيّة في أواخر عصورها”، فأكملها سنة 1939? وطبعها، وإذ هو في طور انتظار مناقشتها، للحصول على اللّقب الأكاديميّ الكبير رسميّاً، وقعت الواقعة التي لم تكن تخطر له على بال.
الحرب العالميّة الثانية
الزمان: 3 سبتمبر 1939
المكان: باريس/ جامعة السوربون.
الحدث: فرنسا وبريطانيا تعلنان الحرب على ألمانيا.
فاجأ الزعيم النازيّ هتلر، العالمَ بشنّ حرب خاطفة في أوربا، منتهكاً شروط استسلام ألمانيا المذلّة للحلفاء، فأعلنت فرنسا وبريطانيا الحرب على ألمانيا، وتغيّر كلّ شيء في فرنسا والعالم كلّه منذ ذلك اليوم.
وشهد مصطفى جواد أوّل غارة جويّة ألمانيّة على باريس، وقال عن هذه التّجربة: “كنتُ بباريس في أثناء أوّل غارة للطّيّارات الألمانيّة على فرنسا في الحرب الكبرى الأخيرة، فسمعنا أنا وأصحاب الدّار التي أقيم فيها إذ ذاك (أبواب الإنذار) المألوفة في مثل هذه الغارة، وكان اللّيل في آخر هزيع منه، فنزلنا إلى سرداب الدّار..”.
وبالنظر لبدء هجوم الألمان على الأراضي الفرنسيّة لاحتلال باريس، قرّرت وزارة المعارف العراقيّة يوم 6 تشرين الثاني 1939 إعادة بعثتها من باريس، فلملمَ مصطفى جواد كتبه وأوراقه على عجل، وعاد إلى بغداد قبل مناقشته رسالة الدّكتوراه. وقال موثّقاً تلك الأيّام العصيبة في سيرته الذّاتيّة: “ولمّا رأينا أنّ هجوم الألمان الجويّ قد بدأ، ايقنّا أنّ الحرب ستطول، وأنّ البقاء في فرنسا جدّ خطر وسيّء العاقبة. فعدتُ الى العراق بالقطار”.
بيدر باريس الكبير
خيبة الأمل كانت مؤلمة ولا شكّ، بعد أن حرمته الحرب الثانية من العودة إلى بغداد متوّجاً باللّقب العلميّ الكبير، الذي أخذ منه كدح خمس سنوات. ويقول صديقه مير بصري عن ظروف عودته العسيرة: “ولما جاء إلى بغداد، لم تعترف وزارةُ المعارف بشهادته، وظلّ يراجع أشهراً محتجّاً بالظّروف الاستثنائيّة التي حالت دون مناقشة أطروحته، وحرمته من إعلان حصوله على الدّكتوراه رسميّاً”. وازداد الأمر سوءاً حين خاب مسعاه في الحصول على وظيفة. وقال واصفاً حاله تلك: “وصلتُ الى بغداد، وبقيتُ أشهراً من غير تعيين”.
لكنّ هذه الأجواء المكهربة والمحبطة التي وجد نفسه فيها، لم توقف تطلّعاته لشغل دوره الثقافيّ، الذي أعدّ العدّة له منذ كان في دار المعلّمين الابتدائيّة، وحفّزه ترحيب كبرى محافل القاهرة بثراء إسهاماته الأدبيّة والثقافيّة، وما أضافته إليه باريس من تجربة ثقافيّة وحياتيّة مكتنزة، وتمكّنٍ من لغة عالميّة، وصلات عميقة بشخصيّات فكريّة لها مكانتها، وما حازه في السوربون من ذخيرة معرفيّة ومن مناهج البحث الحديثة، التي كان بأمسّ الحاجة إليها، على أن يعيد حساباته ويراجع ما حقّقه من مكاسب، فتراءت له واضحةً ضخامة البيدر الكبير الذي جناه من السوربون برغم لعنة الحرب، وإنّ اللّقب العلميّ كان قد تحقّق حين شهد له أساتذته بالتفوّق في سنواته الخمس، وبعد اطلاعهم على أطروحة الدكتوراه المنجزة والمطبوعة، وما هي إلّا أن يكتب أستاذه لويس ماسنيون رسالة بهذا الفحوى إلى وزارة المعارف العراقيّة، كي تنهي جدلها معه، وهذا ما كان، “فقبل الوزير صالح جبر عذرَه أخيراً، وأوعز بتعييّنه للتّدريس في دار المعلِّمين العالية في الدّرجة التي تؤهله لها الشّهادة”، كما يقول مير بصري. فصار الركن الركين في هذه الدار التي خرّجت أعظم مثقفي العراق وأدبائه، وأجيالاً من الكفاءات العلميّة.
السطوع الاستثنائيّ
وما هي إلا سنوات قليلة تلت الحرب العالميّة الثانية، حتّى أخذ اسم الدكتور مصطفى جواد يسطع على نحو استثنائيّ، في حقول عديدة يصعب جمعها والبروز فيها كلّها، فكان لغويّاً فذّاً مشهوداً له بالبراعة والاجتهاد من مجامع اللّغة العربيّة الثلاثة في بغداد ودمشق والقاهرة، وإن لم يضمّه الأخير في عضويته، ومرجعاً في اللّغة العربيّة وآدابها وفنونها في عصورها المتلاحقة، وكان مؤرّخاً كبيراً صنع مكانته وعزّزها بعصاميّة ومجهود عظيم، وكان خَططيّاً اختصّ بمدينته بغداد، وصنّف أعمالاً معمّقة لا يمكن للمشتغلين في خَطط هذه المدينة التّاريخيّة تجاوزها، وكان معلّماً وأستاذاً أكاديميّاً ألهم طوال 45 عاماً، أجيالاً من المبدعين والكتّاب والباحثين واللّغويّين والمؤرّخين والتّربويّين والمشتغلين في عوالم الثّقافة والفنّ والأدب والإعلام، وكان محقّقاً للتّراث العربيّ الإسلاميّ، بل من مؤسّسي المدرسة العراقيّة في هذا الفنّ، ومثّل بأعماله المتنوّعة- تحقيقاً، وبحثاً في عالم المخطوطات، ونقداً لأعمال غيره- ذروة ما وصلت إليه من حرفيّة ودقّة واجتهاد، وكان رائداً في مجال الإعلام الثّقافيّ في العراق، ما زال صدى الأعمال التي قدّمها للإذاعة والتّلفزيون قويّاً حتّى في أوساط غير المتعلّمين.. وكان هذا السطوع الاستثنائيّ المتعدّد الأوجه والآفاق، أقوى من أن يحجبه دخان حربين كونيتين رجّتا العالم كلـّه.
وبعد رحلة الكفاح المضنية هذه، وحين أغمض مصطفى جواد عينيه إغماضة الموت الأخيرة في مساء مثل هذا اليوم من سنة 1969 بيد النّحات محمّد غني حكمت وهو يصنع له قناع الوجه الجبسيّ لتخليده، ظلّت عيون ملايين العراقيّين الذين تتلمذوا على يديه في المدارس والجامعات وعبر الأثير، وغرس فيهم الوعيّ بقيمة حضارتهم وثراء لغتهم والتباسات تاريخهم- مفتوحةً على أقصاها، وإن غالبتها دموع حزن سخيّة..
433 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع