بير جب.. مجاهدٌ من عقرة .. قصة تأريخية

 

         بير جب.. مجاهدٌ من عقرة....

         

                بقلم:أ. د. عماد عبدالسلام رؤوف

      

إذا كانت الأمور تُقاس بمعانيها لا بمبانيها، كما يقول أهل المنطق، فإن ما فَعَله الرجل البسيط المدعو (جِب بن حسين الزيباري الكُردي العقراوي) يعني الكثير، لَم يكن جِب الزيباري إلاَّ إنسانًا كُرديًّا عاديًّا، عاش في بلدة (عقرة) الغافية على سفح جبلها العالي، كما عاش المئات من سُكانها في النصف الثاني من القرن الثاني عشر للهجرة (الثامن عشر للميلاد)، وهو ينتمي إلى عشيرة الزيبار، إحدى قبائل المنطقة شديدة المِراس، التي كان لها التاريخ الحافل منذ القرن الثامن للهجرة (الرابع عشر للميلاد) في أقل تقدير، وكان يُمكن أن تمضي حياة هذا الرجل عاديَّة، دون أن يسمعَ عنها أحد شيئًا، لولا أنَّ أمرًا عجيبًا اعترَض هذه الحياة، فأدخلَت صاحبها التاريخ، وإن لَم يُعطِه التاريخ ما يستحقُّه من عناية واهتمامٍ، ذلك الأمر العجيب هو أنه رأى في إحدى ليالي عقرة الجميلة رؤيا مؤثِّرة، تجلَّى فيها الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - يأمره بالتوجُّه للجهاد؛ من أجْل تخليص مصر من الفرنجة، وكانت مصر قد سقطَت في يد جنود الحملة الفرنسية التي قادها نابليون بونابارت سنة 1798، وانتهكَت حوافر خيلهم حُرمةَ مساجدها؛ ليتَّخذوا من البلاد قاعدة لإقامة إمبراطوريَّتهم الفرنسيَّة في الشرق.
وقد حمَلت الرؤيا معنى البِشارة أيضًا؛ إذ أخبَر فيها البشير النذير (جِبًّا)، بأنه إن التحَق بالقوات التي كانت تُحارب الفرنسيين في مصر، فإن الله تعالى سيجعل هزيمة المُعتدين تتحقَّق بعد ثلاثة أيام فقط من دخوله الحرب.


ما كان من جِب العقراوي إلاَّ أن نهَضَ في الصباح؛ ليجمعَ كلَّ القادرين على حمْل السلاح من أهل بلدته الصغيرة، داعيًا إيَّاهم إلى الجهاد في سبيل الله، فانضمَّ إليه عشرون من شبان عقرة، ترَكوا أعمالهم، وهجَروا أهاليهم، وتنكَّبوا سلاحهم، وخرجوا بقيادته من بلدتهم، مُيمِّمين شطر بلاد الشام، ففلسطين، فمصر؛ حيث التحَقوا بالقوات العثمانيَّة المُحتشدة هناك. واستطاع بير جب أن يُقابل القائد العثماني، وأن يُبشِّره بما رآه من رؤيا صالحة.
 
وشارَك الفِتية العقراويون في المعركة بكلِّ بسالة وإيمانٍ، وصبْر وجَلَدٍ، تَحْدوهم رؤيا الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - ووعْده إيَّاهم بالنصر، ولفَتت بسالتهم وشجاعتهم انتباه المقاتلين، ثم كان ما كان من تحقُّق البشارة وصدْق الوعد، فقد هُزِم الفرنسيون وقَبِل قائدهم (مينو) الاستسلام، وأخلَوا الإسكندرية آخر معاقلهم في تشرين الأول من سنة 1801م، وتأكَّد مصير حملتهم المُعتدية، وعادت مصر إلى صف البلدان الإسلاميَّة من جديد.


أما (جِب) فقد ذاع صِيته، واشتَهر أمره، فعرَفه معاصروه بلقب (بِير)، وهو يعني الولي الصالح، إشارة إلى ما مَنَّ الله به عليه من كرامة نادرةٍ، حينما كانت مشاركته في الحرب سببًا إلهيًّا لِما تحقَّق من نصر، وحينما عاد مع رِفاقه المجاهدين إلى بلدة عقرة، وذلك في كانون الأول من سنة 1801م، أو كانون الثاني من السنة التالية، لَقِي من أهلها كلَّ محبَّة وتقديرٍ وتكريم، وخُصِّص له راتبٌ تعاقُدي يعتاش عليه حتى وفاته، قدْره أربعون أقجة، (وهو الدرهم العثماني من الفضة)، من (خَراج الموصل)، وقد سجَّل ياسين بن خير الله الخطيب العمري هذا الخبر في كتابه "غاية المرام في محاسن بغداد دار السلام"، بغداد 1968، ص (110).
ولَم تكن مشاركة بير جب في الجهاد ضد الفرنسيين هي الوحيدة في سيرته العسكرية، فقد وجَدناه في سنة 1218هـ - 1803م، يتزعَّم قوَّة من المقاتلين، قُدِّر عددهم بستمائة مقاتل، وقيل ثلاثمائة أو أربعمائة، ويَخرج بهم تطوُّعًا واختيارًا؛ استجابةً لطلب من أمير بهدينان مراد باشا بن إسماعيل باشا (1213 - 1219م / 1798 - 1804م)؛ لمساندة حملة كان يقودها والي بغداد الوزير علي باشا (1217 - 1222هـ / 1802 - 1807م) ضد بعض القوى القَبَليَّة التي كانت تُهدِّد الأمن وتقطَع الطُّرق، ويدل العدد القليل من قتْلى هذه القوة التي تولَّى قيادتها، والذي لَم يتجاوز الاثني عشر مقاتلاً، على أنها حقَّقت غايتها بأقلِّ ما يُمكن من الخسائر؛ (ياسين العمري؛ غرائب الأثر في حوادث ربع القرن الثالث عشر)، ص (63).
 
ولا ريب في أنَّ قدرة (بير جِب) على تجنيد هذا العدد الكبير من المقاتلين دون مقابلٍ، تدلُّ على شدَّة إيمان الناس به، وبغاياته، وولائهم لزعامته، كما تدل أيضًا على قابليَّته القيادية؛ فهذا العدد لَم يكن بالقليل في عُرف القوات المسلحة في تلك الأيام.
 
وأدرَكت الوفاة بير جِب، فدُفِن في بيته في عقرة، فتحوَّل البيت إلى مَزار يؤمُّه الناس؛ تقديرًا لشجاعته، وظلَّت ذكراه حيَّة في أذهان الناس؛ حتى الْتقَطها مؤرِّخ موصلي، هو ياسين بن خير الله الخطيب العمري، فسجَّلها بعد نحو رُبع قرن من تاريخ ذلك الحدث.

                             
 
درب في عقرة القديمة يُفضي إلى بيت بير جب وقبره، ويقع قبر (بير جب) في داخل مبنى صغير، يُشبه بيتًا من حجرتين، تُطل كُبراهما على وادي عقرة، بينما تَستند الأخرى - وهي بالغة الصِّغَر - إلى سفح الجبل، والأخيرة هي التي كان يتَّخذها (بير جب) مُعتكفًا له في حياته، وصارَت مدفناً له بعد وفاته، وتعلو هذه الحجرة قبة لُوِّنت من خارجها بلون أخضر.
 
ويقع المبنى في عُقرة القديمة، ويَصل إليه الزائر عن طريق أزقَّة ضيِّقة، ترتفع صعودًا على نحو حادٍّ، يُشبه ما هي عليه أزقَّة البلدة التراثيَّة، واللافت للنظر أنَّ القبر قد سُوِّي بالأرض في عهدٍ ماضٍ، فلم يبقَ له أثر ظاهرٌ، فضلاً عن عدم وجود شاهدٍ يدل عليه، وهذا الأمر هو الذي دفَع بعض الأهالي إلى تصوُّر أنه دُفِن حيث توفِّي، وأنَّ وفاته كانت في الشام، وأنَّ القبةالتي في عقرة لا تمثِّل إلاَّ مقامًا رمزيًّا له، هذا مع أنَّ المعلومات المؤكدة تُصرِّح بعودته إلى عقرة حيث لَقِي ربَّه، وأنه ثُوِّي في هذا المكان بالتحديد.

  


             القبة التي على حجرة قبر بير جب

  
 
                  بيت بير جب في عقرة، وفيه قبره

يعرف أهل عقرة - ولا سيَّما كبار السن منهم - صاحب هذا المكان بالبير جِب، ولَم يَعد أحد يتذكَّر سائر اسمه، وتُشير رواية ذَكرها ياسين العمري إلى أنَّ اسمه الحقيقي هو (جبرائيل)، فاستُثْقِل اسمه، فقيل له: (جِب)، ثم عُرِف أحيانًا بـ(رجب)؛ لشيوع هذا الاسم في المجتمعات الإسلاميَّة، وتُشير الرواية نفسها إلى أنه كان - فوق شجاعته وصلاحه - إنسانًا مثقَّفًا كريمًا. يقول العمري واصفًا إيَّاه بأنه كان: (له علمٌ وصلاح، باذلاً الطعام للضيف، لا تَخلو داره في مدينة العقرة من الضيوف ليلة).
 
ولَم تذكر الرواية سببَ اجتماع الضيوف لديه في كلِّ ليلة، ومن الراجح أنَّ اجتماعهم عنده كان لإقامة حلقات الذكر غالبًا، فإننا نعلم أنَّ شيوخًا من أُسرته كانت تتولَّى عهد ذاك (خلافة) الطريقة القادريَّة، وهو يُضيف بعد هذا أنَّ (ملوك الأكراد تُعظِّمه وتَحترمه)، وليس هؤلاء الملوك في تقديرنا إلاَّ أُمراء "بهدينان" الذين كانت عقرة تُعَد واحدةً من أبرز مراكز إمارتهم الإداريَّة، وكان بعض أفراد البيت البهديناني يَحكمها باسمه، وقد تولاَّها في أيَّامه أُمراء هذا البيت، منهم لُطف الله بك، وقُباد بك، ومراد بك، ومحمد طيَّار بك.
 
وتُنسب لبير ِجب بذلة قتاليَّة كانت محفوظة في بيت قريب من مثواه، وهي اليوم نُقِلت إلى حجرة قبره، وقد وُضِعت فوق مكان رأسه، ويَزورها الناس للتبرُّك بصاحبها، ومنهم من يَرتديها لهذا الغرض، وتتألَّف هذه البذلة من خوذة رأس، يتدلَّى من جانبيها زَرد، وهو نسيج من حلقات حديد، تقي المحارب الضَّربات الجانبية لسيوف الأعداء، وقميص من الزَّرد أيضًا، كان يَرتديه المقاتلون؛ لوقاية صدورهم من طعنات السيوف، ولا يمتُّ هذا النوع من اللباس العسكري إلى عصر (بير جب) - وهو النصف الأخير من القرن الثامن عشر - بأية حال؛ حيث لَم يبقَ للسيوف مكان أمام استعمال الأسلحة الناريَّة، وفي الواقع فإنَّ البذلة بخوذتها وزَردها، هي مما يمكن أن يَرقى إلى عصرٍ أقدمَ من تلك الحِقبة، ومن الراجح جدًّا أنها تَرقى إلى عصر الحروب الصليبيَّة، وَرِثها عن أسلاف له شارَكوا في تلك الحروب، فحَفِظها أهل بلدته في بيت قريبٍ من قبره؛ وفاءً لذكراه، وفي هذه الحال يكون هذا الفتى العقراوي قد وَرِث الشجاعة ورُوح الجهاد عن آبائه بكلِّ جدارة.
 
وقد أكَّد لي الأستاذ حكمت ياسين العقراوي هذا الرأي، ذاكرًا أنه سَمِع من أحفاد بير جِب - وهم الحاج محسن، وفاضل، وشمس الدين - أنه وَرِث هذه البذلة من جدٍّ له اسمه (شمس الدين)، وكان هذا قد حارَب في صفوف جيش السلطان صلاح الدين الأيوبي في حروبه مع الصليبيين.
 
وفي رواية تاريخيَّة رواها لي الأستاذ حكمت ياسين - وهو ابن حبيب بن حامد بن عبدالرحمن بن حامد - أنَّ جده الأعلى الملا حامد العقري، كان أحد المتطوعين الذين رافَقوا بير جِب في رحلة الجهاد في مصر، وأنه جلَب معه عند عودته بذورَ زهرة جميلة وجَدها في مصر، وصَفها بأنها ذات ساق قصيرةٍ، ولون سماوي مزرق، وهي ذات رائحة زكيَّة، وأنه زَرَع هذه البذور في مقبرة أُسرته المُسمَّاة (مقبرة مه زين كا)، وفي مقبرة (الكلي) عند ضريح السيد الشيخ عبدالعزيز بن الشيخ عبدالقادر الكيلاني قُرب عقرة، وإنَّ هذه الزهرة لا تزال موجودة في هذين الموضعين، وهي تسمَّى محليًّا بـ(سُنبُل)، ويذكر أيضًا أنَّ أبناء أسرته حافظوا على الزهرة المذكورة، وكاثَروها؛ حفظًا لذكرى ذلك المجاهد الكبير، إلاَّ أنهم لَم يُشجِّعوا على انتشارها في مواضع أخرى.

   

         ملابس عسكرية تتألف من زَرَد وخوذة لبير جب

 
 
          الزهرة التي جلَبتها حملة بير جب من مصر
 
ويذكر الأستاذ حكمت أنَّ جده الملا حامد العقراوي سجَّل تفاصيلَ مشاركته العسكرية في حملة الجهاد التي قادها بير جِب، في مخطوطة توارَثتها الأسرة جيلاً بعد جيلٍ، وكانت موجودة في خزانتها، ولكن من المؤسف أنَّ هذه الخزانة احترَقت في أثناء بعض الأحداث التي جرَت في عقره سنة 1974.
 
عُرِف (جِب) - بحسب رواية العمري - بالحاج، ونحن نتصوَّر أنه سافر لأداء مناسك الحج في وقتٍ تالٍ على تلك الرحلة إلى مصر، بيد أننا لا نستطيع معرفة سنة وفاته بعدها.
 
كما أنَّ معلوماتنا عن أسرته غير واضحة، وإن كان بعض المؤرِّخين قد أشار إلى أنه عم الشيخ عبدالله تاج الدين بن بكر بن عثمان بن طاهر البارزاني، أوَّل مَن اشتَهر من الأسرة البارزانيَّة في القرن التاسع عشر[1]، وهي الأسرة التي عُرِف شيوخها بـ(خلافة) الطريقة القادريَّة في تلك الربوع حينًا من الدهر، قبل أن تتحوَّل إلى الطريقة النقشبنديَّة في مرحلة تالية، والذي نراه أن أخذنا بهذه الرواية؛ أنَّ الشيخ تاج الدين كان من أبناء بعض أعمامه، وليس ابن أخ مباشر له؛ لأنه لو كان (جِب) عمَّه المباشر، لكان اسم جد تاج الدين هو حسين، لا عثمان كما هو وارد في نَسَبه.
 
وتاج الدين البارزاني هذا هو والد الشيخ عبدالسلام، الجد الأعلى للشيخ عبدالسلام بن محمد البارزاني، الذي أعدمه العثمانيون في سجن الموصل سنة 1333هـ - 1914م، وكان فقيهًا وَرِعًا صوفيًّا[2].
 
وذكَر لي الأستاذ صالح محمود زبير البارزاني، في لقاءٍ لي معه في أربيل بتاريخ 3 تشرين الثاني سنة 2007م، أنه لا صلة نَسَبيَّة تجمع بين (بير جِب) وتاج الدين المذكور، وإنما هي صِلة انتساب إلى طريقة صوفيَّة واحدة، وبحسب جدول نَسَبي تفضَّل عليَّ بنسخة منه، فإن تاج الدين هو ابن عبدالسلام لا أبوه، وأنه ابن سعيد بن الشيخ محمد بن الملا أحمد بيرش بن عبدالرحيم بن مير سعيد بن مير مسعود بن زبير باشا أمير بهدينان، والأخير هو الأمير زبير باشا بن الأمير سعيد خان بن السلطان عثمان البهديناني، الذي حكَم إمارته في الحقبة الممتدة من سنة 1113هـ - 1701 إلى سنة 1126هـ - 1714م، وتميَّز حكمه بالقوَّة والقدرة على ضرب أعداء الإمارة من القوى والقبائل المجاورة.

  


               عقرة القديمة كما تبدو في الوقت الحاضر
 
لقد كانت تجربة (بير جِب) في الحقيقة نموذجًا مُصغَّرًا لِما فعَله البطل المجاهد صلاح الدين الأيوبي، فكلاهما كان كُرديًّا، وكلاهما نَذَر نفسه من أجْل قضيَّة دينه، والدفاع عن أُمَّته من الغاصبين، وصحيح أنَّ ظروف بير جِب وعصره كانت مختلفة عمَّا عاشه سَلَفه الكبير، إلاَّ أن المعنى الكامن وراء التجربتين كان واحدًا تمامًا، خلاصته إحساس الكُرد المُمعِن بالغَيرة على أُمَّتهم، وتجاوز تفكيرهم حدودَ بلادهم، واستعصاء جَذوة الجهاد فيهم على كلِّ إعصار، وأحسب أنَّ هذا هو الذي يُثير عليهم غيظ المُعتدين في كلِّ حين.

  

[1] عباس العزاوي؛ تاريخ اليزيدية، ص (127).
[2] محفوظ العباسي؛ إمارة بهدينان العباسية، ص (154)، وزبير بلال إسماعيل؛ ثورات بارزان، ص (19 - 20)، ومه لا ئه يوب؛ بيداجونه فه ك ل ميزوويا بارزان، 1820- 1914، سبيريز 2007، ص (29 - 48).

                  

الگاردينيا: المادة الثمينة اعلاه أرسالها صديقنا العزيز / سرور محمود ميرزا..شكرا له وبارك الله فيه ..

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

850 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع