الكهرمان قيمة خالدة.. وإلى الأبد..
ذهب الشمال..
جولييت هايت*:على الرغم من اختلاف أشكاله وألوانه، يبدو أن قيمة الكهرمان ثابتة على مدار العصور. من أميركا الجنوبية إلى إيران، تثير القيمة المرتبطة بالكهرمان الاهتمام بسبب انتشاره الدائم عبر الزمان والمكان.
في ليالي الشتاء الشمالية الطويلة الباردة منذ آلاف السنين، كان الكهرمان شمسا ساطعة في حد ذاته. استحق الكهرمان بألوانه الحيوية المتألقة ودفئه الباهر لقب «ذهب الشمال». ولكن هناك ما هو أكبر من روعة رؤية الكهرمان.. إنها قوته «السحرية» والعلاجية بالإضافة إلى ندرته النسبية التي جعلت ثمنه باهظا مثل الذهب.
معظم الكهرمان المتوفر حاليا مصدره بحر البلطيق. إن ذهب الشمال قديم قدم التلال والأشجار والبحار، لأنه عبارة عن راتنج “صمغ” متحجر من أشجار صنوبرية قديمة، انقرضت الآن، قبل أن يضع الإنسان قدمه على الأرض بمدة طويلة. وتدريجيا تحجر الراتنج اللزج وعندما ماتت الأشجار وأخيرا سقطت على أرض الغابة، وقع الراتنج على الأرض حيث ظل لمدة 20 أو 30 مليون سنة تالية. وعلى مدار الألفيات، تحجر الراتنج ليصبح الحجر الكريم ذا اللون الأصفر اللامع المعروف باسم الكهرمان.
في حالته الطبيعية، يوجد الكهرمان في عقديات غير منتظمة، بعضها صغير أو كبير للغاية، في قطع قد يصل وزنها إلى كيلوغرامات عدة. إذا لم يشكل تعرض هذه القطع إلى العوامل الخارجية طبقة داكنة حول القطعة، سيكون لونها الذهبي الرائع واضحا على الفور. ولكن كما تتميز كل قطعة كهرمان بفرديتها، لا يوجد قطعتان لهما نفس الحجم أو الشكل أو البريق، لذلك يتدرج لون الكهرمان بصورة ملحوظة. وتتنوع الألوان من الأبيض بدرجة الحليب إلى الأصفر الفاتح إلى لون شراب السكر إلى لون الخمر الثري، وهناك أيضا جميع درجات اللون الأحمر من القرمزي الفاتح إلى اللون العنابي.
تتغير تفضيلات الألوان مع تغير اتجاهات الموضة، حيث فضلت النساء في روما القديمة الكهرمان ذا اللون الذهبي المائل إلى الأحمر، في حين أنه في القرن التاسع عشر كان اللون الأبيض بلون الحليب يزين أعناق الجميع. أكبر مصدر للكهرمان في جنوب شرقي آسيا هو البروميت من بورما، ومن أشهر ألوانه وأكثرها رواجا الأحمر الفاتح. ووفقا لنصوص قديمة، كان يطلق عليه اسم روح النمر. وكان يحظى بتقدير بالغ في الصين، حيث نقش عليه ببراعة فنية مدهشة ليتدلى من القلادات وزجاجات السعوط والتماثيل الصغيرة. يمكن جمع الكهرمان الصقلي، المعروف باسم سيميتيت، في الوقت الحالي، وهو نادر للغاية، ويتوفر في مجموعة غير عادية من الألوان ويلمع ببريق باهر. كان الكهرمان الروماني أو الرومانيت، الذي غالبا ما يتسم باللون الأصفر الفاتح النقي، أغلى الأنواع سعرا في بلاد فارس وتركيا بسبب تجزعاته الداخلية الملحوظة بسبب الضغط الجيولوجي، مما يضفي تأثير اللؤلؤ. وقد اعتلى هذا الكهرمان صدارة الموضة الأوروبية في بداية القرن بفضل رعاية العائلة الملكية البريطانية.
وفي أميركا الجنوبية، كان الكهرمان سلعة تجارية مهمة، ووجدت شظايا منه على مذابح معابد الازتيك والمايا القديمة، حيث كان يُحرق كبخور ويُرصع به الذهب. ويميل الكهرمان المكسيكي إلى اللون الذهبي الثري، في حين يتميز الكهرمان القادم من جمهورية الدومينيكان، الذي يغرق الأسواق حاليا، باللون البني المنقط، بسبب بقايا قديمة تجمعت داخل اللون الأصفر النقي. وقد أشار إليه لأول مرة كريستوفر كولومبوس في القرن الخامس عشر، وهو ما زال موجودا تحت أراض وعرة غادرة، في مناطق مجاورة للجبال مغطاة بغابات استوائية. وتختلف أنواع الكهرمان من حيث درجة الشفافية أيضا، حيث تتسم بعض القطع بنقاء كالكريستال، بينما تبدو أخرى معتمة أو غائمة، وأخرى شمعية وغير ملساء. ويتم أخيرا تقطيع بعض من أكثر المجوهرات أناقة لإزالة الأسطح الخام، لتتناقض في القطعة ذاتها مع جوانب مصقولة جيدا. وغالبا ما يحتوي الكهرمان على حشرات حبست فيه منذ ملايين السنوات.
هل كانت مكافأة الضرب على الرأس والسحب إلى كهف في العصر الحجري القديم سلسلة من حبات الكهرمان؟ بالتأكيد. لقد اكتشف الكهرمان في كهوف في بريطانيا وجنوب أوروبا منذ العصر الحجري (450.000 إلى 12.000 قبل الميلاد). ومع تحسن درجات الحرارة وقلة برودتها، انتقل الصيادون الرحالة شمالا إلى بحر البلطيق، ويوجد دليل على أن رجل العصر الحجري الحديث “الميزوليتي” استخدم الكهرمان في الجواهر (ما بين 12.000 و4.000 قبل الميلاد). وبقيت دلاية من الكهرمان، بلونها الأصفر الأصلي حيث حفظت في مستنقع دنماركي، تحمل صورا بشرية بالإضافة إلى أشكال حيوانات رسمها هؤلاء الصيادون القدامى.
في جميع أنحاء شمال أوروبا أثناء العصر الحجري الحديث، كان الكهرمان المادة المفضلة لصناعة المجوهرات، وأضفى دفن هذه الجواهر الذهبية الرائعة مع بعض السيدات فكرة القيمة المتعلقة بها. وعثر في إحدى المقابر على عقد يبلغ طوله حوالي ثلاثة أمتار وهو مصنوع من 650 حبة من الكهرمان. حمل تجار الكهرمان الجسورون الحجر الكريم عبر جبال الألب إلى شمال إيطاليا، حيث تجاوزوا اللصوص والعديد من المخاطر الأخرى ليصلوا إلى بلاد الإغريق الميسينية. ويظهر الكهرمان فجأة، وبكمية كبيرة نحو عام 1.600 قبل الميلاد حتى عام 1.200 قبل الميلاد في قبور ملوك وأمراء الدولة الميسينية في إقليم بيلوبونيز (بالإضافة إلى كمية كبيرة من الذهب والعقيق الأحمر والأحجار الكريمة “الجمشت”). بعد ذلك كانت هناك فجوة مدتها نحو 400 عام، لم يكن الكهرمان فيها متوفرا أو عصريا، فقط ليظهر من جديد في شكل رائع في الدولة الإغريقية القديمة نحو القرن الثامن قبل الميلاد. وانتشر استخدام الكهرمان لترصيع الذهب والعاج للقادرين، ولغير القادرين لترصيع الدبابيس المصنوعة من البرونز، والتي كانت تلقى رواجا لدى الرجال والنساء.
كانت الحياة في روما القديمة محفوفة بالمخاطر، وقتل الإمبراطور نيرون (56 – 68 ميلاديا) زوجته الأولى من أجل الزواج من بوبيه سابينا. وكانت هذه المرأة شقراء، وهي سمة غير منتشرة في منطقة البحر المتوسط، وكتب الإمبراطور ذاته قصيدة عن شعرها يصفه فيها بأن له «لون الكهرمان». وأصبح ذلك موضة سائدة على الفور، حيث تم حلق رؤوس العبيد أصحاب الشعر الأشقر بلا رحمة لصناعة شعر مستعار للأثرياء، وأصبح الكهرمان في حد ذاته رمزا للرفاهية الأنيقة. أصبحت المجوهرات الأنيقة، مثل الأقراط الثقيلة التي تحمل أشكالا مصغرة لكيوبيد أو فينوس، من الضروريات، بل وكذلك أدوات الزينة الفاخرة. وامتلكت السيدات سعيدات الحظ قوارير للعطور، وآنية ذات أغطية دقيقة لأدوات التجميل، ومقابض مرايا، كلها مصنوعة من الكهرمان المستورد أساسا ثم صنع في مدينة أكويليا.
هناك آلاف من الأمثلة عبر التاريخ على استخدام الكهرمان في حماية وعلاج الإنسان والحيوان. أحد تلك الأمثلة يتعلق بلوكريسيا بورغيا، التي كانت تملك خاتما ذهبيا له ستة مخالب من الذهب تحمل ثعبانا منحوتا في الكهرمان. ومن الكهرمان الأحمر البراق، نحت رأس الثعبان ولسانه الذي يوشك أن ينقض على الفريسة. في الأسفل كان هناك نتوء صغير، يبث السم من مكان خفي داخل الخاتم.
كان أباطرة إيران عادة ما يرتدون خرزة من الكهرمان لحمايتهم من الاغتيال، ولكن لم يعثر على أي منها عندما سلمت جواهر التاج إلى الدولة بعد الإطاحة بالشاه الأخير. اليوم، تتمتع جواهر الكهرمان بنهضة غير عادية. لقد حققت القطع المصنعة حديثا مثل تلك التي صممها كوبرا أند بلامي من لندن درجة عالية من الإبداع. وتلقى القطع الأقدم رواجا لا ينتهي على ما يبدو، بخاصة إذا برزت القطعة بصورة غير تقليدية واجتذبت محبي الاقتناء. ويبدو أن جاذبية الكهرمان تستمر إلى الأبد، مع كل الغموض الذي يكتنف خصائصه.
*كاتبة ومصورة متخصصة في التراث والثقافة المعاصرة في الشرق الأوسط. تعمل حاليا على تأليف كتابها الثاني «تصميم عمان»، بعد أن نشرت كتابها الأول «اللبان: هدية عمان إلى العالم» عام 2006.
1251 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع