منذ أربعين عاماً وأنا ما زلتُ أتذكر حادثة حصلت لي وبكامل تفاصيلها

        

منذ أربعين عاماً وأنا ما زلتُ أتذكر حادثة حصلت لي وبكامل تفاصيلها

    

كان عمري ١٥ سنة ووقتها صدرت نتائج الشهادة الإعدادية (المتوسطة) في الجرائد الرسمية، وشاهدتُ اسمي في الجريدة، فكانت فرحتي عندها كبيرة جداً.

فقررتُ السفر إلى دمشق من بلدتي السويداء(جنوب دمشق بـ 100 كم تقريبا)؛
لشراء كعك شامي، وبرازق، وغريبة، من دمشق لتقديمها لأهلي وأصحابي؛ ابتهاجاً بنجاحي.

فوضعت في جيبي خمس ليرات ورقية وليرة واحدة معدنية، فركبت الحافلة، ودفعت الليرة المعدنية أجرة الحافلة، وبقيت الخمس ليرات الورقية بجيبي.

      

وعندما وصلت إلى دمشق، توجهت فوراً الى سوق الحميدية، وأيضاً للصالحية، وبعدها ذهبت إلى باب الجابية، فدخلت محل حلويات، وكان التاجر يجلس بجانب ابنه الصغير أمام محله،فقلت له :

عمي أنا بدي كيلو كعك، وكيلو برازق، وكمان كيلو غْرَيْبة، ومددتُ يدي إلى جيبي لأخرج الخمس ليرات الورق، فلم أعثر عليها وبدأت بالبحث في الجيب اليمين،ثم الجيب اليسار،ولكنني لم أجدها !

ظهر الحزن عليّ واضحاً فاعتذرت من التاجر، وقلت : عمي سأعود لاحقاً؛ لآخذ ما طلبته منك،لكن التاجر نظر إليّ وابتسم وقال :

هل نسيتَ النقود في البيت؟
فقلت له : لا بل أظن أنني أضعت المبلغ، فقد كان في جيبي خمس ليرات ورق.

 قال لي : أين تسكن يا ابني؟

قلت له : بيتنا في السويداء يا عمي.

قال لي : اجلس يا ابني وارتح شوَيّة، وصَبّ لي كأسة شاي،وقال :
تفضل واشرب شاي ورَوّق، بسيطة يا ابني .

 جمع التاجر ما وَزَنهُ من كعك وبرازق وغريبة في كيس ورق، وقال لي : خذ هذا الكيس يا ابني، وفي المرة الجاية تسدد لي ثمن ما اشتريت، الناس لبعضها يا ابني.

قلت : يا سيدي أنا قد لا أعود لدمشق، إلا بعد فترة طويلة، وأنا أعتذر لأنني لا أحب الاستدانة.

قال : أنا متأكدٌ يا ابني بأنك ستعود وتسدد لي ثمن البضاعة.
وأصرَّ عليّ أن أحمل الكيس.

    

أخذت الحلويات، و كلّي خجل من هذا الموقف، وودعته هو وابنه، وغادرت المحل ، وبعد أن مشيت مسافة بالسوق وإذا بابن التاجر يناديني، فتوقفت،
فقال لي :

لقد وجد والدي خمس ليراتك بأرض المحل، ويبدو أنها قد وقعت منك، وأبي قد خصمَ منها ثمن الحلويات، وهذا الباقي تفضل.

كانت فرحتي كبيرة لأني لم أحمل ديناً في رقبتي من ناحية ، ولأنني سأستطيع دفع أجرة الحافلة للعودة إلى السويداء، دون الطلب من أحد، لأنني لا أملك غيرها،عندها فرحت كثيرا، وشكرت الولد، وأرسلت معه شكري لوالده،ووضعتُ باقي المبلغ في جيبي وأنا سعيد جداً.

وصلتُ إلى بيتنا في السويداء، وعندما أدخلت يدي في الجيب الخلفي للبنطال الذي كنت ألبسه..تفاجأت بأن الخمس ليرات في هذا الجيب الذي لم أبحث فيه!
فقصصت على والدي ما حدث لي في دمشق،فابتسمَ وقال لي :
يا ابني تجار الشام وحلب هم تجار أباً عن جد،ويحملون كل معاني الإنسانية،
وعليك يا بنيّ أن تعيد الخمس ليرات للتاجر، فهي دين في رقبتك،وستأخذ معك خبز ( مُلوّح ) من خبز والدتك، لتكون هدية له،وأن تدعوه لزيارتنا.

وفعلاً في الأسبوع الثاني حملت معي ( خبز والدتي الملوّح ) وخمس ليرات الدين.

عندما رآني التاجر من بعيد رأيت على وجهه ابتسامةً وعندما اقتربت منه
قال لي :

ألم أقل لكَ بأنك ستعود؟ والآن خذ معك هالكيلو الهريسة، وسلّم لي على والدك وعلى أهل السويداء.

وبعد هذه الفترة الطويلة ما زال وجه ذاك التاجر وابنه أمام عيني، ولن أنساه ما حييت، فلقد أعطاني الكعك والبرازق والغريبة وانتبه أنني لا أمتلك غير الخمس ليرات الورقية ولن يكون معي أجرة الطريق، فأرسل لي مع ابنه مبلغاً يعينني على دفع أجرة الحافلة للوصول لمدينتي السويداء.

والحقيقة أنني كل فترة أتذكر الموقف بكامل تفاصيله فأرفع يدي متضرعاً ان يرزقه الجنه ويجبر خاطره كما جبر خاطري وان يبارك له في تجارته كما اتامل حاله وحال بعض التجار في وقتنا الحالي !!!

أسال الله الهدايه لنا جميعاً وسعه الرزق

صقر الملحم

   

الگاردينيا: كل الشكر للأخ الأستاذ منذر الدوري لأرساله هذه القصة المعبرة الرائعة لنا..

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

759 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع