مسيرة الطب العدلي وروّاده في العراق ودوره في كشف الجريمة

   

مسيرة الطب العدلي وروّاده في العراق ودوره في كشف الجريمة

            

         من إعداد: أ. د. أكرم عبدالرزاق المشهداني

                 

الطب العدلي كما يطلق عليه في العراق او الطب الشرعي كما يطلق عليه في البلاد العربية، أو الطب القضائي، أو الطب الجنائي Forensic Medicine هو أحد الطرق العلمية التي تقود المحقق إلى كشف غموض الجريمة والتعرف على الحقائق وجمع الأدلة لكشف مرتكبي الجرائم وتقديمهم للمحاكمة. و(الطب الشرعي) هو فرع طبي تطبيقي يختص ببحث المعارف والخبرات الطبية وتطبيقها في مجالات التحقيق الجنائي، بهدف تفسير وإيضاح وحل جميع ما يتعلق بالأمور الفنية الطبية والشرعية للقضايا والمسائل التي تكون موضع المنازعة القضائية المتصلة بالجسم البشري وما قد يحصل عليه من اعتداء. 

والتسمية مكوّنة من شقين: (الطب) وهو كل ما يتعلق بجسم الإنسان حيا كان أم ميتا، إذ أن الأطباء هم وحدهم القادرين والمؤهلين علميا على تقديم المشورة الطبية ذات الصلة بجسم الإنسان لذلك أنيطت بهم هذه المسؤولية، أما الشق الآخر من المصطلح (العدلي أو القضائي أو الشرعي) فلأن العدل هو الفصل في المنازعات بين الأفراد وأثبات الحقوق، ولما كانت أجهزة العدالة (من قضاء وأجهزة تحقيق وادعاء عام وشرطة) هي المختصة بإظهار الحق و كشف الجرائم وفض المنازعات والخصومات وإقامة العدل، فأنها تستعين بالطب العدلي في كل ما يؤدي الى تقديم الأدلة التي تسهم في حل غموض الجرائم. أي أن الطب الشرعي هو التخصص الطبي الذي يُسَخر العلوم الطبية لخدمة العدالة إما عن طريق الإثبات أو النفي. والطبيب العدلي هو الطبيب الذي يستعان بخبرته الطبية ومعلوماته الشرعية لخدمة العدالة عن طريق كشف غموض الجانب الطبي من القضايا التي يعرضها القضاء، ويُعد خبيراً فنياً محايداً مهما كانت جهة ارتباطه. إذن فالطب العدلي هو أحد الطرق العلمية التي تقود المحقق إلى كشف غوامض الجريمة والتعرف على الحقائق وجمع الأدلة والقرائن التي تساعده على كشف الجرائم وتقديم مرتكبيها للعدالة.
ومع تطور الجريمة أصبح اللجوء إلى الوسائل العلمية لاستخراج الأدلة والقرائن التي لا تقبل الدحض ومواجهة المجرمين بها أمراً ضروريا بل حتميا. إن زمن (الاعتراف هو سيد الأدلة) قد ولّى وحلَّ محله الدليل العلمي الذي يكون على أساسه القاضي قناعته. كما إن الاعتماد على استخراج الأدلة والقرائن بالوسائل العلمية كالطب الشرعي مثلا يضيّق من هامش الخطأ وبذلك يكون حكم العدالة صائباً ومقنعاً.
إذن فالطب الشرعي هو فرع طبي تطبيقي يختص ببحث المعارف والخبرات الطبية وتطبيقها في مجالات التحقيق الجنائي، بهدف تفسير وإيضاح وحل جميع ما يتعلق بالأمور الفنية الطبية والشرعية للقضايا والمسائل التي تكون موضع المنازعة القضائية المتصلة بالجسم البشري وما قد يحصل عليه من اعتداء. وللطب الشرعي أهمية بالغة في التأثير على القرار القضائي في المسائل الجزائية ويظهر ذلك جليا على مستويين: التكييف القانوني للوقائع، وإقامة الدليل الجنائي. فالطب الشرعي له دور كبير في تشخيص الجريمة، وفي تحديد الفعل الإجرامي ونتائجه، لذلك فإنه يؤثر بصفة مباشرة في تحريك الدعوى العمومية وعلى التكييف القانوني للوقائع ويظهر ذلك جليا في حالة الوفاة وفي الجروح بمختلف أشكالها ومسبباتها، وفي الجرائم الجنسية.
مهام الطبيب الشرعي:
وتتمثل مهمة الطبيب الشرعي في إجراء الفحوصات على الأشخاص ضحايا الاعتداءات الجسدية أو حوادث المرور أو حوادث العمل ويصدر بهم شهادات وصفية للإصابات مع تحديد مدد العجز كما يختص الطبيب الشرعي وحده بإجراء تشريح الجثث بناء على طلب السلطة المختصة وتحديد أسباب الوفاة. كما يمكن أن ينتدب الطبيب الشرعي كخبير في المسائل الفنية المرتبطة باختصاصه من طرف القضاء سواء كانت القضايا مدنية أم جزائية. بالإضافة إلى هذه المهام فإن الطبيب الشرعي يزاول مهنة التعليم والبحث العلمي.
القيمة القانونية للدليل المقدم من الطب العدلي:
وللطب الشرعي أهمية بالغة في التأثير على القرار القضائي في المسائل الجزائية ويظهر ذلك جليا على مستويين: التكييف القانوني للوقائع، وإقامة الدليل الجنائي. فالطب الشرعي له دور كبير في تشخيص الجريمة، وفي تحديد الفعل الإجرامي ونتائجه، لذلك فإنه يؤثر بصفة مباشرة في تحريك الدعوى العمومية وعلى التكييف القانوني للوقائع ويظهر ذلك جليا في حالة الوفاة وفي الجروح بمختلف أشكالها ومسبباتها، وفي الجرائم الجنسية.
وبشأن القيمة القانونية للدليل الطبي الشرعي عبر مراحل السير بالإجراءات الجزائية، فإنه يكتسب أهمية بالغة بالنظر إلى المرحلة المبكرة التي يجمع فيها (مباشرة بعد وقوع الجريمة)، ونظرا للطابع المؤقت لبعض الأدلة الطبية الشرعية القابلة للزوال أو التغير بالزمن مثلا (إجراء أخذ العينات المنوية على ثياب أو جسم الضحية أو في حالة رفع الجثة ووضعيتها وبعض الآثار الموجودة في مكان الجريمة). ويساعد الدليل الطبي الشرعي أولا على إثبات وقوع الجريمة وظروف وقوعها، وثانيا على إثبات نسبتها إلى شخص أو نفيها عنه، إضافة إلى تحديد هوية الضحية في بعض الحالات.
أما عن دور الدليل الطبي الشرعي في مرحلة التحقيق، فالمعلوم أن جهات التحقيق القضائي تتولى استغلال الأدلة التي تم جمعها على مستوى تحقيقات الشرطة القضائية مع تعزيزها بأدلة قضائية جديدة. ويلعب الدليل الطبي الشرعي دوراً هاماً في نفي الجرائم بالنسبة لأشخاص أشتبه في قيامهم بها أو تم اتهامهم بها، وبذلك فإنه يسهم في تكريس مبدأ قرينة البراءة.
أما عن الدليل الطبي الشرعي في مرحلة المحاكمة، فإن الدليل الطبي الشرعي يتعرض كغيره من الأدلة لتقديره من قبل جهات الحكم خلال التحقيق النهائي التي تخضع لمبادئ قرينة البراءة (أي الإثبات على جهة الاتهام) وحرية الإثبات والاقتناع الشخصي للقاضي. أما بشأن خضوع الدليل الطبي الشرعي إلى تقدير القاضي وحرية الإثبات، فليس على القاضي أن يتقيد وجوباً بدليل علمي معين مثلا لإثبات نسبة جريمة إلى متهم أو عدم نسبتها إليه، كما يخضع تقدير قيمة الدليل الطبي الشرعي إلى مطلق الاقتناع الشخصي للقاضي، وعدم تقييد القضاة إلا بما قد تحدثه في إدراكهم أدلة الإثبات وأدلة النفي وعلى مدى توفر الاقتناع لديهم بالأدلة المقدمة. إن للطب العدلي أو الشرعي دوراً لا يستهان به في كشف غموض الجرائم ومساعدة اجهزة التحقيق لفك طلاسم الجريمة.
مهام الطبيب العدلي في كشف الحوادث:
الطبيب العدلي هو أحد أهم عناصر كشف غموض الجرائم لما يقدمه من معلومات الى جهة التحقيق فيما يتصل بـفحص وتشريح جثث الموتى وإعطاء الرأي الفني في سبب الوفاة وما أذا كانت الوفاة طبيعية أم جنائية، وفحص جسم المشتبه بهم وبيان الجواب بصدد استيضاحات جهة التحقيق عن سبب الجروح والعلامات الظاهرة والخفية، للوفاة او الإصابة أو الجروح، وكذلك فحص مخلفات مسرح الجريمة مثل البقع الدموية والمنوية واللعابية وفحص الشعر والألياف والملابس وآثار البارود وآثار تهشم الزجاج، وفحص بصمة الحامض النووي أو ما يطلق عليه الـ DNA وفحص السموم والمواد المخدرة. ولا يتعامل الطب العدلي مع جثث الموتى فحسب وإنما يقوم بفحص الأحياء لأثبات حقيقة وأسباب الجروح والحروق والإصابات والاعتداءات الجنسية، وكذلك تقدير العمر, واثبات حالات التسمم والكحول والمخدرات، وأثبات البنوة بواسطة العلامات الوراثية وبصمة الحامض النووي، وكذا فحص حالات الانتحار والحوادث المختلفة وهو يتعرض لحالات الرضوض والسموم المختلفة التي تتراوح نتائجها بين الموت والعجز الوظيفي الدائم والأذى القابل للشفاء، كما تشمل مواضيعه طيفاً واسعاً من حالات حوادث العمل والأمراض المهنية وحوادث السير والحوادث الطارئة بشكل عام والمشاكل الجنسية وتقييم المرضى العقليين وتقدير العمر وتحديد الهوية وفحص الجبر والشدة عند الموقوفين وفحص الجروح بأنواعها وتحديد المسؤولية الطبية في حالات الإهمال وسوء الممارسة في السلك الطبي إلى جانب فحص الوفيات وتشريح الجثة في حالات الموت المفاجئ والمشبوه … إلخ
الطب العدلي في العراق، تأريخ حافل وهو من أقدم الأجهزة العربية:
ويعد الطب العدلي في العراق من أقدم أجهزة الطب الشرعي في الوطن العربي والمنطقة وكان وما زال لخبرائه وأطبائه المرموقين دور بارز في إسناد أجهزة العدالة وكشف غموض الحوادث وتقديم الخبرة والمشورة الطبية الجنائية ونذكر منهم بالإجلال والاحترام المرحوم الدكتور حنا خياط والمرحوم الدكتور أحمد عزت القيسي والمرحوم الدكتور وصفي محمد، والمرحوم الدكتور خالد عبدالرحمن الزبيدي والصديق العزيز الدكتور فائق منير بكر ومن جاء بعدهم من الأطباء العدليين العراقيين، ممن ما زالوا في عطاء متواصل يواصلون مسيرة من سبقهم لخدمة العدالة ويستحقون كل التقدير والتحية. ولقد تصدى الطب العدلي في العراق للعديد من الحوادث الجنائية الهامة على مدى تاريخه الحافل بسبب ثبوت حياديته والتزامه بالأخلاق المهنية.
ومن المعلوم أن بعض أجهزة الطب العدلي في العالم تتبع وزارة العدل وأخرى تتبع الداخلية أو الشرطة، وفي دول أخرى تتبع الجامعات كهيئة خبرة استشارية تلحق بكليات الطب، في حين أنها في أقطار أخرى تتبع وزارة الصحة، وقد كان (معهد الطب العدلي) في العراق عند تأسيسه أوائل العشرينات مرتبطا بمديرية الشرطة العامة في وزارة الداخلية، وبعد سنوات تم ربطه بوزارة العدل، بعدها تم ربطه بوزارة الصحة، ومهما كان ارتباطه فأن الطبيب العدلي يجب أن يضع في اعتباره الحياد وأنه يعمل من أجل العدالة وأن مسألة تبعيته لجهة معينة هي تبعية إدارية تنظيمية لا أكثر إذ لا سلطان على الطبيب العدلي غير ضميره الشخصي وخبرته المهنية.
منذ تأسيس كلية الطب العراقية في تشرين الثاني عام 1927 والتي كانت تسمى آنذاك بالكلية الطبية الملكية العراقية كونها الكلية الطبية الأولى والوحيدة في العراق، كان لمادة الباثولوجي والطب العدلي حضور واهتمام في خطة الدراسة، فقد ابتدئ بتدريس الباثولوجي عام 1929 على يد التدريسيين كل من الأستاذ البريطاني ميلز (الباثولوجي النظري)، والأستاذ الدكتور شوكت الزهاوي (الباثولوجي العملي). كما ابتدئ بتدريس الطب العدلي عام 1930 لطلبة الصف الرابع وكان اول مدرس وكان أول مدرس للجانب النظري أ.د. حنا الخياط (وهو أول عميد عراقي لكلية الطب كما كان أول وزير صحة في العراق)، أما الجانب العملي والباثولوجي التشريحي فكان يدرسه الدكتور آكوب جوباتيان في عام 1932 عاد الى العراق أ. د. أحمد عزت القيسي بعد حصوله على شهادة الاختصاص في الطب العدلي (وهو أول طبيب عراقي يحصل على مثل هذه الشهادة) وعلى يديه تأسس معهد الطب العدلي في بغداد (التابع الى وزارة الصحة حالياً وشعبة الطب العدلي في كلية طب بغداد). وبعد ذلك توالى عدد من الأساتذة تدريس هذه المادة الحيوية، منهم الأستاذ الدكتور عبد الرحمن عبد الغني والأستاذ الدكتور يوسف عقراوي وكانا أيضاً من أوائل رؤساء الفرع آنذاك، وكذلك الاستاذ الدكتور (عبد الصاحب علش).

    

مبنى دائرة الطب العدلي بمنطقة الباب المعظم قرب كلية الطب جامعة بغداد

الطب العدلي ومصرع الملك غازي:
يروي الدكتور جلال حمدي فيقول: (تخرجت من الكلية الطبية وكنت يومها خفراً في المستشفى الملكي، وحوالي الساعة (12) ليلا استلمت مخابرة من الاستاذ صائب شوكت وكان مديراً للمستشفى طالبا مني وبسرعة تحضير ادوية ذكرها لي، وذلك لحادث خطر حصل للملك وهو بسيارته، وجاءت سيارة ملكية تنقلني بسرعة شديدة للقصر الملكي، وفي طريقي رأيت الحادث والسيارة وهي مرتطمة بعمود من الكهرباء معوج. فلما وصلت الى القصر واجهتني والدته وهي تبكي بحرقة قائلة "اسرع فان اخاك مصاب"، فلما رايته قبل قدوم باقي الاطباء كان فاقداً الوعي ورأسه مُدمى، وفيه كسر في مقدمة الرأس، وحالته خطرة او ميئوس منها.. وعند ذلك حضر كل من الدكتور صائب شوكت والدكتور سندرسن والدكتور ابراهام. وعند الفحص الكامل قرّروا ان الحالة ميئوس منها، وفعلا توفي بعد مدة قصيرة. فانتقلوا الى غرفة جلوس الملك واخذ سندرسن ورقة وكتب تقريرا ليذاع على الشعب، وكان كما يلي:
((ننعي بمزيد من الأسى والاسف وفاة صاحب الجلالة ((على اثر اصطدامه بعمود كهرباء)). وقد كتبه طبعا بالإنكليزية وطلب مني ترجمته فلما انتهيت من ترجمته قلت لسندرسن: لا يصح ان ننشر هذا التقرير من قبلنا بل من قبل الحكومة، ويجب ان يكون تقريرنا وصف حالة الملك عند رؤيتنا له ووصف حالة الكسر وسبب الوفاة.. ولكن الدكتور سندرسن رفض واصر على التقرير الذي كتبه.. وكان في وقتها طبيبا حديث التخرج، واصر على ذلك الدكتور / صائب شوكت، وفعلا وضع التقرير من قبلهم. وفي صباح اليوم التالي اعترض على هذا التقرير كثير من الاطباء وكذلك رئيس شعبة الطب العدلي، وفعلا تم نقل جثة الملك من القصر الى البلاط وفحصت اللجنة الطبية مضافا اليها الدكتور / احمد عزت القيسي والدكتور/ صبيح الوهبي، واعيد الفحص عليه من قبل هذه اللجنة ووضع تقريرا اصولياً عن الحادث)).
ويضيف الدكتور جلال حمدي:
( يعتقد جميع العراقيين تقريباً ان الملك غازي قد قتل، ولكن للتاريخ نقول ان حادثة الاصطدام كانت قضاءً وقدراً، رغم ان الملك كان مكروها من قبل الانكليز وحتى والدته كانت تعتقد يقيناً أن الحادثة دبرت من قبل الانكليز، وتاكد لي ذلك عند دخول الدكتور سندرسن بصحبته الى الغرفة التي كان نساء القصر فيها ينوي معالجة من يحتاج للعلاج منهن فكانت والدته تصرخ وتقول ان لا يقترب منهن، بل يبقى جلال معهم فقط حتى الصباح. وفعلا شعر الدكتور سندرسن بذلك وترك القصر. وفعلا بقيت معهم حتى صباح اليوم التالي ثم ذهبت الى المستشفى الملكي لأداء اشغالي المعتادة).
ويواصل الدكتور جلال حمدي حديثه فيقول:
((اما ما قراناه في الجرائد بعد الحادث وما صرح به المؤرخون فلا صحة له (حسب اعتقاده) وكان الملك منذ حدوث الحادثة وحتى وفاته فاقد الوعي ولم يتكلم بأية كلمة قطعا، وللمرة الثانية اقول ان حادثة موت الملك كانت قضاءً وقدرا ولو انه كان غير محبوب او مقبول من قبل الانكليز ولراحة ضميري اذكر ذلك. وعلى كل حال فان مقتل الملك غازي رحمه الله بقي موضع خلاف وجدل بين كل العراقيين والعرب والغالبية تعتقد أنه كان قضاء وقدراً)) ..

  

                 صورة سيارة الملك غازي
الطب العدلي ومصرع العائلة المالكة 14 تموز 1958:
تذكر المصادر ان جثث كل من الملك فيصل الثاني والامير عبدالاله ومن قتل معهما في الهجوم على قصر الرحاب ارسلت حسب القانون الى معهد الطب العدلي للفحص، وكالطريقة المتبعة في ارسال المجنى عليهم في الحوادث الجنائية الى الطب العدلي للفحص وتقرير سبب الوفاة، وقيل ان الزعيم الركن عبدالكريم قاسم انتقل من مقره بوزارة الدفاع الى بناية الطب العدلي القريبة من الدفاع ليتاكد من وصول الجثث ونتيجة الفحص وللتاكد من وفاة الملك الشاب وولي العهد، وحين تاكد من ذلك خرج عائدا للدفاع وكانت الناس قد تجمهرت عند بناية الطب العدلي لتحيته.

   

عبدالكريم قاسم خارجا من معهد الطب العدلي بعد ان تاكد من وفاة الملك والوصي

                      

عبدالكريم قاسم يرافقه وصفي طاهر في احدى غرف الطب العدلي بعد ان تاكد من وفاة الملك فيصل وعبدالاله ومن معهم

 من أعمدة ورموز الطب العدلي في العراق:

     

            المرحوم الدكتور احمد عزت القيسي

        

المرحوم الدكتور احمد عزت القيسي ولد في بغداد- محلة الصدرية سنة 1907 ونشأ في محلة باب الشيخ برصافة بغداد، ودرس في مدارسها، وتخرج من الاعدادية المركزية. وضع النواة الاولى لتأسيس الطبابة العدلية في العراق. تخرج من جامعة مونبيليه في فرنسا عام1931 وحصل على شهادة الدبلوم في الطب العدلي والامراض العقلية من جامعة باريس، ودبلوم الطب العدلي من جامعة أدنبره. عاد الى الوطن عام 1932 وعيّن طبيباً شرعياً في مديرية الشرطة العامة والمستشفى الملكي. ومن ثمّ عين رئيساً لشعبة الطب العدلي في 27/8/1934 وفي سنة 1934 بدأ بتدريس مادة الطب العدلي في الكلية الطبية، ومدارس الشرطة وكلية الحقوق. وقد أوفد إلى المملكة المتحدة وعمل بمعية السير سدني سميث S. Smith في كلية طب جامعة أدنبرة، وفي عام 1939 نقل ملاكه إلى مديرية الصحة العامة طبيباً ثم شغل منصب مدير معهد الطب العدلي عام1941 حتى 14/7/ 1958 والذي تم تشييده في محلة العيواضية بجوار مبنى كلية الطب، ولما أقعد المرض الدكتور خنا خياط أستاذ الطب العدلي، أنيطت بالدكتور القيسي مهمة التدريس النظري والعملي في كلية الطب. كما شغل منصب عميد كلية طب جامعة بغداد من 4/10/1958 حتى 6/2/1962 ونائبا لرئيس جامعة بغداد عام1961 وبعدها استمر استاذا في الكلية حتى عام 1973 .
وكان الدكتور القيسي يلقي محاضراته بكلية الطب باللغة العربية، مردداً المصطلحات الأجنبية بلغة عربية سليمة، وأخذت المصطلحات الطبية العدلية التي استخدمها تأخذ مكانها ويرددها الأطباء العدليون، مثل (السحجات) و (الكدمات) وغيرها.
ذاعت شهرة الاستاذ الدكتور القيسي في بلدان العالم المختلفة من خلال مؤلفاته وبحوثه في مجال الطب العدلي وكان بعض بحوثه لها الفضل في اضافة المزيد في مجال الطب الشرعي، وقد منح وسام الرافدين المدني سنة 1953. كما أنه كان من مؤسسي نقابة الأطباء وذوي المهن الطبية وانتخب كأول نقيب سنة 1952. ساعد في تنظيم الخدمات الطبية في الاماكن النائية وتوفير متطلبات الاطباء من الناحية المهنية والفنية والمادية، أسس دراسة دبلوم في الطب العدلي سنة 1972. له مؤلفات عديدة وأهمها (كتاب الطب العدلي) بالاشتراك مع المرحوم الدكتور وصفي محمد علي سنة 1950. له الفضل الكبير في تأسيس وتنظيم وادامة معهد الطب العدلي. له إبن طبيب وهو الدكتور شهاب أحمد القيسي يعمل طبيب استشاري جراحة الاوعية الدموية في المملكة العربية السعودية.
كتب عنه أحد طلابه: ((كان المرحوم الدكتور أحمد عزة القيسي موفور القامة، ممتلئ الوجه، يمشي بخطوات واثقة يوحي إليك منظره أنه رجل رياضي، ولا عجب فهو قد زاول مختلف أنواع الرياضة في مطلع شبابه، بما في ذلك رياضة الزورخانة، ومن كلامه تشعر أنه (بغدادي صميم) ومحب بالمقام العراقي، وفي حديث الجد فإنه يحدثك عن آخر البحوث الطبية التي أجراها والمقالات التي نشرها، ويريك مقتطفات منها وإشارات إليها في كتب ومراجع الطب العدلي في العالم).
عُرِفَ عن الدكتور القيسي بين الأوساط العلمية والجامعية والطبية والعدلية بنزاهته وسمعته الحسنة، ولذلك فقد أحاط أعمال (معهد الطب العدلي) بسرية تامة، تتطلبها طبيعة العمل، فالدخول إليه لا يتم إلا بإذن خاص من الإدارة، وأبوابه الحديدية مغلقة موصدة على الدوام، لا تفتح إلا بعد التأكد من هوية القادم للمعهد. أما حضور التشريح وكتابة التقارير فإنها مقصورة على أطباء المعهد والمتدربين من الأطباء والطلاب تحت إشراف المسؤولين، وكان الدكتور القيسي يجري التشريح بنفسه، ويملي مشاهداته على المرحوم (مصطفى طبرة) الكاتب الشهير بالمعهد، لتدوينها في مسودة التقرير الطبي الذي يعد صياغته النهائية ويطبعه الدكتور القيسي.
توفي الدكتور احمد عزت القيسي في 14/1/1973 يرحمه الله

         

المرحوم الدكتور وصفي محمد علي من مواليد العراق1909

د. وصفي محمد علي من اقدم اطباء العراق، وثالث ممارس اختصاص بالطبابة العدلية، او المهنة الاصعب كما يسميها اطباء العالم كله. ارتبط اسمه وحضوره بكل حادث موت غامض يقع في مكان ما من بلدنا، حيث لابد للعدالة من ان تقتص من الجاني بمساعدة طبيب متخصص يكشف النقاب عن ملابسات الحادث وكيف لقيت الضحية حتفها لينال الفاعل عقابه!.

                              

برع المرحوم الدكتور وصفي محمد علي في علم (الطب العدلي) وأبدع فيه أيما ابداع، فقد كان شغوفـاً به، إذ كرّس حياته وفكره في خدمة هذا الفرع من فروع الطب، فتدفقت مواهبه وأراءه العلمية في كتبه وبحوثه المتميزة, فاتكأ عليها واعتمدها كتبًا منهجية أغلب طلبة كلية الطب والقانون والشرطة في العراق وفي الوطن العربي, إلى جانب طلبة الدراسات العليا في جميع تلك الكليات.
خلال الـ45 سنة خدمة، تقاعد شيخ الاطباء مرتين، واعيد الى الخدمة بقرار رسمي استثناء من تحديد العمر لمدة خمس سنوات مرتين ايضا.. وهو يتحدث لك عن الطب العدلي يروي التسميات التي رافقته والجهات الرسمية التي كان يرتبط بها، حتى الحق اخيراً بوزارة العدل. ويسترجع شريط الاحداث الغامضة التي عاصرها وفي مقدمتها مقتل الملك غازي ووزير المالية رستم حيدر وشهداء وثبة كانون التي احرجت حكومة صالح جبر.
تتلمذ المرحوم د. وصفي على يد المرحوم د. حنا خياط الذي يعد من بين أقدم من مارس الطب العدلي في العراق، الذي اختير استاذا لهذا النوع الذي كان يسمى وقتذاك (الطب القانوني) في كلية الحقوق التي فتحت ابوابها لقبول الطلاب في سنة 1908 وقد الف كتابا باسم (مسالك الطب القانوني عام 1924)، وبعد افتتاح كلية الطب العراقية في سنة 1927 عين استاذا فيها لتدريس القسم النظري من هذا الفرع وبعدها عين الدكتور المرحوم احمد عزت القيسي في صيف 1932 كرئيس لقسم الطب العدلي على ان يقوم بتدريس الطب العدلي التطبيقي اضافة لوظيفته.
يقول المرحوم وصفي محمد علي في حديث صحفي اجراه معه الصحفي المرحوم/ رشيد الرماحي نشر بمجلة ألف باء يوم 20 أيلول 1980:
((أنا أعتبر الممارس الثالث لهذا الفرع وقد يكون من المناسب ان اذكر انني كنت طالبا في كلية الطب في سنة 1934 استمع الى محاضرة لأستاذي الدكتور حنا خياط، واذا بمدير الصحة العام المرحوم الدكتور عبدالله الدملوجي يدخل الى الصف، وكان عدد طلابه (12) طالباً، وبدأ يستفسر منا عن الفرع الطبي الذي سنمارسه بعد التخرج، فأجبته بأني اشعر بميل للطب العدلي، وقد استدعاني بعد تخرجي في سنة 1935 وذكرني بقولي، فاجبته: "استطيع ان اقول اني الان اعشق هذا الفرع". فعُينتُ للتدريب تحت اشراف استاذي الدكتور القيسي، وذلك في 15-8-1935 وقد انيطت بي مهمة فحص المصابين المرسلين من مختلف السلطات التحقيقية بعد ان كان يقوم بفحصهم اطباء العيادة الخارجية في المستشفى الجمهوري (الملكي آنذاك). واذكر ان اطرف حادثة وقعت لي اثناء عملي آنذاك عندما كنت اقوم بفحص شخص ارسل الى القسم وقد فقد وعيه اثر اصابته برفسة رِجِل من قبل متهم ففحصته بدقة واتضح لي انه صحيح الجسم لم يُصب باي ضرر في احشائه بيد انه كان لا يجيبني ويتظاهر بانه فقد الوعي، فطلبت من المضمد الذي كان يساعدني ان يتصل بقسم الجراحة في المستشفى كي ترسل سيارة اسعاف لنقله وفتح بطنه للتثبت من احشائه، وكنت اتحدث بصوت عال وهو يسمعه، فلما احضرت النقالة وبينما كان المساعد يقوم بنقله، واذا به يقفز من منضدة الفحص ويفر هاربا الى الشارع والشرطي يتعقبه ليعيده الى المركز.
في 12 حزيران 1939 تم فصل هذا القسم من المستشفى الملكي والحق بمديرية الصحة العامة واطلق عليه اسم (معهد الطب العدلي)، وعليه فان هذا التاريخ هو ميلاد المعهد وقررت مديرية الصحة العامة بموافقة وزارة الشؤون الاجتماعية في اوائل 1944 حين كانت الصحة العامة تابعة لوزارة الداخلية، ثم الحقت بوزارة الشؤون الاجتماعية، قررت ايفاد عدد من الاطباء في مختلف الفروع للدراسة في انكلترا على حساب المعهد الثقافي البريطاني وحشر اسم الدكتور وصفي مع الاطباء المرشحين للدراسة فرفض ذلك. وذهب لمقابلة وزير الشؤون الاجتماعية حيث قال له (ان هذا الفرع يعتبر كطب للدولة اذ ان المتخصص فيه يقدم خدماته لرجال القانون ولا يستفيد منه في عيادته الخاصة، وعليه فان كانت الدولة تشعر بصلاحي لهذا الفرع، فأرجو ان يكون ايفادي من قبلها لا من قبل المعهد الثقافي البريطاني). وهكذا رفض د. وصفي البعثة ليحصل بعدها على إيفاد إلى القاهرة في 14-8- 1944 وحصل على دبلوم الطب العدلي وعلم السموم بدرجة جيد من جامعة القاهرة (فؤاد الاول آنذاك) وفي 23-12-1950 اوفد مرة اخرى الى انكلترة وامريكا والدانمارك للتدريب على هذا الفرع مع اساتذة في جامعة ادنبرة وكلاسكو ولندن وكوبنهاكن وهارفرد بامريكا.
أحداث عاصرها الدكتور وصفي محمد علي:
عن الاحداث السياسية التي عاصرها المرحوم د. وصفي وكانت لها علاقة بالطب العدلي، أجاب:
(لقد عاصرت في حياتي احداث كثيرة منها مقتل الملك غازي واقول بايجاز ان بعض وقائع القتل التي اسميها بالقتل السياسي ان صح التعبير كانت لا ترسل الى هذا المعهد من قبل السلطة القضائية للفحص اسوة بغيره وهو ما حدث لجثة الملك غازي وكذلك بالنسبة لجثة رستم حيدر وزير المالية الاسبق، وكان يحصل بعض الضغط على القائمين بأعمال المعهد في مثل هذه الوقائع كما حدث في الوقائع التي ارسلت الينا اثر الانتفاضة الشعبية على معاهدة بورتسموث في سنة 1948 حيث حضر قاضي التحقيق وكنت انا والدكتور جهاد شاهين كمساعد لي نقوم بفحص جثث الشهداء وقد استفسر مني عن السلاح الناري المستعمل فأجبته بعثورنا على مقذوفات نارية مطلقة ببندقية حربية من عيار 303 اي من نوع الاسلحة الاميركية، فعاد ثانية الى المعهد طالبا مني عدم ذكرها في التقرير، فرفضت ذلك، واوضحت له واقول هذا من باب ذكر الواقع لا التبجح، والله على ما اقول شهيد فانصرف، ثم اتصل بي رئيس ديوان مجلس الوزراء طالبا نفس الامر، فرفضت، واخيرا كلمني وكيل رئيس الوزراء وقتذاك بلهجة غير مستساغة، قائلا ان ذكر ذلك سيحرج موقف الحكومة فأجبته باننا كأطباء عدليين نذكر الحقيقة التي نشاهدها باعيننا!!، وبعد الحاح مستمر يشوبه التهديد اجبته باننا نذكر الحقيقة.
وحادثة اخرى حصلت لي في سجن الكوت عندما انتدبت لفحص سجين قتيل اختلف على نوع الالة التي ادت الى وفاته وهل هي اطلاقة من سلاح حربي ام انفجار قنبلة محلية من نوع مولوتوف قام بصنعها بعض السجناء وقد اتضح لي ان الموت كان بسبب مقذوف من بندقية حربية!
وهنا لابد من التعقيب (الحديث مازال للدكتور وصفي) لقد امضيت 45 سنة في هذه المهنة لم انظم خلالها اي تقرير طبي عدلي ولم اسمع بإصداره اذا لم تكن الامانة والنزاهة والاساليب العلمية المتبعة اساسه الاول والاخير.

   

الملحق المسائي الطارئ لجريدة البلاد البغدادية يوم الخميس ذ8/1/1940 لنشر البيان الرسمي الصادر عن مدير الدعاية العام عن مقتل السيد/ رستم حيدر وزير المالية في مكتبه من قبل مفوض شرطة.
موقف صلب للدكتور وصفي محمد علي:
ومن المواقف المشهودة تالتي رواها الدكتور وصفي، أنه وفي أواخر الستينات، حيث لم يمض على إنقلاب 17 من تموز سوى شهرين أو أكثر بقليل, من مواقفه الجديرة بالذكر رفض الدكتور المرحوم وصفي محمد علي تسليم تقرير الطب العدلي الرسمي بشأن تشريح جثة أحـد المتوفيـن تحـت طائـلة التعذيـب, وعندمـا أصـرّ أحد كبار مسؤولي النظام آنذاك عليه تسليمه تقرير الطب العدلي أخبره بأن التقرير يسلـّم إلى (حاكم التحقيق في القضية) فقط، ولا يمكن له تسليمه لأحد غيره. وكان موقفه هذا محط تقدير ذلك المسؤول، فأعجب من موقفه المهني الحازم، مما اهله لمنصب المسؤولية لتولي الإدارة العليا للطب العدلي في العراق.
كُرّم في حياته تكريم رائع من عمادة كلية الشرطة وسمّت بإسمه إحدى قاعاتها الدراسية, وقامت بطبع كتابه (الوجيز في الطب العدلي) على نفقتها الخاصة ليكون منهجاً اساسياً يُدّرس على طلبتها في الكلية.

         

المرحوم الدكتور عماد وصفي محمد علي ابن المرحوم الدكتور وصفي
مشاركته في الكشف على حوادث أبو طبر 1973:
شارك الدكتور وصفي محمد علي في الكشف على جميع الجرائم التي اقترفتها عصابة (أبو طبر) الشهيرة 1973 , ويذكر أنه قد أخبر اللجنة التحقيقية المختصة بالقضية آنذاك أن مقترف هذه السلسلة من الجرائم هو ((مجرم محترف وسادي)), لكن كان رأي وتوجه رئيس اللجنة التحقيقية – أمرًا مخالفـًا لما توصل إليه الدكتور المرحوم حيث كان يعتقد أن هذه الاحداث ارتكبتها عصابة اجنبية مرتبطة بمخابرات أجنبية، وأهدافها سياسية. ولكن في النهاية تبين للجميع صحة نظرية الدكتور وصفي العلمية الطبية في كون مرتكب تلك الحوادث (مجرمًا محترفـًا وساديًا).

    

  المرحوم الدكتور وصفي محمد علي مع طلابه في كلية الشرطة

المهنة الأصعب: لماذا يعزف عنها الأطباء؟

عن اسباب عزوف الاطباء عن الانخراط في سلك الطب العدلي يقول الدكتور وصفي: (إنها ظاهرة عالمية، نظرا لمشاكل الطبابة العدلية وصعوبة وقائعها وتعرّض القائم بالفحص الى مناظر غير مستساغة. لذلك فقد بادر المسؤولون في معظم بلدان العالم ومنها العراق بتقديم محفزات تشجيعية، بغية الحصول على اختصاصيين لهذا الفرع. ويسرني القول بأني قمت بتدريب 33 طبيبا حصل قسم منهم على درجة الاختصاص يتولون مسؤولياتهم بكل كفاءة واخلاص في مختلف محافظات العراق، كما فسح المجال لاستكمال دراستهم خارج القطر فيما اوفد عدد من الاطباء والفنيين القدامى للتدريب في اليابان وفرنسا وبريطانيا على ما استجد في هذا المجال.

أحيل المرحوم د. وصفي للتقاعد مرتين بسبب بلوغه السن الوجوبية للتقاعد لمنه سرعان ما يصدر قرار بمد خدمته خمس سنوات ويعاد للعمل للحاجة الماسة إليه، وكان يشعر بالبهجة والاعتزاز في كل مرة يبلغ فيها بتمديد خدماته لأنه يعتبر ذلك تكريم له وعرفان بخدماته.
ذكرياتي مع الدكتور وصفي محمد علي:
تعرفتُ عليه أستاذاً حيث كان يحاضر علينا المادة في كلية الشرطة (1966 – 1969) والمعروف عنه جديته في الدرس ولا يفوّت دقيقة من الوقت، إذ يباشر بالمحاضرة فور دخوله قاعة الدرس، ولا ينتهي منها الا مع اشارة انتهاء الدرس، وكان يظل طيلة وقت المحاضرة واقفاً، أو يتحرك بين رحلات الطلاب يشرح المادة بصوته الجهوري، ويستعين بالصور التوضيحية للشرح.
ومن الحوادث الطريفة أو الغريبة التي صادفتنا معه، أنه في الصف المنتهي يتطلب ان نقوم بصحبته بزيارة مسائية لقاعة التشريح في معهد الطب العدلي بالباب المعظم، لنشاهد عملية تشريح الجثث أمامنا، ونحن طلاب في مقتبل العمر ليس لدينا خبرة بالتعايش مع الجثث، ولم نشهد تشريحاً لميت، ومن الطبيعي أن تحصل حالة من الصدمة لدى من يشاهد منظر تشريح جثة ميت لأول مرة، بحيث تنسد شهيته للطعام ولا يستطيع تناول اي طعام في ذلك اليوم.. وحصل في ذلك اليوم عند انتهاء زيارتنا للطب العدلي، وعودتنا لكلية الشرطة ان وقعت حادثة تسمم الطلاب في مطعم الكلية اواخر عام 1968، وهي الحادثة التي أقلقت الدولة آنذاك واعتقدت انها حالة مدبرة .. فحضر كبار المسؤولين بالدولة الى الكلية وحضرت سيارات الاسعاف وكذلك باصات المصلحة ذات الطابقين لتنقل الطلاب المتعرضين للتسمم الى المستشفيات، وسلمت انا ومن معي لأننا أساساً لم نتناول شيئا من الطعام بسبب ردة الفعل بعد حضور تشريح الجثث في الطب العدلي!!
الدكتور فائق أمين بكر: عاشق الطب العدلي
من مواليد كركوك 1950 تخرج من كلية الطب في اسطنبول عام 1973 وشهادة تخصص بالطب العدلي من Medicine & Pathology 1977-1978 Society of Apothecaries, Guy's Hospital, Dept.of Forensic Medicine, London University
وشهادة من جامعة ليفربول من
1981 – 1984 من D.M.J.path. 1981-1984 Liverpool University, School of Tropical Medicine & Hygiene
وحصل على البورد في الطب العدلي من الاردن
اشتغل في معهد الطب العدلي طبيبا عدليا ومن ثم مديراً عاماً له..

                 

مارس التدريس في الكلية الطبية بجامعة بغداد وكليات الطب في جامعة النهرين وجامعة الانبار والجامعة الميتنصرية وجامعة بابل وجامعة القادسية كما قام بالتدريس في كلية الشرطة والنعهد العالي لضباط الشرطة والمعهد القضائي. كما اشرف على عدد من اطاريح الدراسات العليا بالطب العدلي وشارك في مناقشة عدد آخر من تلك الأطاريح .

   


مناقشة اطروحة دراسات عليا في الطب العدلي بكلية طب جامعة صدام وكنت عضوا في لجنة المناقشة بجانب الدكتور فائق بكر
كانت اصعب مرحلة واجهها الدكتور فائق هي مرحلة ما بين 2003 و 2006 والتعامل مع المئات من جثث الاشخاص المفقودين والمختطفين في حوادث العنف الطائفي في العراق، اضطر بعدها لمغادرة العراق للعمل في دولة عربية اخرى وما زال يمارس اختصاصه بتميز وتفوق.

   

صور من مآسي الطب العدلي ومشرحة الباب المعظم كما يسميها الناس أيام العنف الطائفي 2005 و 2006

تربطني بالاخ الدكتور فائق صداقة تمتد لربع قرن منذ التسعينات بحكم الترابط بين عملنا في الشرطة وفي الطب العدلي، ومن خلال الندوات والمؤتمرات المشتركة التي كنا نعقدها في مختلف الامور والمواضيع ذات الصلة بالجريمة. وما زلت اتواصل معه لحد الآن باستمرار بعد خروجه من العراق مضطرا بعد ان تعرض للتهديد، وصار استمراره في موقعه مجازفة وخطورة، فقرر ترك العراق مضطرا، واليوم هو طبيب عدلي مرموق في احدى دول الخليج العربي. عرفته عاشقا لمهنته كان وما زال، وكنت كلما ازوره في دائرته يأخذني في جولة ضمن بناية الطب العدلي لأطلع على التوسيعات التي اجراها للبناية بجهوده الشخصية في اقناع وزارة الصحة برغم ظروف الحصار كما يطلعني على قاعات التشريح وثلاجات الجثث، والمعدات والاجهزة الحديثة التي نجح في توفيرها بجهوده الدؤوبة. وأشهد له بدوره في تطوير الطب العدلي في العراق في اصعب وادق مرحلة وهي مرحلة الحصار الاقتصادي المفروض على العراق. وواجه الدكتور فائق صعوبات بعد 2003 وازدياد حوادث العنف الطائفي 2005- 2006 وامتلاء ثلاجات وقاعات الطب العدلي بالمئات من جثث المفقودين والمغدورين المعثور عليهم في أوج العنف الطائفي، والمئات من الناس المراجعين للمعهد بحثا عن مفقوديهم.. وما كان يسببه ذلك من ضغوطات غير طبيعية على عمل الطب العدلي في العراق في ظل تردي بل فقدان الامن في البلاد.
المرحوم الدكتور خالد عبدالرحمن الزبيدي:
من مواليد بغداد الكرخ 1927 تخرج من الكلية الطبية الملكية العراقية بداية الخمسينات واشتغل فترة طبيبا عاما مقيما في مستشفى طويريج بكربلاء وبعدها اشتغل بالطب العدلي، ودخل دورة الدبلوم العالي بالطب العدلي مع مجموعة من الاطباء العدليين وتدرب في الطب العدلي وفي مديرية التحريات الفنية على فحص المبرزات الجرمية مثل الاسلحة النارية. وبعد احالة الدكتور وصفي محمد علي الى التقاعد تم اختياره ليكون مديرا لمعهد الطب العدلي. وكان يحاضر في مادة الطب الشرعي على طلبة كلية الحقوق وطلبة المعهد القضائي وطلبة المعهد العالي لضباط الشرطة حتى احالته على التقاعد. وقد توفي في شهر شباط 2017 في مدينة عمان ودفن فيها يرحمه الله.

                   

          الدكتور خالد عبدالرحمن الزبيدي يرحمه الله

        

       المرحوم الاستاذ الدكتور عبد الوهاب عبد القادر الجلبي

ومن الاطباء العدليين في العراق المرحوم الاستاذ الدكتور عبد الوهاب عبد القادر الجلبي وهو احد فرسان هذا العلم بذل ما وسعه لاجل وضع اللبنات الاساسية له محاضرا ومؤلفا وناشطا في هذا المجال.

      

      

ولد سنة 1930 في مدينة الموصل، من اسرة الجلبي المتميزة بالعلوم والاعمال الخيرية وينتهي نسب الاسرة الى قبيلة طي فرع حريث، أكمل دراسته الاولية الابتدائية في مدرسة باب البيض والمتوسطة في الغربية والثانوية في الاعدادية الشرقية مدينته وانتقل بعدها الى تركيا حيث درس الطب في جامعة اسطنبول, وتخرج سنة 1960 بعد حصوله على شهادة Doctorate degree (M.Sc and ph.D) ثم أكمل الاقامة الدورية في مستشفى الموصل الجمهوري ومن ثم الخدمة العسكرية في مستشفى الموصل العسكري وابتدأ حياته العملية كطبيب جراح قام بالعديد من العمليات الجراحية ثم في عام 1965 انتقل الى فرع الطب العدلي في وزارة الصحة العراقية وفي عام 1976 غادر الى بريطانيا لاخذ دورات عملية تدريبية في الادلة الجنائية وتحديد الهوية بعدها غادر الى العاصمة المصرية لاكمال دراسته وحصل على شهادة الماجستير في الطب الشرعي من جامعة القاهرة 1971.
وبعد عودته للوطن تنسب للعمل والتدريس في كلية الطب جامعة الموصل وعمل كمساعد مدرس عام 1972 ثم مدرس وكان من اوائل المؤسسين لشعبة الطب العدلي في كلية الطب جامعة الموصل ورئيس قسم الطب العدلي والسموم ومن ثم استاذ مساعد عام1978 واستاذ مساعد بمادة السلوك الطبي عام 1982, وساهم ايضا بالتدريسات الاكاديمية والعملية في جامعة السليمانية وأربيل وكان يجيد اللغات التركية والانكليزية اضافة الى لغته الام العربية .
واستمر في نشاطه التدريسي في الكلية الطبية الى وفاته كما كان حريصا في تدريسه الاكاديمي والعملي للطب العدلي ومهتما بمادة السلوك الطبي ويعتبرها مادة لا تقل اهمية عن بقية العلوم الطبية وكانت لديه مقولة الطبيب بدون اخلاق طبية هو حامل لعلوم طبية فقط وليس طبيب .
وعلى الصعيد الانساني استطاع ان يجمع بين حب الناس واحترامهم له.

   

            مع اساتذة كلية الطب في حديقة الكلية

   

    مع مجموعة من الطلاب في حديقة كلية طب الموصل

المرحوم الدكتور/ ضياء نوري حسن الموسوي
ولد الدكتور ضياء نوري حسن الموسوي عام 1934 في بغداد درس الابتدائية في المدارس الجعفرية الابتدائية1942 -1948 والمتوسطة 1949-1951 والاعدادية1951-1955 وكلاهما في المدارس الجعفرية ايضا. تخرج من كلية طب بغداد عام 1961 وحصل على اختصاص الطب العدلي من جامعة جون هوبكنز في 26 /5 / 1972 هوعنوان للطب القضائي واداب المهنة الطبية في كافة كليات الطب العراقية
درس الطب العدلي في كليات الطب بغداد والبصرة والكوفة والمستنصرية وكلية التمريض والمعهد الطبي الفني وكلية القانون واصبح رئيسا لفرع الباثولوجي من عام 1980حتى عام 1982 وقد كلف بترجمة كتاب ميورز علم الامراض عام 1983. واجرى اكثر من مائة بحث حيث تم ايفاده الى الاردن وليبيا واسكتلندا
كان سريع البديهية ويتذكر الحدث مكانه ووقته وظروفه حتى لو حدث قبل اكثر من اربعين عام
توفى وهو يعد بحثا على وشك الانتهاء يتناول التحقيق في بعض المخطوطات الطبية التى جمع مصادرها وصورها في جامعة هالة في المانيا الشرقية انذاك
توفي بحادث مؤسف عام 1985 مسموما بسانيد البوتاسيوم القاتل من قبل احدى طالباته في كلية طب بغداد
شغل الدكتور ضياء الموسوي عدة مناصب ادارية وعلمية اهمها: استاذ مادة الطب العدلي في كليات الطب في جامعات بغداد البصرة الكوفة المستنصرية وكذلك التدريس في كليات التمريض والقانون والسياسة والمعهد الطبي الفني وشغل رئيس فرع الباثولوجي في كلية طب بغداد من20 / 4 /1980 حتى 5 /10 /1982 لديه عدة بحوث ودراسات في مجال اختصاصه ومن اهم اعماله وموضع اعتزازه كتابه التدريسي بعنوان: الطب القضائي واداب المهنة الطبية المطبوع عام1981 والذي اعتبر الكتاب المنهجي لطلبة كليات الطب في العراق في موضوع الطب العدلي. شارك في عدة مؤتمرات طبية وعلمية ودورات تدريبية داخل العراق وفي البلدان العربية والاجنبية شارك في نقابة الاطباء كعضو وكذلك في نقابة المعلمين وعمل استشاريا للمجلةالطبية العراقية من عام1983 لدية عدة بحوث لم تستكمل مع الاسف لوفاته عام 1985 وهو من عائلة تعني بالتراث والادب والشعر

كان استاذا لامعا ومقتدرا ومحاضرا قل مثيله يجبرك على الاستماع لمحاضرته باسلوبه الرائع.
المبدع الذي جعل ماده الطب العدلي لنا من الذ الحصص كنت متمكنا جديا بروح مرحه عالما متمكنا من اللغه خبيرا في الطبابه العدليه فقد كان شخصيه محبوبه في فرع الأمراض وكان عالم في اختصاصه كان اغتياله صدمه كبيره للجميع من زملاءه وطلابه وخساره كبيره

      

        

          صورته مع زملاء له في سفرة خارج العراق

             

الطب العدلي العراقي اليوم:
يدير معهد الطب العدلي اليوم الأخ الدكتور/ زيد علي عباس مدير عام الطب العدلي، مكملا مسيرة المعهد وخدماته الجليلة التي يقدمها للقانون والقضاء واجهزة التحقيق وطلبة الطب وطلبة المعهد القضائي وكلية الشرطة، فضلا عن اداء المهمة المنوطة بالمعهد.
ومن خلال موقع المعهد على الانترنيت عرفنا ان المعهد قد سجل اكثر من تسعة الاف فحصا خلال شهراب 2018 من خلال مركزه في بغداد وفروعه في محافظات العراق كافة، كما صرح بذلك الدكتور زيد علي عباس مدير عام دائرة الطب العدلي مؤكدا ان تلك الخدمات توزعت على مختلف اقسام الدائرة من اجل الوصول الى تحقيق افضل النتائج المتميزة فيما يتعلق بمستوى الخدمات العدلية المقدمة والتي يتم التعامل بها من خلال احدث الاجهزة الطبية.
تحية لكل رواد الطب العدلي في العراق من الراحلين والاحياء.. رحم الله من رحلوا وحفظ الله الباقين بصحة وسلامة.

       

  الدكتور زيد علي عباس مدير عام دائرة الطب العدلي حالياً

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

717 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع