الحلقة الماركسية الأولى في العراق

               

           الحلقة الماركسية الأولى في العراق

          

بدَأ التبشير الاشتراكي في العراق منذ العشرينيات من هذا القرن حيث كانت تصل اليه مجلة الحزب الشيوعي البريطاني وصحيفة لومانتيه لسان حال الحزب الشيوعي الفرنسي والتي كانت تصل من لبنان سراً كجزء من نشاط الحزب وقد قامت بهذا التبشير جماعة قليلة من الاشخاص تبنوا الفكر الاشتراكي كهواية لاكاسلوب للعمل السياسي والممارسة التنظيمية فقد تأثر كل من حسين الرحال ، محمود احمد السيد ، عبد الله جدوع ، ابراهيم القزاز ومصطفى علي بالافكار الماركسية.

                

                                حسين الرحال

وحاول محمود احمد السيد الذي كان اديباً ان ينطلق في كتاباته من منطلقات ماركسية فقد وصف اوضاع الفلاحين العراقيين وتعاسة الحياة الريفية باسلوب اثار فيه ضمير الشعب وايقاظه على صعوبات الحياة في الريف واخذ يركز على تنظيم النقابات العمالية لا على التحريض السياسي

وعلى اية حال فقد قامت هذه الجماعة بوضع تقرير مفصل في عام 1923 شرحت فيها الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يمر بها العراق كما اكدت فيه ظروف الاستغلال الاستعماري الذي يعيشه العراق في ظل الانتداب البريطاني وترجمته الى الفرنسية ورفع الى لينين
وقد اتجهت الى الميدان الصحفي كمحاولة لترويج الافكار الماركسية فاصدرت مجلة الصحيفه في 18 كانون اول 1924 وذكرت تحت عنوانها بانها مجلة نصف شهرية صاحبها حسين الرحال وكانت المواضيع التي تصدت لها تتمحور بطرح حلول لمشاكل العراق الاقتصادية والاجتماعية والفكرية ودعت الى تحرير المرأة وتعليمها وهاجمت الاقطاع والرجعية كما تبنت شعار الثوار الايطاليين الكاريبالديين الرب والشعب وهو يعني تحرير الدين من الشعوذة والايمان بالشعب .
ويبدو انها طرحت فكراً اقتصادياً ذا ملامح اشتراكية تدور حول الموضوع دون التعمق به ونتيجة للدعاية السيئة التي كان يقودها المحافظون ضد المجلة ولاسباب ماليه فقد توقفت عن الصدور كان نشاط هذه الحلقة يدور في مناقشة الفكر التقدمي وما يستجد بشأنه وفي تبادل المطبوعات الاجنبية واصبحت هذه المجموعة كحلقة ملتزمة بمبادئ تقدمية بل ان بعض الباحثين سموها اول حلقة ماركسية في العراق.
والحق فان حسين الرحال كان المحرك للنشاط الاشتراكي في تلك المدة ولد حسين الرحال في بغداد في عام 1902 وكان والده ضابطاً في الجيش العثماني دخل مدرسة اللاتين في بغداد وتعلم الفرنسية ثم نقل والده الى اسطنبول فدخل المدرسة الثانوية هناك واثناء دراسته في مدسة الهندسة في المانيا اندلعت الثورة الالمانية في برلين عام 1918 التي كان السبارتاكسيون من ورائها والمعتقد ان هذه الثورة هزت حسين الرحال بعنف وبعد عودته الى بغداد التف حوله الشباب الوارد ذكرهم سلفاً .
ولعل من المفيد القول ان حسين الرحال في سبيل معرفة الفكر الاشتراكي بشكل اعمق قد بذل جهداً في الحصول على المطبوعات ذات المضمون الاشتراكي من اي مصدر كان ثم اخذ يحاول الحصول على الكتب الاجنبية التي اعتقد انها المصدر الحقيقي لمعرفته الاشتراكية فاقتنع محمود حلمي صاحب المكتبة العصرية في بغداد بان يقوم باستيراد النشرات الاشتراكية عن طريق وكلائه في الخارج .
وقد تم فعلاً الحصول بواسطته على بعض النشريات التي كانت تصدرها يومذاك دور النشر في فرنسا وكان اول الكتب التي قرأها الرحال بعد عودته الى العراق كتب لينين الاستعمار اعلى مراحل الرأسمالية ثم كتاب الدولة والثورة كما استطاع بالوسيلة نفسها الحصول على مجلة كابيه دي بولشفيك كما قرأ لاول مرة شعر ناظم حكمت مترجماً الى اللغة الفرنسية.
وكان الرحال يروي لهم ما يقرأه في الصحف والمجلات الالمانية وغيرها وعن الحركات الاشتراكية التي شهدتها المانيا اثناء وجوده هناك ويصف عبد الله جدوع زميله الراحل بالقول : لم يكن المصدر الرئيس لمعرفتنا بالاشتراكية واثرها في توجيه البشرية الى الخير والسعادة بل كان عنصراً مجدداً ومساهماً فيما نقرأه نحن .
وكان الرحال يشتري الكتب من مكتبة مكنزي ويعيرها لاصدقائه يعتقد المؤرخ العراقي المعاصر عبد الرزاق مطلق الفهد في كتابه بدايات الفكر الاشتراكي في العراق 1917ـ 1936، ص128 : ان الرحال مع قراءته لما كتب هناك عن الفكر الاشتراكي ، فانه لم يفهم الاشتراكية بشكل عام لكنه كان لديه صورة باهته عن الاشتراكية وافكار سطحية ربما عرف عن الاشتراكية انها نمط من العدل الاجتماعي او البر بالفقراء والعطف عليهم اي انها مسألة انسانية ليست لها اسس معينة فالظروف غير الطبيعية التي كانت تسود المانيا اثناء الثورة والحرب لم يتح لها الاطلاع بشكل دقيق على الاشتراكية وربما لم تكن لديه تلك الامكانية الفكرية التي تتيح له استيعاب الفكرة وتتبعها بشكل سريع ويبدو ايضاً انه لم يدرسها بعمق ووفق خطة معينة منظمة اذ بعد ان عاود الى بغداد عام 1919 لم يظهر له في البداية نشاط واضح في بث الفكر الاشتراكي والدعاية له كما ان من التقى معه هذه المرة لم يفهم منه فكرة واضحة عن الاشتراكية .
ويؤيد ذلك قول السيدة امينه الرحال انه كون في المانيا صورة سطحية عن الاشتراكية ويؤكد السيد عبد القادر اسماعيل رأي المؤرخ الفهد بالقول النظرية الماركسية لم افهمها منه وان كل ما عنده اشياء سطحية ولم يكن هناك هضم للنظرية الاشتراكية والحق فان افكار الرحال كانت خليطاً من المبادئ الليبرالية والديمقراطية والاشتراكية والشيوعية وهي افكار نظرية مثالية لاسيما اذا ما عرفنا ان تجربة الحزب الشيوعي في روسيا كانت في بواكيرها.
بعد غلق المجلة بقى الجماعة يلتقون بين حين واخر ولكن دون نشاط ثقافي يذكر عدا ما كتبه محمود السيد بعد ذلك من قصص ادبية تعالج غالباً مشاكل الفقر والجهل ثم انشغل كل منهم بشوؤنه الخاصة من ذلك اندماجها في روتين الوظائف فعمل محمود احمد السيد سكرتيراً لمكتب العمال والبلديات في وزارة الداخلية ثم سكرتيراً لمجلس النواب فتوفي في مصر ودفن هناك اما حسين الرحال فلم يظهر له نشاط فكري بعد ذلك وطواه النسيان والامر يثير الغرابة في التحول السريع في حياة الرجل من نشاط وحيوية في مجال الفكر والاداب الى انغماسه في ملذاته الشخصية غير انه استمر يحمل فكراً تقدمياً ويعلن افكاره ويعبر عنها لكل من حوله وقد استمر بالوظيفة حتى احيل على التقاعد عام 1963 ويظهر ان افكاره تغيرت اواخر ايام حياته اذ هاجم الحزب الشيوعي في عام 1966.
نستخلص مما تقدم ان هذه الجماعة الصغيرة لم تتمكن من بناء تنظيم سياسي ماركسي في العراق في تلك المدة لعدم توافر الشروط الموضوعية لها حيث انها لم تمتلك الاستعداد لاحتراف العمل السياسي ونبذ اساليب الهواية كما لم يكن لديها الخبرة للعمل السياسي والنضال في صفوف جماهير الكادحين فضلاً عن ذلك وجود عوامل اخرى تمثلت بالنهوض القومي انذاك في العراق المقترن بالدين الاسلامي  .

 الكاتب/د . عبد الله حميد العتابي

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

825 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع