شارع.. محمدعلي.. شارع العوالم ومدرسة الفنانين!

 

شارع محمد علي هو الاسطورة الخالدة في تاريخ الفن الشعبي والمدرسة الاولى التي  تخرج فيها عشرات الفنانين الذين لمعت اسماؤهم على الستار الفضي!

وشارع محمد علي ببواكيه المصرية، ومشربياته العربية الاصيلة، كان – منذ 76 سنة – اعظم شوارع القاهرة!


فقد أنشئ سنة 1873 في عهد الخديو اسماعيل، ليصل بين القلعة ومحطة مصر، وشارع كلوت بك، الذي يبدأ من العتبة الخضراء وينتهي في المحطة، هو امتداد لشارع محمد علي!

حي الفن
والبواكي التي تمتد من شارع كلوت بك الى نهاية شارع محمد علي بالقلعة يجب ان يعاد ترميمها وبناء بعضها ليحتفظ الطريق الذي انشأه الخديو اسماعيل – بطابعه العربي الخالد.
وبواكي شارع محمد علي انشئت بهيئتها هذه لحكمة رآها المهندس العربي القديم، فهي تحمي المشاة من حرارة الشمس صيفا ومن هطول الامطار في الشتاء!
وشارع محمد علي  - في الجزء الذي ينحصر بين ميدان باب الخلق وميدان محمد علي، هو المكان الذي اختاره الممثلون والمطربون وسائر اهل الفن لإقامتهم ليكونوا على مقربة من القلعة وكانت حي الكبراء والعظماء ورجال الاعمال، وليكونوا ايضا على مقربة من محطة مصر.
والتمثيل والرقص من الفنون التي بدأت حقيرة في نظر الناس، وكان الممثل والمغني والراقصة يعتبرهم المصريون كفارا ويعفرونهم بالتراب!
والفنانون القدماء الذين جاهدوا وكافحوا في سبيل الفكرة، هو اولى الناس بتماثيل تقام في هذه المنطقة من المدينة التي شربت المر في كؤوس من ذهب.

قصص أليمة يرويها شارع محمد علي!
وقصة الفنان البائس الذي جاءه نعي ابنه في قهوة الفنانين بشارع محمد علي – لا تزال على ألسنة سكان هذا الشارع،وتمالك الرجل اعصابه وخرج من المقهى بهدوء ليبحث عن نقود، ولكنه لم يجد فعاد مرة ثانية للمقهى ليجد وجيها يدعوه للغناء في حفلة زفاف!
ولم يرفض الفنان البائس الدعوة، ولم يبد عليه شيء، فقد كتم الحزن في قلبه.. وغنى في تلك الليلة غناء ابكى جميع الناس، وعندما طلع الفجر ذهبوا معه ليعزوه في ابنه الراحل!
ولا تختلف هذه القصة كثيرا عن قصة الفنان العظيم الذي كان يغني في حفلة زفاف ابنه الوحيد وفي اثناء غنائه على المسرح تقدم اليه احد اقاربه ومال على اذنه وبلغه النبأ المفجع.. فقد سقط العريس ميتا قبل ان يزف.. وتمالك الفنان العظيم عبده الحمولي قواه، ولم يشأ من فرط كرمه ان يعلن هذا النبأ الاليم على ضيوفه الذين كانوا يستمعون اليه في نشوة.. وظل عبده الحمولي يغني حتى الصباح فأبكى الناس واستطاع دون ان يشعر بأن يقلب بغنائه الفرح الى مأتم..

لولا الترام لكان شارع محمد علي قطعة من الجنة!
والفن الشعبي من غناء ورقص وتمثيل وألعاب بهلوانية وموسيقى بانواعها المختلفة، اربابه في شارع محمد علي، وهم يتخرجون بالدور، ويمتازون بالتواضع والحياء ويحترم الواحد منهم كفاح زميله!
وفي شارع محمد علي لا يذم فنان فنانا، ولا تذكر الفضائح علنا في مقاهي شارع محمد علي كما تذكر في شارع عماد الدين!
ولولا مرور الترام وكثرة السيارات والعربات في شارع محمد علي لكنا نمشي فيه، فلا تسمع سوى اصوات الموسيقى الخارجة من شبابيك البيوت!

مدينة العوالم!
ودرب العوالم او مدينة العوالم لها تقاليدها الموروثة ودستورها المحفوظ عن ظهر قلب،"والعالمة"هي رئيسة الفرقة، وتختلف كل فرقة من الاخرى من الناحيتين المالية والادبية، باختلاف العالمة نفسها ومدى استعدادها للنجاح!
والعالمة فنانة تخصصت في اقامة الافراح، والفنانون الذين يحتفلون بزفافهم او زفاف ابنائهم لا تحيي افراحهم ولا تغني"زفة العروسة"سوى عالمة من شارع محمد علي!
والعالمة في – مدينة العوالم – يسمونها"الاوسطى"وفيهن الاوسطى التي تأخذ في الزفاف مئة جنيه، وفيهن الاوسطى التي تقيم في غرفة لا يدخلها النور والشمس والهواء!
وكانت العالمة – في ما مضى – غنيّة او فقيرة لا تستعمل في مواصلاتها سوى العربة الكارو، أما الآن فتقود الغنية سيارتها بنفسها، وتركب الثانية الترام بفستان السواريه!

أكبر"نقطة"دفعت لعالمة حتى الآن!
وأكبر نقطة دفعت لعالمة في حفلة زفاف هي"الصرة"التي قدمها الوجيه قاسم الشريعي لنعيمة عبده وفيها 250 جنيها في حفلة زفافه!
وتحتفظ نعيمة عبده في منزلها بصندوق يحتوي على الجواهر والاحجار الكريمة والمصوغات التي اهديت اليها في فرح كريمة رفعة حسين سري باشا، ومن هذه الهدايا قطعة ذهبية نادرة من فئة الخمسة الجنيهات اهداها اليها احمد محمد باشا الجواهرجي بمناسبة زفاف ابن شقيقته!

زهرة الإسكندرانية تؤجّر المصوغات للعوالم!
والعوالم – في ما مضى – كنّ يسطحبن اطفالهن في الافراح، وتجلس الراقصة او المغنية ترضع وليدها امام المدعوين ثم تخرج به قليلا لكي يسكت عن البكاء والصياح!
وكنّ لا يجلسنَ إلا على"الشلت"في الارض، اما العالمة الآن فتشتري بدلة الرقص بخمسين او ستين جنيها!
وكانت المعاملات بين العوالم واصحاب الافراح مقصورة على العربون – اما الآن فيحرر عقد اتفاق بين الطرفين!
وتغني العوالم بمظهرهن امام الناس، وقد ادى ذلك الى ان احترفت احدى السيدات واسمها زهرة الاسكندرانية – تأجير مصوغات وقطع ذهبية للعوالم بواقع خمسة او عشرة قروش عن كل قطعة ذهبية في الليلة الواحدة.

العصر الذهبي لمدينة العوالم!
ودرب العوالم كان الى عهد قريب ملكا لاسرة الشريعي، وتسكنه العوالم والمطيبانية، كما تسكنه الشيخة زينب المقرئة والمغنية في وقت واحد!
ومن العوالم من تشارك الناس في افراحهم – كما تشاركهم في مصائبهم وافراحهم، فتراها تغني وترقص في الافراح، وتندب وتلطم وتعدد مآثر الراحلين في المآتم.
والعصر الذهبي لمدينة العوالم، هو العصر الذي كانت فيه بمبة كثر ولعينة الصيرفية ونبوية شخلع وزينب الوطنية وانيسة المصرية يتنافسن فيه على اقامة افراح الذوات في القاهرة والعائلات الكبيرة في الوجهين البحري والقبلي!

مدينة العوالم تشكو فداحة الضراب!
ومن العوالم من تتقاضى مئة جنيه في الحفلة ومنهن من تتقاضى هي وفرقتها جنيها واحدا فقط.
والطبقة الفقيرة من سكان مدينة العوالم – تشكو فداحة الضريبة التي تفرضها عليها مصلحة الضرائب!
فالاوسطى هانم احمد حسن الشهيرة بأم رشدي، تقاعدت منذ ست سنوات ومازالت تدفع الضريبة الى الآن!
وتقول الاوسطى زكية عطية حسين انها قدمت من السويس منذ سنتين، ومع ذلك طالبتها مصلحة الضرائب بدفع ضريبة كسب العمل عن ثلاث سنوات!
وبعد، ان المدرسة التي تخرج فيها شكوكو وسامية جمال واسماعيل ياسين وشرفنطح ونبوية مصطفى وعلي الكسار، وغيرهم من الوجوه التي لمعت على المسرح والستار الفضي – لا تزال تقدم للسينما والمسرح وجوها تنتظر دورها في المجد والشهرة!

جليل البنداوي

آخر ساعة/
كانون الاول- 1950

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

987 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع