المُسْعِفة

     


                   المُسْعِفة

حسن النواب:حملتني‭ ‬عربة‭ ‬تُكتك‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬التحرير‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬الثامن‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬تشرين‭ ‬الأول،‭ ‬‏بعد‭ ‬أنْ‭ ‬هبطتُ‭ ‬من‭ ‬مركبة‭ ‬أقاربي‭ ‬الفارهة‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬النصر‭ ‬عند‭ ‬الضحى،‭ ‬كنتُ‭ ‬قد‭ ‬وصلتُ‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬قبل‭ ‬يومين‭ ‬من‭ ‬باريس،‭ ‬أعمل‭ ‬طبيبة‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬مشافي‭ ‬مدينة‭ ‬فرساي‭ ‬منذُ‭ ‬عام‭ ‬واحد،‭ ‬وجدتُ‭ ‬صعوبة‭ ‬بالحصول‭ ‬على‭ ‬إجازة‭ ‬لمدة‭ ‬شهر‭ ‬من‭ ‬مدير‭ ‬المشفى،‭ ‬وبعد‭ ‬مداولات‭ ‬أقنعتهُ‭ ‬بضرورة‭ ‬سفري‭ ‬إلى‭ ‬العراق،‭ ‬وافق‭ ‬على‭ ‬مضض،‏‭ ‬لقد‭ ‬اتَّخذتُ‭ ‬قرار‭ ‬السفر‭ ‬للمشاركة‭ ‬في‭ ‬انتفاضة‭ ‬تشرين،‭ ‬وها‭ ‬أنا‭ ‬الآن‭ ‬أجلس‭ ‬في‭ ‬خيمة‭ ‬تحت‭ ‬نصب‭ ‬الحرية‭ ‬بصحبة‭ ‬زميلات‭ ‬في‭ ‬مهنة‭ ‬الطب‭ ‬لم‭ ‬تسنح‭ ‬فرصة‭ ‬للتعرُّف‭ ‬عليهنَّ‭ ‬بعد،‭ ‬بسبب‭ ‬زحام‭ ‬الخيمة‭ ‬بالمصابين،‭ ‬كان‭ ‬معظمهم‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬حرقة‭ ‬في‭ ‬عينيه‭ ‬وصعوبة‭ ‬في‭ ‬التنفس،‭ ‬وهي‭ ‬حالات‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬اختصاصي‭ ‬الذي‭ ‬درسته‭ ‬في‭ ‬كليَّة‭ ‬الطب،‭ ‬لاحظتُ‭ ‬استخدام‭ ‬زميلاتي‭ ‬للخميرة‭ ‬والمشروب‭ ‬الغازي‮»‬‭ ‬الببسي‮»‬‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬أولئك‭ ‬المتظاهرين،‭ ‬معظمهم‭ ‬في‭ ‬ريعان‭ ‬الشباب،‭ ‬وهناك‭ ‬صبية‭ ‬صغار‭ ‬بينهم،‭ ‬غير‭ ‬أنَّ‭ ‬وجودهم‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬الخيمة‭ ‬لا‭ ‬يجدي‭ ‬نفعاً،‭ ‬إذْ‭ ‬لا‭ ‬بدَّ‭ ‬من‭ ‬نقلهم‭ ‬إلى‭ ‬الهواء‭ ‬الطلق،‭ ‬لكن‭ ‬فضاء‭ ‬ساحة‭ ‬التحرير‭ ‬كان‭ ‬ملوَّثاً‭ ‬بالغازات‭ ‬والدخان‭ ‬الكثيف،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬أمامنا‭ ‬سوى‭ ‬علاجهم‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬خيمة‭ ‬صغيرة‭ ‬لا‭ ‬تتسع‭ ‬لأعدادهم‭ ‬الهائلة،‭ ‬وفي‭ ‬خضم‭ ‬انشغالنا‭ ‬بعلاج‭ ‬المتظاهرين،‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬الخيمة‭ ‬فتىً‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬عمره‭ ‬الرابعة‭ ‬عشر‭ ‬ربيعاً،‭ ‬كان‭ ‬يسعل‭ ‬بشدَّة‭ ‬واللعاب‭ ‬يسيلُ‭ ‬من‭ ‬فمه‭ ‬والدمع‭ ‬ينهمرُ‭ ‬من‭ ‬عينيه،‭ ‬طلبتُ‭ ‬منهُ‭ ‬الجلوس‭ ‬في‭ ‬ركن‭ ‬الخيمة،‭ ‬وقد‭ ‬اجتاحني‭ ‬الارتباك،‭ ‬وتلبَّستني‭ ‬الحيرة،‭ ‬فلا‭ ‬أعرف‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬أبدأ‭ ‬في‭ ‬علاجه؟‭ ‬إذْ‭ ‬كانتْ‭ ‬يده‭ ‬اليمنى‭ ‬ملفوفة‭ ‬بضماد‭ ‬وكذلك‭ ‬ساقه‭ ‬اليسرى‭ ‬والدم‭ ‬يرشحُ‭ ‬من‭ ‬موضع‭ ‬الإصابتين،‭ ‬وإذا‭ ‬بهِ‭ ‬يقول‭ ‬بهدوء‭ ‬كمن‭ ‬ينصحني‭:‬

‭-‬‭ ‬دكتورة‭ ‬لا‭ ‬عليك‭ ‬بالدم‭ ‬النازف،‭ ‬أريد‭ ‬علبة‭ ‬خميرة‭ ‬حتى‭ ‬أشطف‭ ‬وجهي‭.‬

نشرتُ‭ ‬مزيج‭ ‬الخميرة‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬الحنطي،‭ ‬وأنا‭ ‬أتفادى‭ ‬الدمع‭ ‬الذي‭ ‬تجمَّع‭ ‬في‭ ‬عينيَّ،‭ ‬كأنَّ‭ ‬الغاز‭ ‬المسيل‭ ‬للدموع‭ ‬أصابني‭ ‬معهُ،‭ ‬حين‭ ‬استكانَ‭ ‬بعد‭ ‬دقائق‭ ‬نظر‭ ‬إلى‭ ‬وجهي‭ ‬ويبدو‭ ‬أنَّه‭ ‬لا‭ ‬حظ‭ ‬لمعان‭ ‬الدمع‭ ‬في‭ ‬عيني،‭ ‬سألني‭ ‬مرتاباً‭:‬

‭-‬‭ ‬أنتِ‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬العلاج‭ ‬أيضاً‭ ‬

هبَّ‭ ‬فجأةً‭ ‬وانتشل‭ ‬علبة‭ ‬ببسي‭ ‬من‭ ‬حاوية‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬الخيمة،‭ ‬ونشر‭ ‬السائل‭ ‬الغازي‭ ‬على‭ ‬وجهي‭ ‬وسط‭ ‬ذهولي،‭ ‬حين‭ ‬استرجعتُ‭ ‬أنفاسي،‭ ‬قلتُ‭ ‬بخجل‭:‬

‭-‬‭ ‬أشكرك،‭ ‬سأستبدل‭ ‬ضمادك‭ ‬الآن،‭ ‬أنت‭ ‬تنزف‭..‬

كانت‭ ‬إصابة‭ ‬يده‭ ‬اليمنى‭ ‬بليغة‭ ‬وبحاجة‭ ‬إلى‭ ‬معالجة‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬السرعة،‭ ‬انهمكتُ‭ ‬بخياطة‭ ‬جرحه‭ ‬العميق‭ ‬بدون‭ ‬تخدير،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬الفتى‭ ‬صامتاً‭ ‬ويدّخنُ‭ ‬بشراهة،‭ ‬كأنَّ‭ ‬الغُرز‭ ‬التسع‭ ‬التي‭ ‬وضعتها‭ ‬لا‭ ‬تعنيه؛‭ ‬وحين‭ ‬انتقلتُ‭ ‬لمعالجة‭ ‬جرح‭ ‬ساقه‭ ‬اليسرى،‭ ‬رنَّ‭ ‬هاتفهُ‭ ‬الجوَّال‭ ‬بنغمة‭ ‬موطني‭..‬،‭ ‬فاحتشدَ‭ ‬الدمع‭ ‬في‭ ‬عينيَّ‭ ‬مرَّة‭ ‬أخرى،‭ ‬ردَّ‭ ‬على‭ ‬النداء‭ ‬بقسم‭ ‬غليظ‭ ‬بعد‭ ‬أنْ‭ ‬استمعَ‭ ‬برهةً‭ ‬إلى‭ ‬المتصل‭:‬

‭-‬‭ ‬وحق‭ ‬أم‭ ‬البنين‭ ‬أنا‭ ‬بخير،‭ ‬وأتناول‭ ‬الغداء‭ ‬تحت‭ ‬نصب‭ ‬الحريَّة‭ ‬الآن‭..‬

غمزَ‭ ‬لي‭ ‬بطرف‭ ‬عينه‭ ‬اليمنى‭ ‬مع‭ ‬ابتسامة‭ ‬خفيفة‭ ‬طفتْ‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬المتعب،‭ ‬ثمَّ‭ ‬عاد‭ ‬يتكلَّم‭ ‬بثقة‭:‬

‭-‬‭ ‬لنْ‭ ‬أرجع‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭ ‬حتى‭ ‬أجد‭ ‬وطني

أغلق‭ ‬الهاتف‭ ‬وأطلق‭ ‬حسرة‭ ‬متقطّعة،‭ ‬استبدَّ‭ ‬بي‭ ‬الفضول‭ ‬لأسألهُ‭:‬

‭-‬‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬المتصل؟

أجابَ‭ ‬بنبرة‭ ‬جريحة‭:‬

‭-‬‭ ‬أمي

‭-‬‭ ‬هل‭ ‬أنت‭ ‬طالب‭ ‬مدرسة؟

‭-‬‭ ‬لا‭ ‬سائق‭ ‬تُكتك

خفقَ‭ ‬قلبي‭ ‬مثل‭ ‬طائر‭ ‬مختنق‭ ‬بالدخان،‭ ‬وأنا‭ ‬أضع‭ ‬ضماداً‭ ‬جديداً‭ ‬على‭ ‬جرح‭ ‬ساقه‭ ‬اليسرى،‭ ‬حين‭ ‬أكملت‭ ‬إسعافه،‭ ‬نهض‭ ‬مثل‭ ‬قط‭ ‬برّي‭ ‬ليغادر‭ ‬الخيمة،‭ ‬سألتهُ‭ ‬برفق‭:‬

‭-‬‭ ‬أين‭ ‬عربة‭ ‬التكتك؟

نظر‭ ‬بانكسار‭ ‬نحوي‭ ‬وقال‭ ‬بصعوبة‭:‬

‭-‬‭ ‬احترقتْ‭ ‬على‭ ‬جسر‭ ‬الجمهورية

ثمَّ‭ ‬أزاح‭ ‬بيدهِ‭ ‬دمعةً‭ ‬ثقيلةً‭ ‬انزلقتْ‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬وغاب‭ ‬عن‭ ‬أنظاري‭.‬

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

684 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع