ينقل الى مخفر شرطة بصيَّة !!!

       

                   

إنفرد الوزير سمير الشيخلي في زمانه من بين كافة وزراء الداخلية في الزمن السابق ، بأنه إستطاع من القضاء جزئياً إن لم نقل كلياً على الرشوة المتفشية عند البعض من أبو إسماعيل وبمختلف درجاتهم ( شرطي ، مفوض ، ضابط ) ،

وإبتدع وإنتهج إسلوب ذكي جداً للقضاء على هذه الظاهرة الملازمة للشرطة العراقية منذ تأسيسها عام 1922 ،ومن دون أن يفرض العقوبات الإنضباطية أو تشكيل المجالس التحقيقية والإحالة للمحاكم والسجن أو قطع الراتب أو الضرب بالأيدي أو الركل بالقدم أوالتوبيخ باللسان أوبكلمات نابية ...
فعندما يتأكد من أن فلان من المنتسبين أو الضباط قد إستلم رشوة ومقرونة ببراهين
أو بمسك اليد ، يستدعيه أو يذهب لمقره ويعرض له الأدلة ، فينهار المضنون أمام الوزير ويعترف بجنحته ، فيقوم السيد الوزير بإصدار أمر تنسيبه أو إستخدامه لفترة شهرين
أو أكثر في ( مخفر شرطة بصيَّة ) !مع تبليغه بمضاعفة فترة إنتدابه في حالة التكرار .
يعود المدان من ( مخفر شرطة بصيًّة ) بعد قضاءه للفترة المحددة لإنتدابه إلى مقر عمله ليعلن أمام زملاءه بأنه تاب كلياً من تعاطيه للرشوة ، وينصحهم بتجنبها ، ويقص عليهم كيف قضى أيامه ولياليه في ( مخفر شرطة بصيَّة ) !
من المؤكد أن أغلب أصدقائي الأعزاء ليست لديهم المعلومات عن( مخفر شرطة بصيّة).
يقع هذا المخفر في بادية محافظة المثنى الصحراوية ويبعد عن مدينة السماوة بحدود 150 كيلومتر جنوب غربها ، ولا يوجد طريق يؤدي له ، والوصول له ومنه يستوجب مرافقة دليل أو بواسطة الخريطة والقنباص( البوصلة أو الحك) لتسهيل السيربالصحراء في الإتجاه الصحيح ، وهو مرتبط بشرطة الكمارك ، وموجوده من الأشخاص لا يتجاوز الخمسة منتسبين من الشرطة وضباط الصف يعتاشون على الأرزاق الجافة فقط لصعوبة وصول اللحوم أو الخضراوات لهم ، بقربهم قرية صغيرة جداً من بيوت الشعر للبدو الرحل وأغلب الأشهر تكون خالية لخروج أصحابها إلى البر لرعي ماشيتهم وإبلهم ، والمخفر لا يصله الكهرباء وليس فيه مولدة ، ولا يوجد إتصال هاتفي سوى جهاز لاسلكي من نوع مورس والذي كان يستخدم في الحرب العالمية الأولى .
أما مساحة بناءه فلا تتجاوز ال 60 مترا مربعا ومسقف بجذوع النخيل وحصران القصب وسعف النخيل ومكسو سطحه بالطين الحر والتبن .
وتصل للمخفر كل اسبوعين سيارة حوضية لإملاء خزان الماء ذو سعة متر ونصف مكعب من الماء على أن يقتصدوا في استخدامه لأغراض الشرب وعمل الشاي والطبخ وعجن طحين الخبز فقط !
وتكثر حول المخفر وداخله الأفاعي والعقارب الصفراء والسحالي والأرول والغريرية ( قط وحشي ) وأنواع الحشرات والخنافس السوداء اللمّاعة مع بعض الذئاب والواوية !
أما كيف تعرف سيادته على هذا المخفر ؟

            

ففي الدوام المسائي لأحد الأيام إصطحبني معه إلى مديرية الحدود العامة لغرض وضع خطة في غرفة العمليات لنصب الكمائن للقبض على مهربي الأغنام للسعودية وإخراج الدوريات من قبل وحدات شرطة الكمارك والتي كانت مرتبطة بالحدود آنذاك
وبحضور عدد من القادة والضباط ومنهم أللواء سوريان توفيق مدير الحدود العام بالوكالة
والعقيد إبراهيم علاوي خلف مدير شرطة الكمارك ،فعند إيجازي للموقف وتحديدي للمسالك المتوقعة للتهريب في صحراء المثنى على خارطة مقياسها 1 / 000 250 ، لاحظ السيد الوزير وجود نقطة صغيرة جدا في الصحراء وسألني : ما هذه النقطة ؟ فأجبته : سيدي هذا موقع مخفر شرطة بصيّة ، فسألني : هل زرته ؟
فقلت له : نعم ولعدة مرات عندما كنت مدير الحركات في الحدود ،
فقال : ألف رحمة لوالديك مقدم غازي ، خلصتني من مشكلة كنت أفتش عن حل لها ،
ومن نرجع للوزارة نسولف بيها بالطريق !!!
وفي طريق العودة كنت جالس بجانبه وهو يقود سيارة المارسيدس ويجلس مرافقه المفوض عبود في المقعد الخلفي ،سألني عدة أسئلة وأجبته بما ذكرته أعلاه ، وكان عند كل إجابة يضحك بصوته المعروف ، وفي نهاية إستنطاقي قال لي : مشكلتي هي عدد من الضباط والمفوضين المرتشين والمهملين لواجباتهم !
وما أرغب أن أكسر ظهرهم وأحيلهم للمحاكم أو أقطع رزقهم ورزق عوائلهم بقطع الراتب أو السجن ،وأحسن حل هو أن أدزهم ( بعثه عمل ) كم شهر في مخفر بصيّة حتى من يرجع يشتغل مثل ساعة الرولكس ويضحك ههههههها ثم قال لي :
سأطلب من اللواء محمد فالح مدير عام الإدارة بأن يتصل بك لتخبره عن الاشياء الضرورية التي يستوجب على الموفد للمهمة أن يصطحبها معه لتمشية أموره هناك .
وفعلا إتصل بي اللواء محمد فالح وسجل الاشياء الضرورية لكي يأخذها معه الموفد
وهي :
نصف كيلو بطنچ لنثرها بفراشه وتحت المخدة وفي جيوب ملابسه والحقيبة لطرد الأفاعي
شراء بيت فراش مع دوشك سفري
عصا طويلة كالهراوة ( دونكي ) للدفاع عن النفس من الواوية والقط الوحشي
مصباح يدوي مع باتريات إحتياطية ( تورچ لايت )
وجهاز تبريد يدوي ( مهفه )
ضماد ميدان وقطن طبي ومعقم ضد لسعات العقارب
حبوب قابضة للإسهال
كفوف واقية لجمع الحطب وشي الخبز بالتنور
حبوب مهدئة ( پروفين )
عدم استخدام الشحاطة ( النعال ) ليلا تحسباً من لدغة العقرب
راديو ترانسستر صغير
المهم ... بعد أن كان موجود المخفر خمسة من أفراد شرطة الكمارك ، أصبح موجود الضيوف 16 مفوض و 35 ضابط من رتبة ملازم وحتى رتبة عقيد ومن صنوف المرور والجنسية والجوازات ومكافحة الإجرام والشرطة المحلية والنجدة ،مما إضطرنا لتجهيز المخفر بستة خيم من حجم 180 باون وخيمتين من حجم 400 باون مع ثلاثة خزانات للماء سعة الواحد متر مكعب .
أما الجدوى من هذا الإيفاد فقد كان رائعاً حيث أدى إلى إنخفاض مستوى تعاطي الرشوة والإهمال بالواجب بنسبة كبيرة جدا بين كافة منتسبي الشرطة .
والحمد لله عاد الجميع من المخفر إلى مقرات عملهم الرئيسية بسلام من دون أن تلدغهم أفعى أو عقرب لا سامح ألله .
لقد كان سمير الشيخلي أكفأ وزير قاد بحنكته أصعب وزارة في العراق .
ملاحظة :
كانت قيمة الرشوة العينية أو النقدية تتراوح ما بين ٥ دنانير و ١٠٠ دينار آنذاك والتي تعادل ما بين ١٥ إلى ٣٠٠ دولار.
منقول من موسوعة تاريخ بغداد والعراق  والمصدر غازي عزيزة

        

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

415 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع