أَيــامُ أَبــي (سيرة .. وذكريات) ح٤

                                               

                         د.عبدالستار الراوي

             

                    


                   أيام أبي الحلقة الرابعة

راوة من  ثورة العشرين إلى  مقاومة الاحتلال الامريكي

 بعد أن طرد مقاتلو ثورة العشرين الحاكم البريطاني من عانة ، نصبوا الشيخ الثائر نجرس الكعود لادارة القضاء، واتجه الثوار بعد ذلك  إلى راوة حيث نزلوا ضيوفا عليها، وفقا لتوثيق الدكتور علي الوردي  لدور راوة في ثورة العشرين ومؤازرة رجالها كما ورد في الجزء الثالث من كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) ـ
وكان بحوزة  راوة مدفعا عتيقا من مخلفات الدولة العثمانية ينتصب غلى ذروة القلعة ، تم اصلاحه وجرى استخدامه ضد القوة البريطانية المرابطة في الضفة الاخرى من الفرات  وقد اطلق الراويون عدة قذائف تجاه قوة الاحتلال ،  
فهددت  حكومة  الاحتلال البريطاني أهل راوة مطالبة القرية تسليم المدفع  الثوار الذين لجأوا إليها،   
وبتاريخ آذار 1921  أصدر متصرف (١ ) لواء الدليم ( ٢) (محمد رشيد العمري) بيانا شديدا اللهجة يهدد حمل الرقم  1169، يقول  فيه: (٣ )
(("إلى الراويين الطاغين الباغين، فإن لم تطيعوا وتخضعوا وتسلموا المدفع للحكومة. فيكون محققاً عندكم أن الموت الذي تفرون منه ملاقيكم. إن الطيارات إذا رفعت وإذا المدافع زحفت. فذلك يوم عسير على المتمردين")).!!
أعقب إعلان (العمري) تهديدات أخرى، اتخذت هذه المرة سلوكاً تعرضيّاً عدوانياً، اقترن بقيام حكومة بغداد فرض الحصار على راوة، وتطويقها من الجهات كافة وقطع الطريق منها وإليها، فيما كان رد الأهالي هو مواجهة القوة البريطانية  والاستمرار في الثورة على  الاحتلال وذيوله المتواطئة. بعد أن أصبحت راوة ملجأ للثوار الآتين إليها من بغداد ومن عموم العراق، وقد وفرّ الراويون في مدينتهم ملاذاً آمناً لقيادات الثورة من بين هؤلاء الثوار:
- الشيخ يوسف السويدي
- السيد محمد بن حسن الصدر
- الشيخ فيصل المغير
- كامل شبيب
- أحمد بهجت
- عبد الحميد القشطيني
- كريم شاه
- شريف الفضلي
وبسبب إصرار راوة رفض الاعتراف حكومة  الاحتلال التي نصبتها البنادق البريطانية  ، ودفاعها عن رجال ثورة العشرين الذين لجأوا إليها، شن البريطانيون الحرب على القرية الصغيرة، فأرسلوا في أحد أيام الجُمع من شهر آذار عام 1921 سبع طائرات تصب حممها على الأهالي، فيما استمرت طلعاتها العدوانية وهي تواصل قصف راوة قصفاً شديداً متتالياً، وتمطرها بالقنابل، وتلاحق الناس بالرشاشات الثقيلة. وبالرغم من الدمار الذي ألحقته  طائرات الامبراطورية البريطانية  بالقرية الصغيرة ، فإن ذوي الرأي من شيوخها وأصحاب الحلّ والعقد فيها، واجهوا العدوان الاستعماري  بمزيد من  الصمود والمقاومة.
وبعد أن أدركت حكومة الاحتلال بأن الطائرات البريطانية السبع فشلت في مهمة إخضاع المدينة أو إنهاء المقاومة، وإن النتائج جاءت بالضد من كل توقعاتهم ، وهو التصميم  العنيد للاهالي على خيار مواجهة العدوان، ورفض أية دعوة لإلقاء السلاح ما لم تتوقف حكومة الاحتلال عن عدوانها، الأمر الذي اضطر حكومة الاحتلال إلى التخلي عن أسلوب الحملات العسكرية، واللجوء إلى طلب إجراء المفاوضات.
فقامت الطائرات البريطانية بإلقاء (بيانات) تدعو أهالي راوة إلى إرسال وفد يمثلهم يتوجه إلى الرمادي لإجراء مفاوضات بين وفد راوة وممثل بريطانيا العظمى  . فاختارت راوة لذلك رجلين من وجهائها هما: محمد الفتيان والحاج مصطفى اليوسف. وكانت نتيجة المفاوضات التي أجراها وفد راوة مع المفتش الإداري البريطاني أن تضمنت الأمور الآتية:
1ــــــ إيقاف الحملات العسكرية ورفع الحصار عن راوة وانسحاب القوات البريطانية من المنطقة.
2 ــــــ اعتبار الثوار المتواجدين في راوة ضيوفاً على أهل القرية، لا يجوز المساس بأيّ  منهم مع استمرار إقامتهم في القرية.
3 ـــــــ التزام راوة الهدوء ريثما يجري تشكيل حكومة وطنية في بغداد.

وبهذه الاتفاقية حافظت راوة على حياة ضيوفها رجال ثورة العشرين ، وعلى موقفها الوطني المقاوم للاحتلال البريطاني ، وتمسكها بشرط  قيام حكومة وطنية ـ

يستعيد أبي تلك المرئيات متسائلا إن كان بوسع المرء أن يغض الطرف وهو يعرض لهذه الوقائع التي يعود تأريخها إلى عشرينات القرن الماضي أو يتجاهل أو يتجاوز المقاربة بين الماضي والحاضر، فالأحداث في رأيه تقترب من بعضها إلى حد المطابقة من الواقع الذي استحدثه العدوان الأمريكي الغاشم على العراق منذ 2003  ثمة  حملات عسكرية يتم تجريدها بين فترة وأخرى للعدوان على راوة ومحاولة اقتلاع المقاومة في هذه المدينة الباسلة. فقد ارتكب العدوانيون في فجر الجمعة 13/6/2003 واحدة من أبشع  جرائم الحرب وأكثرها دموية ضد السكان المدنيين وراح ضحيتها مائة شهيد في يوم واحد ، عندما تعمدت القوات الأمريكية فتح نيران دباباتها ومروحياتها (الأباتشي) على بيوت راوة، مما اضطر السكان البحث عن ملاذات آمنة خارج البيوت  لتجنب القصف الوحشي.
يقول شاهد من أهل المدينة: اختارت شباب راوة  طريق المقاومة منذ الايام الاولى للاحتلال الامريكي واصبحت المدينة احد أهم مراكز المقاومة في الفرات الاعلى وقد تمكن مقاتلوها النيل من قوات الولايات المتحدة داخل راوة وعلى اطرافها واستطاعت  تنفيذ عشرات العمليات الناجحة ضد جيش الغزاة والتي كبدت العدو خسائر جسيمة ـ وقد استطاعت المفاومة  هزيمة القوة الامريكية في جولتين ومنعوا تقدم قوات الاحتلال من عيور الجسر حتى عام 2005 ـ وكان رد فعل البرابرة هو الانتقام من المدنيين ،
يقول الشاهد ؛ "إن (12) من شباب راوة  وجدنا جثثهم مقيدة بالحبال وقد جرى تهشيم رؤوسهم ، حيث جرى اعتقالهم في منازلهم ونفذت فيهم قوات الولايات المتحدة إعدامات فورية بطريقة (النحر) الأمريكية المرعبة. أما الشهداء (88) الثمانية والثمانون، فقد تم إنتزاع رؤوسهم  وهم نائمون في منطقة (سحل الأمير) شمال غرب راوة. وعلى مدى ثلاث ليال حفر الراويون مائة قبر لهؤلاء الشهداء.
وعاد القتلة  مرة أخرى في شتاء 2004 حيث اجهزت قوة أمريكية على ثلاثة من أهل  المدينة من بينهم زوجة محمد محسن وطفلتها الرضيعة، أردوهم قتلى بعد أن فتحوا النار عليهم عمداً.
وألقت الحملة العسكرية الثالثة الرعب في قلوب الأهالي، عندما اخترقت سبع طائرات مقاتلة وبصحبتها طائرات (الأباتشي) سماء المدينة، وهي تتناوب على شن غاراتها على الآمنين الذين فزعوا، وطفقوا يبحثون عن ملاذات آمنة. بعد أن أصبحت البيوت كالمقابر.
فيما تم إنزال جويّ على سطوح المنازل في الحملة الامريكية الرابعة وقد فتح المظليون النار على السكان المدنيين، مما تسبب في جرح العشرات من السكان المدنيين.
وكانت الحملة الخامسة التي أطلق عليها الأمريكان (السهم المضيء) والتي استمرت حوالي ثلاثة أشهر ابتداء من 17 تموز 2005 وحتى نهاية أيلول من العام نفسه، التي  حصدت الكثير من الارواح البريئة ؛ قام الراويون على إثرها بالهجرة  الجماعية إلى (عانة) وهي الحالة المأساوية الأولى من نوعها في تاريخ المدينة فقد ارتحلت حوالي (800) ثمانمائة عائلة جراء القصف الوحشي الذي استمر على مدى أربعة أيام متواصلة وتحولت المدينة الصغيرة، إلى جبهة قتال مفتوحة بكل الأسلحة التي جربها الغزاة المعتدون على المدنيين .
واستخدم القتلة الامريكيون في حملتهم البربرية  ذات الأسلوب الصهيوني في فلسطين المحتلة، فصمموا مشهدا مثاليا لفوضى التخريب الشامل ، قلبوا المدينة على رأسها عبر سلسلة من العمليات الوحشية  ففجر الغزاة  البيوت وهدموا المساجد ودمروا المدارس ونسفوا المتاجر والأسواق وجرفوا المزارع. وامتد ذراع الحملة الخامسة ليطوق المدينة من كافة الجهات ويشل الحياة فيها بالكامل، فلا أحد يدخل إليها، أو يخرج منها ومنع الحركة في عموم الطرق والمنافذ. وفرض حظر التجوال، واعتباره مفتوحاً في الليل والنهار، فأغلقت الأسواق، ومنع الوصول إلى المستشفى الوحيد، وتم قطع الماء والكهرباء عن المدينة.
رافق ذلك قيام البرابرة  بمداهمة البيوت  وتفتيش المنازل، واقتياد فتيان وشباب المدينة ما بين سن (15 – 35) عاماً، ووضعهم قيد الحجز والاعتقال وتحت جحيم التعذيب.
وعلى مدى خمسة أيام من الحرمان الكلي للغذاء والدواء والماء والكهرباء ومنع الصلاة في المساجد. اتخذت قوات الاحتلال الأمريكي قرار إخلاء المدينة من سكانها البالغ عددهم سبعة آلاف شخص.
وهكذا وللمرة الثانية في أقل من أسبوعين تتواصل عمليات  التهجير القسري  إلى (عانة)، واتخذ الراويون المهاجرون المدارس والمساجد مأوى لهم في المدينة التي تبعد عن راوة أكثر من عشرة كيلو مترات، ساروا إليها مشياً على الأقدام بعد أن منع المحتلون استخدام أية وسيلة للمواصلات، إمعاناً في الإجرام، وتعبيراً عن سلوكهم الوحشي.
عقب انسحاب القطعات الغازية من المدينة ، ودعوة المهاجرين إلى مدينتهم اكتشف العائدون بأن السلوك العدواني الأمريكي خلّف وراءه عشرات المنازل المهدمة، والأسواق المنهوبة، واحتراق مخزن الأدوية في المستشفى. ونسف مركز الشباب الرياضي، واعتقال الطاقم الطبي. وعشرات المزارع التي تم تجريف أراضيها، وامتدت الأيدي القذرة إلى اقتلاع العديد من النخل والأشجار.
وعاد الجند الأمريكان القتلة مرة أخرى في 18/8/2005 واستمروا في عدوانهم الوحشي حتى نهاية أيلول تحت ذريعة البحث عن رؤوس المقاومة!
وقد أدى حصار واحتلال المدينة ومنع أسباب الحياة عنها إلى اضطرار الأهالي القيام بتوجيه نداء الى المجتمع الدولي يحثون فيه الأمم المتحدة والجامعة العربية وعموم الشرفاء في العالم بالعمل التضامني لرفع الحصار الأمريكي عن المدينة وانسحاب القوات الغاشمة وإعادة المهاجرين إلى أهليهم ومدينتهم.
وبقي  العدوان الامريكي مستمراً على راوة وعلى أهلها حتى عام الانسحاب الامريكي .
يقول عز الدين: ( ٤) ".. عندما دهم الجنود الأمريكان المدججون بالسلاح، واقتحموا بيتنا في راوة يوم 18 تموز 2005 كانت عيون الجنود ، يتطاير منها الشررّ يحملون في أيديهم بنادق سود".
قال المترجم: لا تتحركوا، ابقوا في أماكنكم. ثم انقض الجند المتوحشون على موجودات وأمتعة البيت، خلطوا الحابل بالنابل، لم يبق شيء على حاله، قلبوا الأثاث وحطموا الأسرّة والأرائك اقتلعوا الأبواب ومزقوا الأفرشة والوسائد بالحراب.
يقول  أبي:
"بعد أن أنجز الأمريكان عملية تخريب البيت.." قال المترجم على لسانهم: "إياكم أن تأووا مسلحاً أو تتستروا على متمرد وإلا فأنكم ستدفعون حياتكم". وانصرف الغزاة . كان  اللحظة الامريكية الوقحة باقتحام الدار  تعادل لدى أبي الحياة بكل معنى وحرف ، وكيف لا ؟  وابن البلد يهان وهو في وطنه وداخل منزله ؛

تئن راوة تحت وطأة رصاص الأمريكان، طائراتهم تحوم في أجواء المدينة تصب حممها هنا وهناك، في تلك اللحظة قلت لنفسي ما أشبه اليوم بالبارحة. واستذكرت حادثة العدوان البريطاني عام 1921 أي قبل ما يزيد على ثمانية عقود، ففي المكان ذاته . يوم كنت طفلا ما بين الرابعة والخامسة من عمري كما الآن يوم حلقت في سماء راوة طائرات الإمبراطورية البريطانية السبع وهي تدك بقنابلها القرية دكاً، إذ فتح الأعداء النار الحامية العمياء فاحترق الشجر والحجر والأطفال، وأصاب الناس فزع الموت، وتعالت أصوات الذعر. صراخ النساء ودعاء الآباء وبكاء الأطفال.
كنت يومها أتلهى  وسط  باحة الدار ، الاجسام المحلقة في السماء وما القت به من مقذوفات هائلة الصوت ولد لدي احساسا مروعا فعدوت هلعاً صوب الشّط، أبحث عن مأوى فلقيت خالي (عبدالجبار)، أمسك بيدي، ومشينا سراعا حتى آويت  برفقته غار (الدعدع)،( ٥) وتوالى الخلق من كل فج في القربة ليحشروا أجسادهم  في نفق الغار. الخوف يأكل أكباد الفتية والنسوة والأطفال والناس حيارى.
الطائرات المعتدية تنقض على راوة تلقي ناراً. قاحرقت أشجار البساتين ودمرت المنازل ، وفرّ الطير ذعرا.  

( ١) متصرف: أيّ محافظ.
(٢ ) لواء الدليم : محافظة الأنبار.
( ٣) لمزيد من التفاصيل راجع: الدكتور علي الوردي – لمحات اجتماعية من تأريخ العراق الحديث، نقلاً عن الدكتور أحمد مالك الفتيان أستاذ التاريخ القديم في جامعة بغداد.
( ٤ ) شهد عزالدين تفاصيل العدوان، إذ كان متواجداً في راوة وحتى بداية خريف 2005.
(٥ ) الدعدع : مغارة في جبل راوة ذات فضاء واسع، يضيق كلما أوغل الداخل إليها، ولها مزاغل عميقة لا يعرف أحد مداها ولا أين

للراغبين الأطلاع على الحلقة الثالثة:

http://algardenia.com/maqalat/27957-2017-01-15-17-30-11.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

840 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع