طرائف وخفايا ولاة بغداد وباشواتها

  

       طرائف وخفايا ولاة بغداد وباشواتها

  

كان الحكم العثماني الذي خضع له العراق أربعة قرون طويلة غريباً في كثير من  أحواله وأطواره. وكان الباشوات الذين يعينون من الباب العالي للحكم فيه  يؤلفون مجموعة متنافرة يختلف أفرادها اختلافاً بيّنا في سوياتهم ومداركهم,  وفي عاداتهم وأحوالهم, بحيث يستطيع المرء أن يجمع مجموعة طريفة من أحوالهم  الشاذة وأطوارهم الغريبة.

فقد تولى الحكم في بغداد سنة سبعة وتسعين وخمس مئة وألف للميلاد حسن باشا الوزير , وعهد إليه السلطان بتأديب السيد مبارك أمير المشعشعين في الحويزة الذي تجاوز على جهات البصرة وعاث فسادا فيها على ما يول. وكان انتدابه لهذه المهمة من قبيل الاعتماد عليه , لأنه كان على ما يروي"جلبيــا"شجاعا.

علة أن أمر غريب ما يروى عنه أنه كان مغرورا كثير الإعجاب بنفسه , ميالا إلى الأبهة والفخفخة. ولذلك كان يحيط نفسه بعدد كبير من الحشم والأعوان ,وبالكثيرين من رجال الحاشية على اختلاف أنواعهم وأزيائهم , مضارعا بذلك الملوك والسلاطين. ثم ذهب إلى أبعد من هذا فصنع له , حينما تربع على دست الحكم في سراي بغداد , سريرا فخما كبير الحجم بلغت تكلفته خمسين ألف قرش. لأنه بالغ في تزويقه وزينه بزينة الأزهار والأثمار، التي صاغها من الفضة الخالصة. وقد أطلق على هذا التخت أسم « كاخ بهشت". فظل بسلوكه هذا موضع تعجب الناس وتندرهم ردحا طويلا من الزمن. وهذا الباشا هو الذي بنا جامع الوزير المعروف ببغداد اليوم. وفي غضون سنة سبعة وأربعين وستة مئة وألف صدر الفرمان الهم ايوني بعزل باشا من باشوات بغداد يدعى إبراهيم , فأعلن العصيان وقبض على بغداد بيد من حديد , ثم جمع من حوله قطعات الجيش المحلي فتحدى بها الدولة العلمية. وبدلا من أن تبادر الجهات المسؤولة في الأستانة إلى انتقاء رجل كفء يحل في محله وينتزع بغداد منه وقع اختيارها على خصي من خصيان البلاط العثماني يدعى سميز موسى باشا , أي موسى باشا السمين. وكان الباشا السمين هذا معروفا ببدانته المفرطة وعجزه عن السير والحركة , ومشتهرا بطبعه العصبي ومزاجه الحاد. والغريب في الأمر أن السلطان إبراهيم الذي عينه كان يبتغي من تعيينه في هذا المنصب أن يرفع الكلفة عنه , ويخفف أعباء الحياة عن كاهله, لأن الاشتغال في مثل هذا المنصب الخطير لم يكن في نظره ألا عملا ترفيهيا لا يتطلب غير قليل من الجهد وشيء لا يؤبه به من التفكير, ومع جميع ما كان في هذا الباشا من نقاط ضعف وعدم لياقة للمنصب أصبح حينما تسنم كرسي الباشوية حاكما بأمره, وبرهن خلال مدة حكمه كلها على استهتاره المتناهي بالقوانين والقيم واستهانته بالأرواح والأنفس.وكان أعماله كانت تأبى ألا أن تكون معبرة عما كان متسترا في تضاعيف جسمه الثقيل المترهل من أمارات مركب النقص الشديد بأنواعه وألوانه. فقد أطلق الحرية للجنود الانكشارية الذين تغلبوا على سلفه العاصي في الاعتداء على الناس والتجاوز على الوجوه واربا الثروة. وكان الجو الإرهابي العصيب الذي خلقه الباشا السمين , وحلفاؤه الانكشارية المعربدون في بغداد المرزوءة به خير جو تفرخ فيه أطماعه وتنفذ بواسطته خططه في النهب والابتزاز.
وفي سنة اربع وخمسين وستة مئة وألف أعلن حسين باشا أفر اسياب عصيانه في البصرة, وأنشق عن الدولة العثمانية , فسار لتأديبه على رأس جيش عرمرم مرتضى باشا والي بغداد. ولكنه خاب في مهمته لأنه تنازع مع قادة جيشه وأدى النزاع إلى تخلي الجيش عنه وعودته إلى بغداد. وحينما لحق بجيشه وجد أبواب بغداد موصدة في وجهه, وأعقب ذلك حصول تطورات غريبة أدت إلى عزله وتعيين رجل في محله يدعى آق محمد باشا. غير أن الباشا الأبيض هذا كانت أيامه في بغداد كلها أياما سودا لم يذق فيها طعم الراحة , ولم يتمتع خلالها بالهدوء ورغد العيش. فقد قضى نصفها بالأمراض والعلل , ونصفها الآخر في معالجة المشاكل وإحباط الفتن. وقد حاول الترفيه عن نفسه بهواية الصيد المحببة إليه فلم يجده لذلك نفعا أو يغنيه  فتيلا , مع أنه كثيرا ما كان يترك المدينة بأجوائها المتوترة ومشاكلها التي كانت تنتظر الحلول المعالجة فيبتعد عنها إلى البراري والقفار وحيدا فريدا. وقد ضاق ذرعا بالأوجاع التي ظلت تنهك قواه وتنغص عليه العيش , فتشبت بعقيدته الراسخة في الرقى والتعاويذ لعلها تأخذ بيده وتنقذه من براثن الألم والمرض . ثم التجأ إلى الملالي والدراويش لعل الله ينزل عليه البرء والشفاء عن طريقهم أو يخفف عنه البلوى بأدعيتهم. وحينما برح به المرض , وأصابه الضعف والهزال بحيث صار يمتنع عن تناول الأدوية والعقاقير جاء له كتاب ديوانه , الشاعر العندليب عبد الباقي وجدي , بدرويش من دراويش المولوية الأخيار فجسه جسا خفيفا وأخذ يدعو له بالشفاء القريب. ثم عاد إلى التكية المولوية بالقرب من سوق"المولاخانة"فجمع جمعا من زملائه الدراويش , وبعد أن قدم لهم الطعام والحلويات توسل أليهم بأن يبتهلوا إلى فاطر السماوات والأرض بان يمن بالشفاء العاجل على عبده الباشا الوالي ويسبغ عليه جلابيب الرحمة وأثواب العافية. وبعد أن قرأ الدراويش الفاتحة قاموا إلى ذكرهم فتحلقوا في حلقاتهم المعهودة , وأخذوا يبتهلون إلى الحق عز وجل بشفاء الباشا الأبيض , ثم كرروا ذلك أياما ثلاثة , فعادت بذلك الصحة إلى جسم الباشا العليل بقدرة قادر ولبس ثوب العافية بإلهام غيبى من ذلك الدرويش الصالح. وكان خاصكي محمد باشا , الذي أعقب الباشا الأبيض هذا, يسبح وحده في متناقضاته. فمع جميع ما كان عنده من خبرة في الحكم ومنزلة في البلاط العثماني الذي نشأ فيه , كان يتصف بمجموعة من السجايا والأطوار المتناقضة فقد كان رجلا بهي المنظر حلو الشمائل كثير الميل إلى الفخفخة والأبهة على شاكلة حسن باشا الوزير. ولذلك عمل حينما تولى الحكم في سراي بغداد على أن يكون له ديوان فخم باذخ يجلس فيه فيكلم الناس من وراء ستاره بطريقة لم تكن مألوفة عندهم. ونظم الأمور فيه بحيث فرض على الموظفين والمستخدمين المحيطين به أن يلبسوا ألبسة خاصة , منها"الفرجية"ويعملوا بموجب أنظمة ومراسيم معينة. وصار يجلس في كثير من الأيام فيبذل للفقراء والمستحقين بذلا سخيا ويبالغ في التلطيف والأنعام على طبقات معينة من الناس. ومع جميع ما كان يبديه من مظاهر التدين , والعناية بتعمير المساجد والعتبات المقدسة في العراق والحجاز , فقد كان ميالا إلى الأنس والطرب ومولعا بمعاقرة الخمرة وبنت الحان. ولذلك كان يقضي أيامه ولياليه معظمها مع الغواني والمغنين , وتعاطي المشروب في رابعة النهار. وقد كان من الطبيعي والحالة هذه أن تتسرب الخمرة والنساء في أيامه إلى جميع الأوساط.
ونعرف عن مرتضى باشا , الذي تولى الحكم في ولاية بغداد ثلاث مرات غير متتاليات في أواسط القرن السابع عشر , ثلاث خصال تبدو غريبة متصفة بشيء غير يسير من الشذوذ بالنسبة للكثير من مقاييس الحكم المعتاد. فقد كان يجامل العوام ويتقرب أليهم تقربا غير اعتيادي في شتى الأحوال والمناسبات , وكانت بابه تبقى مفتوحة للجميع في الليل والنهار , ولم يكن يحجز بينه وبين الناس أي حاجب أو موظف. حتى روي عنه أنه دخل عليه في يوم من الأيام احد المراجعين بعد أن أنفض عنه خدامه فأيقظه من نومه وكان قد اخلد إلى الراحة وقدم إليه عريضة كان يحملها بيده , ولما لم يجد الباشا حوله من يناوله المحبرة والقلم طلب إلى صاحب العريضة نفسه أن يأتي له بهما , وأصدر له الأمر اللازم في الحال جبرا لخاطره. وكثيرا ما كان يشاهد وهو يتجول في الأسواق والشوارع لوحده , ويلتجئ إلى المقاهي فيستريح فيها. وهناك كان يفصل في القضايا التي تعرض عليه , ويبت في أنواع شتى من الدعاوى أو يحسم الخصومات. وكان علاوة على ذلك  فوالا يرجم بالغيب على ما يروى, فيقرأ منويات الناس ويتنبأ بقدوم القادمين , ولذلك كان العوام يستبختون به ويستمدون من سعده. ومما يرويه عنه في هذا الشأن مؤرخ بغداد وأديبها في ذلك العهد مرتضى نظمي أن سماكا من السماكين ألقى بشبكته في النهر حينما هو مرتضى باشا من الجهة التي كان يقف فيها فأصطاد عشرين سمكة في الحال لأنه كان قد رماها وهو يذكر أسمه. ويروى كذلك أن أحد الملاحين دخل عليه ذات يوم فقدم له شمعة كانت بيده, وأخبره بأنه كان قد نذرها له حينما صادفت سفينته عاصفة هوجاء كادت تغرقها في النهر لو لا أن يستمد من سعده هو ويندبه في ملمته. على أن مرتضى  باشـا كان مع هذا كله مفرطا في اللهو , ميالا جد الميل إلى معاشرة النساء والقصف معهن في الداخل والخارج. فكثيرا ما كان يحيي الحفلات الداعرة في بيته في المدينة , أو في المخيمات التي كانت تقام له خارجا في العراء , فيقيم فيها الضيافات التي كانت تفتح للجميع ويؤتى أليها بالراقصات والمغنيات على ملأ من العالم. وبذلك كان يعد مثلا سيئا لموظفيه وحاشيته , وقدوة غير حسنة لكثيرين من الناس.
وقد كان الوالي احمد باشـا , بن الحاج حسن باشـا الكبير , على درجة غير يسيره من غرابة الأطوار كذلك. فقد نشأ أميا لا يحسن القراءة والكتابة طوال أيام حياته. لكنه رزق بسطة في الجسم ومتانة في العضلات وذكاء في العمل , وشخصية فذة جعلت من سيرته الحافلة بجلائل الأعمال شيئا خطيرا في الحق والحقيقة. وكان برغم كونه أميــا لا يحسن القراءة والكتابة يتذوق الشعر بالعربية والتركية , ويقدر رجال العالم والأدب فيقربهم وينعم عليهم. وكان ذكاؤه الحاد المقرون بقابليته الرياضية الخارقة , وسخائه النادر بين الباشوات, وشخصيته القوية الفذة , وهو الذي مهد له سبل النجاح في أدارة الولايات العراقية الثلاث التي عهدت إليه وهو في ريعان الشباب. وكانت تلك الخصال هي التي مكنته من الوقوف في وجه الطاغية نادر شاه , الذي قدر له أن يحاصر بغداد ثلاث مرات متتاليات من دون أن يتوفق في الاستيلاء عليها. على أن أهم ما أشتهر به هذا الباشـا"البهلوان"من المآثر والخصال بين الناس قابليته الرياضية الفائقة , وقوته البدنية الخارقة التي ألانت له الحديد. فقد كان فارسا ماهرا, يجيد ألعاب الفروسية بفنونها وحيلها , وقويا جبارا يأتي بالعجائب إذا أخذ الرمح بيده أو جرد السيف من غمده. وقد رويت عن صفاته هذه قصص وروايات فيها الكثير من المغزى والطرافة. فيروى مثلا أنه رمى بسهم من بعيد ذات يوم فنبت في الحديد. ويروى كذلك انه كان يأخذ بقطعة اللباد السميكة ويبلها بالماء, ثم يلفها لفا قويا ويضربها بالسيف فيبترها كما تبتر الخيارة بالسكين. وانه كان يعلق قطعة من الورق في الهواء فيقطعها بسيفه الحاد وكأنه قد قصها بالمقص ويحكى أيضا انه كان يؤتى له بالصينية المصنوعة من النحاس فيمسكها بكلتا يديه ويشقها شقا , أو يلويها ليا ويطويها كطي الورق. غير أن الذي اشتهر عنه في هذا الشأن قصة صراعه مع الأسد. فقد خرج يوما إلى الصيد بموكبه الحافل غلى منطقة عكركوف, وبينما كان يسير بين الآجــام ومن ورائه نفر من حاشيته ومماليكه شاهد من بعيد أسدا أفزعه دنو الموكب , فتحفز للأنقضاض على من فيه.
لكن احمد باشا كر عليه بفرسه وصال وجال من حوله بمهارة وقوة جأش حتى أصابه في أحشائه بحربة مرقت من تحت أبطه. فتجلد الأسد ووثب عليه , لكن فرس الباشــا عاجلته بفرسة من عندها علة أم رأسه فولى هاربا لا يلوي على شيء. فتبعه الباشــا من جديد مع نفر من خدامه , وأجهزوا عليه فقتلوه , وسلخوا أهابه فحشوه بالتبن وجاءوا به إلى بغداد.

الكاتب: جعفر الخياط

المصدر: المدى

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

707 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع