ألـوان من أدب تــورغينيـف

                                         

               إعداد أ - د. آيات يوسف صالح             
              كلية اللغات - قسم اللغة الروسية  
       

الأدب الروسي على حداثة عهده من أرقى الآداب العالمية، وأصدقها تعبيرا، وأوفرها إخلاصا وأبعدها غورا، وأصحها تصويراً للخوالج المختلفة والإحساسات المتغايرة، وأقواها كشفا عن خفايا النفس وغوامض الوعي. لم تُخرج روسيا شعراء من طراز شكسبير، ولا فلاسفة من طبقة كانْت وهيكَل، وإنما أخرجت طائفة من عظماء الروائيين مثلوا عبقريتها أحسن تمثيل، وعبروا عن تفكيرها وإحساسها في بدائعهم الفنية.
بلغت هذه النهضة الأدبية المأثورة ذروتها في واقعية تورغينيف ودستوفسكي وتولستوي، وهؤلاء الثلاثة هم أكبر ممثلي الأدب الروسي، ومن أعظم الشخصيات البارزة في الأدب العالمي قاطبة. وسنتوقف في هذه المقالة عند تورغينيف الذي أبدع في وصف الطبيعة بشكل مميز ووصف المرأة المحبة، الرومانسية، الرقيقة والطيبة، وكشف من خلال ابطال رواياته وقصصه دواخل ومكنونات الإنسان وفلسفته للأحداث في ذلك الوقت .
ولد تورغينيف عام 1818 في أورل بروسيا الوسطى من أسرة معروفة، ويعزو بعض النقاد قدرته على وصف الطبائع الجبارة والنفوس الطاغية - برغم ما عرف عنه من ليونة الطبع وسلاسة الأخلاق- الى وراثته العقلية من ناحية والدته، فقد اشتهرت بالقسوة والصرامة، وكانت لا تحتمل سماع فكرة مناقضة لفكرتها، ولا تطيق أن ترى إرادة واقفة في سبيل إرادتها وقد أثرت شدتها وتعسفها أيما تأثير في نفس تورغينيف الرقيقة الحساسة، ونبهت فيه مقت الظلم والجور، وحب الانتصار للمقهورين في حومة الحياة.
برع تورغينيف في مجال الوصف الخارجي الدقيق وهو يكتفي به ولا يسرف في التحليل. والذي يميز تورغينيف عن أقرانه من الروائيين الروسيين هو براعته في البناء الروائي، ووضوح النسب والتقاسيم، وتوزيع الظلال والأضواء، ووضوح الحبكة الروائية. وقد لقى كتاب " مذكرات صياد " نجاحا عظيما وإقبالا مشجعا، وكان من أسباب إلغاء قانون العبودية في روسيا حين ذاك، وقد شجعه توفيقه في ذلك الكتاب على المضي في وضع الروايات والقصص والمسرحيات، وجميعها الآن من ذخائر الأدب الأوربي وكنوز الأدب الروسي. كتب تورغينيف ست روايات هي: " رودين، عش النبلاء، الآباء والبنون، في العشية، الدخان، الحرث "، كذلك كتب مجموعة من الأقاصيص منها: " فيوض الربيع، " الحب الاول "، " آسيا"،  "فاوست" وغيرها من القصص الحافلة بالجمال والشعر والإبداع الفني، وقراءتها - في اعتقادي - متعة من أجمل المتع التي تتاح لنا في هذه الحياة الأرضية الزائلة والفانية. لدى تورغينيف مقدرة خاصة قليلة النظير في وصف عاطفة الحب وتحليلها، وهو يكشف عن دخائل اشخاص رواياته ويستجلي نفسياتهم في ضوء تلك العاطفة، وقد كان يعلم ببراعة تلك المشاعر الصادقة وشاعريته العامرة الملهمة أن تلك العاطفة الإنسانية العظيمة هي مفتاح النفوس ومحك الطبائع. ولا يمكن ان يغيب عن قارئ روايات تورغينيف وقصصه ذلك الأسى المكبوت والحزن الصامت الذي يسري في تضاعيفها، وقد كان الشعور بالملل من الحياة وتفاهة مساعيها يقوى ويشتد في نفس تورغينيف كلما تقدم به السن وكثرت تجاربه وخابت آماله في الإنسانية، وربما كان من بواعث تفاقم هذا الشعور الأليم ذلك الحب اليائس الذي ملك نفسه ولم يستطع الخلاص منه طوال حياته، وهو حبه لمدام فياردوه المغنية الفرنسية التي لم تستطع أن تبادله حبا بحب واكتفت بأن تلحقه في عداد أصدقائها والمعجبين بها.
عندما ندخل أعماق روايات وقصص تورغينيف نشعر بكل جملة في كل صفحة من صفحاتها بحزنها وفرحها بترحالها ومكوثها بانفعالاتها كلها، فهي تتمتع برؤية شمولية للمجتمع وبنية فنية متميزة ودلالة عميقة، وبذلك نرى أن تحليل الصورة الشخصية في الروايات والقصص تعطي لنا صفات شمولية على نحو علمي دقيق يفضي أنها تتمتع بالسمات الفنية والفكرية، وأن مثل هذه الروايات والقصص المهمة التي تحمل أكثر من رسالة هي نوع من الأدب الروائي اللفظي الشفاهي الذي لا ينتمي الى العمل الروائي الإعتيادي والتي تقتصر فيه حركة الشخوص على حالة معينة أو حالات وينجز أو يتخذ منه مهاد العمل زمنا محددا، لذلك فأن هذه الروايات والقصص عند تورغينيف تعد " بانوراما "، إذ تتسع لتقف عند كل جملة من احداث متعددة يعرضها الروائي عن طريق الحوار والمناقشة والتذكير للحديث عن تاريخها وتقاليدها وعاداتها.
تعد روايات وقصص تورغينيف قمة الإنتاج الفكري والفني في رسمه للصورة الشخصية للمرأة والذي عكس فيه الحب الإنساني بشكل فني رائع ووظف هذا الحب في خدمة قضايا الانسان في تطلعاته من أجل مجتمع إنساني حق، حيث وصف تورغينيف الطبيعية الإنسانية من خلال الصور المتحركة على الشخوص والتي إنتقلت من هنا وهناك بأدوار تراجيدية وكوميدية.
لا يمكن أن نسمي فلسفة تورغينيف رفضا كاملا للحياة أو تشاؤما محضا، ففي رواياته صفحات تتفجر خلالها ينابيع الحب والعطف، وتنبض بحب الإنسانية والإيمان بالخير، وقد كان يكدر صفاء نفسه ويؤلم روحه العذبة ما يواجهه من سخافة الناس وغبائهم وحمقهم وقذارة نفوسهم فيغمر الحزن نفسه.
والسر في هذا التناقض أن تورغينيف كان فيه جانبان مهمان يتنازعان ويتصارعان ويتبادلان الغلبة على نفسه، وهما جانب هاملت وجانب دون كيشوت، أو جانب الشك واليأس من الإنسانية والمثل الأعلى، وجانب اليقين القوي والأمل المتين والإيمان بالكمال، وكان تورغينيف يعلم ذلك من نفسه , ولعل ذلك هو الذي يحثه على كتابة رسالته البديعة التي لا تجود بها سوى عبقرية كعبقريته عن" هاملت ودون كيشوت"، وفي اعتقادي أن جانب هاملت كان أقوى في نفس تورغينيف من جانب دون كيشوت، وكان تورغينيف نفسه يؤثر جانب دون كيشوت ويكبره ويرجحه على هاملت، ونموذج دون كيشوت في رأيه يعيش للغير ويعمل لخير الإنسانية ويجهد لتحقيق مطالبها السامية، ويحاول أن يستأصل الشر، أما طراز هاملت فهو يمثل عنده الشك والتردد والتحليل والأثرة وكثرة الاشتغال بالنفس والعكوف عليها وجعلها قبالة الناظر ليلا ونهارا، وكان يقين دون كيشوت أحب الى قلبه من سخرية هاملت.
وجدير بنا أن نشير هنا الى مكارم أخلاق تورغينيف، فقد أجتمعت آراء أصحابه ونقاده على ما كان يتجمل به من نبالة الأخلاق ومحمود الشيم والترفع عن الأثرة الضيقة. ومن دلائل ذلك تشجيعه الدائم لأنداده ومنافسيه من كبار الكتاب والتحدث بفضلهم، وكثيرا ما كان ينكر نفسه ويتناساها في هذا التشجيع الكريم، ولم يقتصر تشجيعه على كبار الكتاب بل كان يعمل على أبراز محاسن المؤلفين المغمورين ويحاول استخراج نفائسهم والغوص على دررهم، وكان يمقت عمل النقاد الذين يحشدون قواتهم ويأخذون أهبتهم لهدم كل مؤلَّف جديد والتعرف على محاسنه وإظهار نقائصه وأماكن الضعف فيه، وطريقة تورغينيف جديرة برجل مثله باحث عن الحق والجمال والخير، وهي أحكم وأدق من غيرها لان كل كاتب مهما صغرت قدرته له ميزة خاصة وصفة فردية ليست لغيره، والوقوف عليها يستدعى بصيرة ودقة في النقد، ويزيدنا علما بالنفوس وحالاتها، فهي أمَس بالنقد الصحيح اذ ليس الغرض الأصيل من النقد هو تقصي العيوب، والكشف عن المساوئ، وإنما غايته الوزن الصحيح والتقدير الصادق.
أشعاره المنثورة قليلة النظير في الآداب العالمية، ولا يكاد يفوقها شيء في سلاسة الأسلوب وبراعة الأداء وجماله وروعته، وتتجلى فيها قدرة تورغينيف الفنية على مزج الفكرة بالصورة،  وهي تكشف عن شاعريته الفياضة، وإنسانيته العميقة،  ونظراته النافذة وفلسفته الشاملة المستوعبة، وحكمته الناضجة، وسخريته الرقيقة، وشجوه بالحياة , وإحساسه بجلالها وخطورتها.
كانت رسالة تورغينيف هي رسالة سلام، وكان كما جاء في سفر أيوب " ينشر السلام في البقاع العالمية " وما كان في الغير سببا للخلاف صار فيه مبدأ التوافق والاتساق، وفي صدره الرحب كانت تصطلح المتناقضات، وكان فنه الساحر ينتزع السلاح من الكراهية والنقمة، لذا صار مفخرة عامة لمدارس بينها الكثير من اختلاف الآراء.
 كانت تربط تورغينيف فلسفة وجودية إنسانية عالية تجمع بين العقل والقلب وتنظر بعين جريئة الى حالات الوجود الإنساني وتبحث وراء الحقيقة من غير تحيز ولا تعصب، وقد اتجهت به هذه الفلسفة الى الحنان والدعة والفرح بالحياة والعطف على اخوانه البشر ولا سيما المظلومين المضطهدين، وكان يحب الإنسانية البائسة حباً جماً، تلك الإنسانية الضالة في اغلب الأوقات والتي كثيرا ما يخونها قادتها، وكان يكبر حركتها التلقائية الى الحق والاستقامة، ولم يرد أن يستمتع بأوهامها ولم يكن به رغبة في أن يطيل الشكوى منها، ولم يكن من طبعه السخرية بالمعذبين، وكان يعلم علما ليس بالظن ان العدالة تستطيع أن تنتظر وأن كل شيء في النهاية سيعود إليها وكانت كلماته الحياة الخالدة،  كلمات السلام والعدل والحب والحرية.

               

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

832 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع