المدرسة المستنصرية في بغداد تأسست في زمن الدولة العباسية عام 1233
كتاب جديد للمدير السابق لمركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون
الشرق الأوسط:هاشم صالح:نحن نعلم أن التحقيب السائد لتاريخ البشرية يقسم فترات العالم إلى 3 عصور متتالية: العصور اليونانية - الرومانية القديمة، فالعصور الوسطى، فالعصور الحديثة. وقد شغلت العصور المسيحية تلك الفترة الممتدة من القرن الخامس بعد الميلاد إلى القرن الخامس عشر بعد الميلاد، أي طيلة ألف سنة. ولكن الشيء المزعج في هذا التحقيب الغربي هو أنه داخل هذه الفترة القروسطية المظلمة، تتموضع الحضارة العربية الإسلامية التي شهدت عصرها الذهبي طيلة القرون الستة الأولى من عمر الإسلام، أي حتى موت ابن رشد عام 1198. وبالتالي، فإن هذا التحقيب لا ينطبق علينا. إنه ظالم لنا، ولذلك نرفضه. فنحن عشنا عصر تنويرنا في وقت كان الغرب غاطساً في ظلامياته. ولذلك، أطلق ريجيس دوبريه أخيراً هذه الفكرة الذكية، قائلاً: مشكلة العرب هي أنهم شهدوا عصورهم الوسطى بعد عصر تنويرهم، وليس العكس، كما حصل في أوروبا. ولكن بدءاً من القرن السادس عشر، ابتدأت العصور الحديثة في الغرب، مجسدة بعصر النهضة. وفي هذا الكتاب الجماعي الضخم، نجد صورة متكاملة عن عالم القرون الوسطى. وقد أشرف عليه المؤرخ الشهير جورج دوبي، وساهم في تأليفه كثير من الاختصاصيين في شتى الفروع والحضارات. فبعضهم تحدث عن الغرب المسيحي، وبعضهم عن الشرق الأقصى الآسيوي، وبعضهم الآخر عن الحضارة العربية الإسلامية، إلخ.
وقد تحدث عن هذه الأخيرة الدكتور بول بالطا الذي كان مديراً لمركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون. يقول هذا الباحث ما معناه: في وسط القرن الثامن الميلادي، حصل شجار داخلي جديد أدى إلى زعزعة العالم العربي. فقد تغلب العباسيون على الأمويين، واستولوا على السلطة بعد أن أعملوا المجازر فيهم. وظلت السلطة في أيدي العباسيين مدة 5 قرون. والواقع أنه بعد وفاة النبي الأكرم عام 632، ما انفكت الصراعات العائلية أو القبلية أو السياسية على السلطة تتوالى فصولاً. وهكذا، انتقلت السلطة من الجزيرة العربية إلى سوريا، ومن سوريا إلى العراق، ومن العراق إلى إيران، أو إلى المغرب الأقصى، فإسبانيا. وكانت الأطراف المتصارعة كلها تزعم أنها تحارب من أجل الإسلام الصحيح الذي انحرفت عنه الأطراف الأخرى. كل طرف كان يتهم الطرف السابق بالانحراف عن نهج العقيدة القويمة المستقيمة، لكي يزيحه عن السلطة، ويحل محله. والواقع أن العباسيين استخدموا هذا الأسلوب لكي يسفهوا الأمويين ويشوهوا صورتهم. فقد أشاعوا عنهم أنهم خرجوا على قانون القرآن الكريم والشريعة، وأنهم منافقون لا أثر للإيمان في قلوبهم. ونجحت الإشاعة وانتشرت في كل الأمصار الإسلامية، الشيء الذي أدى إلى سحق الأمويين عام 750، وحلول العباسيين محلهم على رأس الإمبراطورية العربية الإسلامية المترامية الأطراف. وهذا ما يدعوه المؤرخون بالثورة العباسية. فقد ابتدأت ببث الدعاية المضادة للأمويين، قبل استخدام الرجال والسلاح لإسقاطهم. ومعلوم أن سقوط مشروعيتك الدينية شرط مسبق لإسقاط مشروعيتك السياسية.
وقد استطاع العباسيون ترسيخ نظام قوي استمر عدة قرون، بعد أن نقلوا العاصمة من دمشق إلى بغداد، أي من سوريا إلى العراق. وشهدت الحضارة العربية - الإسلامية عصرها الذهبي عندئذ بين القرنين الثامن والثاني عشر الميلادي. فقد أدت حركة الترجمة عن الإغريق إلى ازدهار العلم والفلسفة. وأصبح علماء الإسلام هم منارات البشرية في ذلك الزمان. فأوروبا كانت تغط في نوم عميق: أي في دياجير العصور الوسطى، والتعصب الديني، والجهل والانغلاق، وتكفير الفلسفة والعلم. وكما تحدث بعضهم عن «المعجزة الإغريقية» أيام أرسطو وأفلاطون وسقراط، فإنه يمكننا أن نتحدث عن «المعجزة العربية» أيام الكندي والجاحظ والمأمون والحسن بن الهيثم والتوحيدي والفارابي والبيروني وابن سينا وابن رشد والمتنبي والمعري، وبقية عباقرة العرب والإسلام. والسؤال المطروح الآن هو التالي: هل ستعيد بغداد سابق مجدها، وتصنع العصر الذهبي للعرب مرة أخرى، بعد أن أخذت تتعود على اللعبة الديمقراطية، وإن بصعوبة وتعثر؟ إن هذا الشيء لم يعد مستبعداً، ولكن لكي يتحقق ذلك ينبغي أن تصبح بغداد مركزاً للإشعاع الفلسفي والإبداع الأدبي، كما كانت في العصور الخوالي. وهذا ما نأمله لعاصمة الرشيد والمأمون العظيم ونرجوه.
على أي حال، بين عامي 750 و1100، كان جميع العلماء إما عرباً، وأما فرساً، وإما أتراكاً من آسيا الوسطى، وإما بربراً أمازيغاً في الأندلس وشمال أفريقيا. وكانوا إما يهوداً أو مسيحيين، أو في الأغلب مسلمين بطبيعة الحال. ولكن كانت هناك خاصية مشتركة بينهم جميعاً، وهي أنهم كلهم كانوا يكتبون ويؤلفون ويحاضرون باللغة العربية. صحيح أنهم كانوا يتحدثون بلغتهم الأم عندما يعودون إلى منازلهم وأهاليهم، ولكن لغة العلم والفلسفة والمناقشات الكبرى في ذلك الزمان كانت العربية، ولا شيء غيرها. لقد كانت لغة الحضارة العالمية آنذاك، تماماً كالإنجليزية حالياً. من يصدق ذلك الآن؟
ولهذا السبب، جرى استخدام تعبير «الحضارة العربية»، وتفضيله على تعبير «الحضارة الإسلامية». لماذا؟ لأن كثيراً من العلماء والمترجمين ما كانوا مسلمين، ولكن كلهم كانوا يتقنون العربية، ويؤلفون كتبهم الأساسية بها. فمثلاً الفيلسوف اليهودي الكبير ابن ميمون ألف رائعته الكبرى «دلالة الحائرين» بالعربية، وبعدئذ ترجمت إلى العبرية. وبالتالي، فنحن نعتبره فيلسوفاً عربياً، حتى ولو كان يهودي الديانة، لأنه أبدع بلغة الضاد. وقس على ذلك كثير (بين قوسين سيوران الذي أبدع بالفرنسية يعتبر فرنسياً، حتى ولو كان ذا أصل روماني. وقل الأمر ذاته عن الآيرلندي صموئيل بيكيت، بل وحتى الكاتب المبدع أمين معلوف يعتبر كاتباً فرنسياً، وإن بروح لبنانية عربية. وقل الأمر ذاته عن الطاهر بن جلون، وآخرين كثيرين. اللغة هي الأساس، وأكاد أقول إن تغيير اللغة أصعب من تغيير الدين)!
لكي يبرر العباسيون استئصال أسلافهم الأمويين، راحوا يستخدمون المحاجة الدينية، كما قلنا. وقالوا عنهم إنهم انحرفوا عن مبادئ الدين والصراط المستقيم. لقد انحرفوا عن مبادئ الإسلام، وأسرفوا في الفسق والمجون والبطر واتباع الشهوات والآثام. ولكن ماذا فعلوا هم بعد أن وصلوا إلى السلطة؟ الشيء ذاته! فالواقع أنهم لم يقصروا في هذا المجال، بعد أن استتبت الأمور لهم.
نعم، لقد عاشوا حياة المستبدين الشرقيين في قصورهم المنيفة. ولكن الفرق بينهم وبين الأمويين هو أن إمبراطوريتهم أصبحت كوسموبوليتية، ولم تعد عربية خالصة، كما كان عليه الحال سابقاً. فالخلفاء العباسيون راحوا يتزوجون نساء غير عربيات، وكان وزراؤهم في الغالب من أصل فارسي، كالبرامكة في عهد هارون الرشيد مثلاً.
وكان أول خلفائهم هو أبو العباس السفاح الذي نصب خليفة عام 749، ولكنه لم يحكم فعلاً إلا عام 750، بعد القضاء الكامل على الأمويين. وهكذا، دشن السلالة العباسية التي أنجبت 37 خليفة، وبقيت في السلطة حتى عام 1250، تاريخ دخول المغول إلى بغداد: أي 5 قرون بالتمام والكمال. ولكن الخليفة العباسي الحقيقي كان هو الشخص الثاني في العائلة. إنه أبو جعفر المنصور الذي تسلم الحكم بعد السفاح بـ4 سنوات فقط (754 - 775). لقد حكم أكثر من 20 سنة، واستطاع بالتالي توطيد دعائم السلطة العباسية، وهو الذي أسس مدينة بغداد عام 762، وجعل منها عاصمة له. وسوف تظل عاصمة العراق حتى يومنا هذا. وبالتالي، فالرجل له أهميته الكبرى في تاريخ الإسلام، وقد لقبها بمدينة السلام.
وجعل منها ليس فقط عاصمة سياسية وإدارية للإمبراطورية العربية - الإسلامية، وإنما أيضاً عاصمة الشعراء والفنانين. بل وأصبحت، وللمرة الأولى في تاريخ الإسلام، مدينة العلم والعلماء والفلاسفة والمخترعين وباقي المبدعين. والواقع أن الشيء الذي ساهم في عظمة الخلافة العباسية هو تشجيع المنصور والرشيد والمأمون لحركة الترجمة ونقل المعرفة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية. ومعلوم أن العلم الإغريقي ترجم في تلك الفترة، وكذلك الفلسفة الإغريقية، بالإضافة إلى علم الفرس والهند وبقية الأقوام. وهنا تفوق العباسيون على الأمويين بما لا يقاس، ودشنوا العصر الذهبي العظيم.
وفي تلك الفترة، ظهر الكتاب الكبار، من أمثال الجاحظ وابن قتيبة. كما ظهر علماء النحو الذين ثبتوا للعربية قواعدها ونحوها وصرفها وعروضها، كالخليل بن أحمد الفراهيدي وسيبويه والكسائي وغيرهم. وأما في مجال الشعر فقد هيمن على تلك الحقبة الشاعر الكبير المتحرر، إن لم نقل المتحلل: أبو نواس.
ولكن يبقى صحيحاً القول إن المجال الذي برع فيه علماء الإسلام، وجعل من بغداد عاصمة الحضارة، هو مجال العلم والفلسفة والتقنيات، إن لم يكن التكنولوجيا. وفي الفترة الأولى، كان علماء الإسلام مجرد ناقلين لعلم الآخرين أو مترجمين له. ومعلوم أن مرحلة الترجمة تسبق مرحلة الإبداع الذاتي، ثم جاءت المرحلة التالية: مرحلة الإبداع الذاتي، والإضافة إلى كل ما سبق، بعد أن هضموا كل هذه العلوم واستوعبوها.
ويرى بول بالطا أن علماء الإسلام أبدعوا في كل المجالات بين القرنين الثامن والثاني عشر للميلاد. لقد أبدعوا في مجال علم الفلك، والرياضيات، والفيزياء، والطب، وعلم النبات، وعلم الجغرافيا، والفلسفة، والتاريخ، إلخ. وأكبر دليل على إقبال الناس في تلك الفترة على المعرفة ما قاله السندباد في «ألف ليلة وليلة»: «كنت أبحث عن صحبة العلماء». وهذا القول يمثل روح فترة بأسرها، حيث أثبت العرب والمسلمون مقدرتهم على فهم كل العلوم والفلسفات، بل والإضافة إليها وزيادة الإبداع إبداعاً.
ففي تلك الفترة التي تمثل العصر الذهبي من حياة العرب والمسلمين، ظهر البيروني (973 - 1048) الذي اخترع الإسطرلاب: وهي آلة قديمة لقياس ارتفاع الشمس والنجوم. وكان العرب يولون أهمية كبيرة للمعرفة بالنجوم أكثر مما كان يفعل الإغريق أو الرومان أو الألمان. لماذا؟ لأن هذه المعرفة تجنبهم خطر الضياع في الصحراء.
ومن أشهر العلماء الذين ظهروا في العالم الإسلامي نذكر ناصر الدين الطوسي (1201 - 1274) الذي بنى مركزاً لمراقبة النجوم. ولم يكن له مثيل في تلك الفترة عند أية أمة من الأمم. وعن طريق تلك الاختراعات والعلوم التقنية، استطاع العرب أن يسيطروا على الملاحة في البحار أكثر من غيرهم.
ولذلك، فإن السندباد البحري أصبح أحد أبطال «ألف ليلة وليلة» لأنه انطلق من البصرة لفتح البحار والمحيطات حتى وصل إلى الصين!! وكل ذلك ناتج عن اختراع العرب لآلات الملاحة البحرية وتحسينها وتطويرها. وقد أخذ العرب عن الصينيين البوصلة التي تفيدهم في تحديد الوجهة في أثناء السفر البري أو الملاحة في البحر، ثم نقلوها إلى الأوروبيين لكي يتعرفوا عليها. وبالتالي، ففضل العرب على أوروبا كبير.
ثم يقول لنا الباحث الفرنسي ما معناه: يصعب علينا هنا أن نستشهد بأسماء جميع العلماء والعباقرة الذين ظهروا في تلك الفترة. نذكر من بينهم فقط الخوارزمي (780 - 850) الذي اخترع علم الجبر أو اللوغاريتم. ومعلوم أنه انتقل باسمه حرفياً إلى اللغات الأوروبية. وقد استفاد منه الفيلسوف ديكارت لبناء نظرياته العلمية والفلسفية.
ونذكر الحسن ابن الهيثم (965 - 1039)، وكان واحداً من أكبر علماء الفيزياء في كل العصور. ومعلوم أنه هو الذي أسس علم البصريات، وذلك قبل العالم الأوروبي روجر بيكون (1220 - 1292) بزمن طويل. كما اكتشف قانون العطالة الذاتية الذي سيصبح أول قوانين الحركة لدى العالم الشهير إسحاق نيوتن.
وأما عن الفلاسفة، فحدث ولا حرج! فالكندي الذي مات عام 873 كان أول من اهتم بالفلسفة ودرسها وكتب فيها، ولذلك لقبوه بفيلسوف العرب الأول. ثم تلاه الفارابي (878 - 950) الذي لقبوه بالمعلم الثاني، بعد أرسطو الذي كان يدعى بالمعلم الأول. ومؤلفات الفارابي في الفلسفة السياسية والأخلاقية لا تزال تدرس في كثير من جامعات العالم.
ثم تلاه الشيخ الرئيس ابن سينا (980 - 1037) الذي تجاوزت شهرته حدود العالم العربي الإسلامي لكي تصل إلى الغرب اللاتيني المسيحي عن طريق الترجمة. ويقال إنه كان عبقري العباقرة. وكان مولعاً أيضاً بالحب والعشق والجمال. ولا داعي لأن نذكر اسم ابن رشد (1126 - 1198) الذي أصبح أستاذاً للغرب طيلة قرون عدة، عندما تحول إلى تيار فكري طويل عريض يدرسونه في جامعات السوربون، وبولونيا بإيطاليا، وكذلك جامعة بادوا، هذا بالإضافة إلى جامعة أوكسفورد، وجامعات ألمانيا، وسواها من البلدان الأوروبية. ومعلوم أن فكره ساهم في تدشين النهضة الأوروبية الأولى. وكانت قرطبة في ذلك الزمان منارة الحضارة العالمية بأسرها. وهذا يعني أن علماءنا وفلاسفتنا هم الذين دشنوا عصر التنوير، قبل أن يظهر في أوروبا بزمن طويل:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
1157 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع