الحب أعمى

       

                 الحب أعمى

    

  

لا شك من أننا جميعاً نعاني من القلق وعدم الراحة في هذا الزمن الذي يتصف بالفساد والفقر وعدم الاستقرار وانعدام العدالة وشيوع النزاعات الحزبية والطائفية والعرقية ومن ثم جاء هذا الفايروس اللعين الكورونا ليزيد الوضع سوءاً وتعقيداً وما يميزه عن مآسي النظام الحالي وظلمه هو عدالته فهو لا يفرق بين غني وفقير صغير وكبير جاهل ومتحضر لذا ومساهمةً مني في التخفيف عن معاناة القراء وإدخال الفرحة والسرور الى نفوسهم من خلال تناول الحديث في واقعة او مسألة عشت احداثها طيلة فترة خدمتي الطويلة في مسلك الشرطة وحكايتي الأولى التي اسردها لكم وقعت في نهاية السبعينات من القرن الماضي عندما كنت برتبة نقيب واشغل منصب معاون مدير الدائرة القانونية في مديرية شرطة محافظة أربيل حيث كان من ضمن واجباتي تقديم منتسبي المديرية المخالفين الى مدير الشرطــة وكــان آنذاك اللــواء (جمال عبد الحميد الاتروشي) 

لمحاكمتهم وفرض العقوبة المناسبة بحقهم ان اقتضى الامر وحسب المخالفة المرتكبة من قبل أي واحد منهم باعتباره امراً للضبط وفي احدى هذه المرات ارسل لي الملازم الأول (خلف) رئيس عرفاء (سبهان) مع ورقة ضبط فحواها ارتكابه مخالفة النوم اثناء ما كان مكلفاً بواجب الحراسة في احدى مراكز الشرطة القريبة من مركز مدينة أربيل وبعد ان قدمته وفق المراسيم الخاصة بالمحاكمات الموجزة وجرت محاكمته على الشكل التالي:

    

مدير الشرطة: "رئيس عرفاء (سبهان) انت ليش جنت نايم اثناء واجب حراستك بالمركز؟"
سبهان: "والله سيدي ما جنت نايم وكلام الضابط مو صحيح"
مدير الشرطة: "تنام بالواجب وهسة تجذب كدامي؟"
سبهان: "سيدي الضابط يضوج مني واني عيب عليه اجذب بهالعمر"
مدير الشرطة:"كلامك مو صحيح عليه قررت معاقبتك بالحبس خمسة أيام"
سبهان:"سيدي والله ما مسوي شي غلط واني رجال جبير بالعمر وارحم اهلي واطفالي وسيدي والله لو تعرف هذا الضابط شيسوي"
مدير الشرطة:"ولك شيسوي؟"
سبهان:"سيدي يجيب المعلمة جوه العلم (نطقها بلكنة أهالي الشرقاط والقيارة وحولها)"
مدير الشرطة:"النوب كمت تلفق ، شنو هذا الحجي هو ملازم اول (خلف) شكول هيج سوالف ؟ ما تستحي على شيباتك ؟ روح شددت العقوبة وسويتها عشرة أيام حبس .. يلا اطلع برة"
اخذت رئيس العرفاء معي من اجل ان ارسله الى الحبس ولكن الفضول اجبرني على استصحابه معي الى غرفتي واجلسته وطلبت منه ان يحدثني عن سالفة المعلمة وعلاقتها بالضابط (خلف) حيث كنت مع رأي مدير الشرطة في استحالة ان تكون هناك علاقة عاطفية بين هذا الضابط واحدى المعلمات بسبب كونه كان قد تجاوز الاربعين عاماً ومتزوج وله سبعة أطفال بالإضافة الى كونه يحمل شكلاً قبيحاً كشكل الشاعر الحطيئة الذي انشد يصف نفسه قائلاً :
أرى لي وجهاً قبح الله خلقه فقبح من وجه وقبح حامله
على كل حال للتأكد من ادعاء هذا الرجل المكرود وحقيقة الامر وبعد ان ارسلته الى الحبس اتصلت مع احد مفوضي ذلك المركز وكانت تربطني به علاقة متينة واستفسرت منه عن صحة ما ذكره رئيس العرفاء (سبهان) والذي أيد أقواله جملةً وتفصيلاً وأضاف بان المعلمة المقصودة شابة جميلة جداً وغير متزوجة ومن عائلة مثقفة معروفة وواقعة في حب هذا الضابط المتخلف بشكل غريب وملفت للنظر وبعد ان ذكر لي اسمها وعائلتها اتصلت بشقيقها الذي تربطني به صداقة قديمة وطلبت منه ضرورة اللقاء لأمر هام وبعد تحديد الموعد حضر الى داري وجلست معه وشرحت له حكاية علاقة شقيقته بهذا الضابط ومواصفاته غير المشجعة لتكون شقيقته على علاقة به مع فارق الثقافة والتحضر بينهما بالإضافة الى الأمور الاخرى التي ذكرتها.
شكرني شقيقها ووعدني بمعالجة الحالة بأسرع ما يمكن وطلب مني كتمان الامر وان أكون عوناً له في وضع حد لهذه العلاقة.
اتصل بي بعد ثلاثة أيام وطلب مني اللقاء به وفضل ان يكون ذلك في مسكنه وفعلاً حضرت عصر ذلك اليوم وجلست معه في حديقة داره والذي فاجأني وذكر لي بأن كل المعلومات التي ذكرتها عن شقيقته لا صحة لها وأكاذيب وهي تنكر اصلاً معرفتها باي ضابط بهذا الاسم وبهذه المواصفات، استغربت من أقواله واصراره على تكذيب هذه المعلومات حول السمعة السيئة لشقيقته في محل عملها وانتشار الشائعات والاقاويل ضدها.
على كل حال وعند هذا الحال انقطع الكلام حول الموضوع بيني وبينه ونهض ودخل الى الدار ليجلب لي كتاباً كان قد وعدني به وبينما هو مدبر اقبلت صوبي فتاة ممشوقة القوام وهي تحمل طبقاً يعلوه قدحاً من العصير وعندما أصبحت بمواجهتي وقفت وهي تحدق النظر في وجهي بغضب والشرر يتطاير من عينيها العسليتين وبعد ان وضعت قدح العصير امامي بادرتني قائلة:
"اشرب .. اشرب .. ان شاء الله سم وزقنبوت"
وانا امعن النظر اليها واردد مع نفسي أيعقل ان تكون هذه الفتاة الخمرية اللون والكستنائية الشعر هي (نسرين) عاشقة (خلف)!!!
هي: "لماذا تنظر لي هكذا"
أجبتها: " ليش يا بنت الحلال .. عيب عليج .. بس اريد اعرف انتي شعاجبج من (خلف)؟"
اجابتني بحدة وعصبية : " انت شعليك .. شيخصك .. لو من الحسد؟"
أجبتها : " أي حسد؟! ليش اني شايفج قبل هسة؟! هاي اول مرة اشوفج..وفعلاً بعد ما شفتج صرت احسد خلف.. انت شابة جميلة ومعلمة ومثقفة ومن عائلة معروفة شلج بهذا السكراب .. متزوج وعنده سبع أطفال"
أجابتني : " معليك انت .. لا تتدخل احبه ومستحيل اعوفه"
ونحن بهذا الجدال والكلام عاد شقيقها والذي اكد لي مرة أخرى بان سمعة شقيقته ناصعة البياض وهو على ثقة تامة من حسن سلوكها وتصرفها والكلام حولها مرده طبيعتها المنفتحة اجتماعياً، نهضت مودعاً إياه ومؤيداً لكلامه حول حسن سمعة وسلوك شقيقته وانا اردد مع نفسي (نايم ورجليه بالشمس).
في اليوم الرابع مثلت أمام مدير الشرطة وبعد أداء التحية العسكرية له رحب بي وخاطبته قائلا :
"سيدي .. مضى على عملي معكم مدة تقارب الــ 5 سنوات وكانت قراراتكم في فرض العقوبات على منتسبي الدائرة تتصف بالعدل والرحمة باستثناء العقوبة التي فرضها سيادتكم على رئيس العرفاء (سبهان) قبل ثلاثة أيام، حيث كانت تفتقر لهذين الصفتين".
أجابني مستغرباً : "نقيب محي الدين لماذا تعتقد بأن الحكم لم يكن عادلاً ألم ترى ما كان يحاول تلفيقه من أكاذيب حول هذا الضابط المسكين (خلف) والصاق تهمة وجود علاقة له مع احدى المعلمات وانت على بينة من مواصفات هذا الضابط واستحالة ان تقع فتاة في حبه".
أجبته: "سيدي وأنا كذلك كنت مع رأي سيادتكم في هذا الشأن لحين تأكدي من صحة ادعاء (سبهان) ومن أن كلامه بحق الضابط لم يكن تلفيقاً بل صحيحاً وتحدثت له عن الخطوات التي خطوتها وخاصة الفقرة التي تخص زيارتي ولقائي بشقيقها وحديثها معي عندما اختلينا و تأكيدها على وجود هذه العلاقة بينهما و عدم رضاها من تصرفاتي نحوها وإصرارها على الاستمرار في علاقتها مع (خلف) ومهما كانت النتائج.
قاطعني مدير الشرطة متسائلاً وبدهشة:
" نقيب محي الدين كيف هي مواصفات هذه الفتاة".
اجبته: "انها في غاية الجمال والنظارة والحب لا يعرف المستحيلات واذكرك بهذه المناسبة بقصة الأميرة (عزه) ابنة ملك العراق (فيصل الاول) وشقيقة ملك العراق لاحقاً (غازي) التي عشقت طباخاً يونانياً في إحدى سفراتها إلى اليونان صحبة شقيقها الملك (غازي) وعند عودتها الى العراق تظاهرت بالمرض و تم ارسالها الى اليونان لغرض العلاج صحبة احدى شقيقاتها وفور وصولها الى هناك تزوجته وتحولت من الاسلام الى الدين المسيحي وكان ذلك في عام 1936 وقد شكل تصرفها فضيحة من العيار الثقيل للعائلة المالكة في العراق ورغم المحاولات من قبل عائلتها الا انها اصرت على هذا الزواج والذي استمر لغاية عام 1943 وأصبحت بعد ذلك في وضع مزري بعد أن استولى زوجها اليوناني على كافة مدخراتها واخذت تعاني الفقر والعوز وخاصة بعد انقطاع كافة مواردها لحين السماح لها من قبل عمها الملك (عبد الله) ملك الاردن بالعودة الى القدس وماتت فيها عام 1959 بمرض السرطان.
بعد نهاية حديثي لمدير الشرطة عن قصة عشق ابنة مدينتي (نسرين) وقصة عشق الاميرة (عزه)، أمرني بإطلاق سراح رئيس العرفاء (سبهان) من الحبس وفي نفس اليوم اتصل بي (خلف) مستفسراً عن أسباب إطلاق سراحه وأجبته بأنه قرار مدير الشرطة رأفتاَ بحاله ومراعاةً لكبر سنه والاكتفاء بما نفذه من مدة العقوبة مع استمرار العاشقين في علاقتهما المحمومة، توسعت دائرة الاشاعات والاقاويل مما حدا بدائرتى الاثنين وبعد التنسيق تم نقل العاشق الى مكان في جنوب المحافظة والعاشقة إلى مكان في شمال المحافظة ولم تجد هذه الوسيلة نفعا حيث استمرت العلاقة بينهما، وانقطعت بعد ذلك وبعد ان وصلت الامور الى طريق مسدود وحالة اليأس من نتائجها بعد ان فرض الواقع السياسي الجديد عام 1991 بعد حرب الخليج الثانية وضعاً صعباً على جميع المجالات ومنها مجالات العشق والغرام.

الواقعة حقيقية والاسماء وهمية

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

861 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع