دقة الشيخ سعيد

                                                            

      

   

سميت في حينه ( دقة الشيخ سعيد ) أي ما دَقَّ وجَلَّ من الحوادث هكذا تسمى في مدينة الموصل أي حادثة مقتل الشيخ سعيد البرزنجي الذي كان من قادة الحركة الكردية القومية المناوئة لحزب الاتحاد والترقي الذي سيطر على السلطة في الدولة العثمانية اثر انقلاب 23 تموز / 1908 وخلع السلطان عبد الحميد الثاني( 1876 ـ 1909 ) ، وينتمي الى اسرة كبيرة وكريمة معروفة في كردستان وهو والد الشيخ محمود الحفيد .

              

                         الشيخ محمود الحفيد

الشيخ سعيد بن كاكا أحمد بن الشيخ معروف الحفيد البرزنجي ،كان يتمتع بمركز ديني في مدينة السليمانية اكسبته حظوة السلطان عبد الحميد الثاني وثقته الذي كان يجد ان الشيوخ وأصحاب الطرق الصوفية تأثيرا كبيراً في تعزيز حكمه ، بعد اعلان الدستور العثماني عام 1908 م وسيطرة الاتحادين على الحكم  شعروا أن الشيخ سعيد اصبح خطرا عليهم ويهدد مصالحهم بعد وصفه للاتحادين بالمارقين ، لذا اصدروا امر يقضي بوجوب ترك الشيخ سعيد وذويه السليمانية لأنهم أصبحوا خطر على الأمن في المدينة وان يتوجهوا إلى مدينة الموصل حتى اشعار آخر أي نفي ، فامتثل الشيخ سعيد للأمر وجاء إلى الموصل هو وذويه وخدمه ونزل في الدار الواقعة في شارع القشلة (العدالة) العائد إلى محمد باشا الصابونجي المقابل للمدرسة الاعدادية الشرقية .
أما كيف وقعت حادثة مقتل الشيخ سعيد البرزنجي ونجله الشيخ أحمد وعدد من ذويه في الموصل عام 1909 م خلال حكم الاتحاديين وبداية الاحتلال البريطاني للموصل .
فقد أقام الشيخ سعيد في الموصل ردحا من الزمن بعيدا عن بلدته السليمانية،وكان معه عدد كبير من أتباعهُ المسلحين لحراسته ، وبدأت هذه المأساة الدموية في مساء اليوم الثاني من عيد الأضحى المبارك لعام 1909 ، إذ خرج نجلي الشيخ (احمد ومحمود) بصحبة (بهاء افندي) وهو رئيس كتاب كمرك الموصل من منزل مصطفى بك القائم مقام العسكري للتجوال في شوارع الموصل ، إذ تعرض بهاء افندي وكان ثملا لإحدى النساء في منطقة باب الطوب ، والازدحام على اشده في المنطقة بمناسبة العيد ، وكانت مزدحمة بالمتجولين من رجال ونساء وشباب وأطفال وباعة متجولين ، كان هذا العمل يعتبر أمراً منكرا لا يسكت عنه أي شريف وغيور ولهذا تصدت له جماعة من اهل البلدة وتفاقم النزاع بعد تدخل الشيخين احمد ومحمود وتطور النزاع بعد تدخل الجندرمة وبين الاهالي وطال الجدال وخشن الكلام حتى انتهى بتوجيه السلاح بعضهم الى بعض فقتل عدد من أبناء الموصل وقد حاول والي الموصل ارجاع النظام والهدوء الى نصابه إلا ان دائرة الفتنة اتسعت .
في اليوم التالي انتشرت اشاعة مفادها ان ما وقع من الاعتداء على الاهالي من قبل الجندرمة كان بإيحاء من نجلي الشيخ سعيد لان اتباعه كانوا في منطقة باب الطوب وقت حدوث النزاع .
انتقل الخبر بين سكان الموصل كانتقال البرق وثارت ثائرة الجماهير الذين تسلحوا،فحمل كل رجل يملك سلاحا سلاحه وتوجه الى حيث يقيم الشيخ سعيد وأتباعهُ ، وكان أتباع الشيخ ايضا مسلحين تسليحا جيدا بالبنادق والمسدسات ، وكان بالقرب من مقر الشيخ  مخفرا يضم جنود اكراد فانضموا الى أبناء قومهم وأخذوا يدافعون عنهم وطال القتال وأستمر الناس يتهاوون صرعى ولكن الموت لم يثني سكان الموصل عن عزمهم حتى تمكنوا من القضاء على اتباع الشيخ وصار الفتك بين قاب قوسين أو ادنى فلم يجد الشيخ ملاذا أفضل من الالتجاء للدين فحمل المصحف الشريف وخرج من مخبأه وسار وسط الجموع وهو محني الرأس ، بهت الحاضرون ولم يطيقوا حراكا ولم يجروا احد التقرب منه أو ايذائه ولو بخدش بسيط وأخذ يسحب خطواته البطيئة على هذه الحالة مسافة طويلة وكان يقصد الوصول الى السراي مقر الوالي (الفريق زكي باشا الحلبي )حتى صار على عدة خطوات من مقصده والناس لا يعرفون كيف يعالجون الموقف احتراما للمصحف الشريف الذي يرفعه فوق رأسه ، وفي هذا الاثناء تقدم رجلا نحوه وأخذ المصحف الشريف من بين يده بلطف موديا واجب الاحترام والتقديس ثم ابتعد عنه ، وفي لمح البصر هجم الناس المحتشدون عليه وتركوه جسدا بلا روح في ثوانِ معدودات وهكذا قضيّ على الشيخ وأتباعه جميعا كما ابيدوا الجنود الذين ساندوه  ، واتجهت بعض الجموع الى دار الشيخ واقتحموه وقتل ابنه الشيخ احمد ، ولم ينجو إلا ولده الشيخ محمود كان حينذاك في دار خضير الهماوندي مقدم الدرك في الموصل ثم نقل الى دار محمد جلبي الجادر إذ تم ايصاله الى دار الحكومة ويشير القنصل البريطاني أن الشيخ محمود خضع للمراقبة حتى عام 1909 م فعاد الي السليمانية وتولى الزعامة وسعى إلى التخلص من سيطرة الدولة العثمانية على كردستان خلال الحرب العالمية الأولى .
كانت نتيجة هذه الدقة مقتل لا يقل عن خمسمائة رجل من أبناء المدينة ولم يكتفوا بل ثارت ثائرتهم وأرادوا الفتك بالوالي والموظفين الاتراك لأنهم وقفوا ضدهم ، تجمعت الجموع الغفيرة في الشوارع وسارت متجهة نحو القشلة حيث مقر الحكومة وخرجت اليهم جيوش الترك لتفتك بهم فتكاً ذريعاً لم يذوقوا مثله من قبل لان الوالي اعتبر عملهم هذا ثورة ضد الدولة .
اخذ العقلاء يفكرون بطريقة لتهدئة الجماهير الغاضبة وإرجاعهم الى منازلهم لتزول هذه الغمرة السوداء عن المدينة التي تنذر بشر عميق يخيم فوق سكانها ،فذهبوا الى شيخ وقورا يحترمه الجميع وهو من عائلة الرمضاني ولا يخالفون اوامره وبعد جدال معه اقتنع بالخروج لملاقاة الجماهير الغاضبة ، ركب فرسه وخرج متجها نحو الجموع التي ملأت الشوارع ويذكر ان احد القناصل الغربيين رآه فسأل عنه فقيل انه ذاهب لتهدئة الجماهير الثائرين واستبعد القنصل أن يتمكن من اعادة رجل واحد ولكنه وقف محتار عندما رآه يتقدم باتجاه الجماهير ويقول لهم أرجعوا الى دوركم فأنا لا ارضى عن عملكم ، وكأنهم بسحر ساحر يتسابقون عائدين الى منازلهم وفقدوا حماسهم الملتهب وأخذ يواصل مسيره وسطهم وهو يردد العبارة والجماهير تنسحب دون أن تنبس بكلمة واحدة ولم يبقى احد في الشوارع وهدأت المدينة ونجت من الخطر .
هذه الحالة لا يمكن أن تتكرر في عصرنا الحاضر لان الحضارة الحالية افسدت الايمان العميق الذي يتغلغل في النفوس حتى ولو كان رجل الدين مؤمنا وقورا ذا منزلة رفيعة .
المصادر :
1.حياة بلا نجوم ... يوسف قصير
2.الشيخ محمود الحفيد .. الدكتور كمال مظهر .

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1088 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع