لواء التبعية أو لواء الأفاعي الثلاث

الاستاذ الدكتور محمد تقي جون

لواء التبعية أو لواء الأفاعي الثلاث

مقدمة

عادة تغذي الصفرة أوراق الماضي، إلا هذه الأوراق فإنها تزداد حمرة مع الوقت، حين قذف صدام بشباب العراق في جبال وصحارٍ لا يسكنها غير الزواحف والوحوش، في حرب مكشوفة للموت من كل الجوانب ضد إيران الإسلامية. وفتحت جبهتان: إيران وشمالي العراق، واختلق عدوان: الفرس والكوردستانيون. لم تكن مأساة مقاتلة أخ مسلم - وإن عظمت وجلّت- بحجم أن يصبح العراقي عدوّ العراقي!! ثمة ثلاثة أخوة يقتتلون: (كورد الشمال) من جهة، و(العرب والفيليون) من الجهة الأخرى.
من المحن الكبيرة التي عاناها الفيليون أثناء الحرب العراقية الإيرانية عدم الثقة بهم، وهي من تداعيات محنتهم الأمِّ (الانتماء)، وفي الوقت نفسه اضطرار الطاغية إلى تجنيدهم أسوة بنظرائهم العراقيين في دعوة المواليد والاحتياط والجيش الشعبي. وهو إذا وجد الحلول فلن تكون ضابطة بشكل نهائي، وقد أثبت واقعهم العسكري تأرجح تلك الخطط وقلقه المزمن معهم.

مركز تدريب خاص بالتبعية
عندما بدأ صدام حسين إجراءاته الفعلية المخطط لها لشنِّ حرب تخدم أمريكا وإسرائيل، قام بدعوة المكلفين والاحتياط. وهكذا ذهب من يشملهم التجنيد إلى تجانيدهم، ولكن كانت المفاجأة أن يُجمع الجنود الفيليون وينقلوا ليس إلى مراكز التدريب كأقرانهم، بل إلى السجن!!
أخبرني ابن خالتي (صبيح كريم) أنه راجع التجنيد يوم 12/4/ 1980 لخدمة الاحتياط فقالوا له ولفيليين معه نحو (200) جندي: أنتم تبعية إيرانية! ونقلوا بسيارات من التجنيد إلى مركز التدريب في النجف، وعندما سلموا كتاب النقل إلى المركز أصدر آمر المركز أمراً بإلقائهم في السجن!
وفي اليوم نفسه نقلوا إلى الحارثية. ومن الحارثية أرسلوا مع كتاب رسمي إلى سجن رقم (1) في معسكر الرشيد. وهذا السجن يُسجن فيه عادة القادة والسياسيون الكبار الخونة! وفي هذا (الباستيل المرعب) بقوا (50) يوماً، منعوا فيها من الإجازات والزيارات، وكانت المعاملة والظروف صعبة إلى درجة أن بعضهم قال للحرس: اعدمونا وخلصونا!! وكانت تأتيهم وفود من القصر الجمهوري يجتمعون بهم ويقولون لهم عبارة مكررة: ان هذا إجراء احترازي فقط!
بعد ذلك جعلوا المحجوزين على قسمين: الذين عندهم مهجرون بقوا في السجن، وأعدموا لاحقاً. والذين ليس عندهم مهجّرون أخرجوهم على دفعات: في المرة الاولى اخرجوا التبعيات عدا الإيرانية (كما يسمونهم) وهي: هندية، روسية، باكستانية، صينية، بريطانية وغيرها. وفي المرة الثانية أخرجوا التبعية من المسيحيين، وفي المرة الثالثة أخرجوا التبعية الإيرانية.
والجنود الذي أخرجوا من سجن رقم (1) أرسلوا إلى معسكر النجف فبقوا فيه ستة أشهر، ثم نقلوا إلى الرمادي فبقوا نحو سنة، ثم فرقوا في الألوية (فصائل شغل).
بعد ذلك خصص صدام(مركز تدريب تكريت) للتبعية (كما أطلق عليهم) فصار الفيلي المجنَّد يأخذ دفتر الخدمة المؤشر ويذهب إلى مركز تدريب تكريت، بينما باقي الجنود يذهبون إلى مراكز تدريب متعددة غير محددة. وفي مركز التدريب هذا كانت فصائلهم منفصلة عن فصائل بقية الجنود (غير التبعية) ولكن عموماً هو لم يتركهم في المركز وحدهم بل خلط معهم جنوداً (عراقيين) يثق بهم، وتلك السياسية سيبقى يستعملها معهم لاحقاً بعد مركز التدريب.
وفي المركز كانوا يدرَّبون تدريباً مبسطاً أكثره سير كشفي (يَسْ- يَمْ)؛ وذلك لأن الطاغية لم يردهم مقاتلين كباقي الجنود العراقيين الذين اعتنى بتدريبهم كما كان يسمع الفيليون من أصدقائهم في المراكز الأخرى. وكانت مدة التدريب قصيرة جداً (نحو شهر) وبعدها ينقلون إلى التشكيل المخصص لهم، وأحياناً يتم نقلهم قبل انتهاء الدورة التدريبية. ولا يعدو المكان الذي ينقلون إليه (سجناً عسكرياً) إذ الهدف إبعاد الفيليين عن الجبهة والداخل.
وكان على صدام أن يعفيهم من الخدمة العسكرية بسبب التحاق الجنود العراقيين (الموثوق بهم) إلى جبهات القتال ضد إيران، بعدما تركوا فراغاً واضحاً في الدوائر والمؤسسات الحكومية وشغل الأعمال الحرة في الأسواق وكل ما يحتاجه الداخل لتمشية الأمور الحياتية الضرورية، ولكنه خاف من قيامهم ضده أو شغبهم عليه إذا تركهم منفردين بالداخل بوصفهم (طابوراً خامساً)، فملأ الجامعات والأسواق والمعامل والدوائر والمؤسسات بالمصريين والأجانب بدلاً منهم، وهكذا لم يستفد من الفيليين عسكريين ومدنيين.

فوج 330 المستقل
في البدء كان الجنود الفيليون يؤخذون من مركز تدريب تكريت إلى المواقع العسكرية في: (الناصرية) و(الديوانية) و(الحلة) و(تكريت) و(الناصرية) و(النجف) و(المثنى) و(البصرة)، وهناك ينسَّبون إلى (فصائل شغل) تلك التي ينسَّب لها في الغالب الجنود غير المسلحين، والمعوقون من الألوية؛ لأن الخطة اقتضت عدم تسليحهم، فكانوا يقضون النهار يمارسون أشغالا شاقة في مصانع ومعامل الجيش كمعمل البلوك والطابوق في الديوانية، وعند اشتداد المعارك على الجبهات يساعدون جنود الألوية في نقل العتاد والأسلحة من المخازن إلى سياراتهم كالحمالين. وفي الليل يؤدون الخفارات (الواجبات الليلية) عزلاً حتى من العصي!
وبسبب كثرتهم بعد طلب مواليد متتالية، وجد صدام أن رقعة توزيعهم ستزداد مساحتها، ومن ثمَّ وجد لزاماً عليه جمع أعدادهم الغفيرة في تشكيل عسكري. كما رأى أن جمع الجنود الفيليين في مكان واحد أفضل من تفريقهم على فيالق وفرق وألوية الجيش العراقي؛ فإن عدم ولائهم المسلَّم به يجعلهم أشبه بعدو منفلت، أو كأفعى في غرفة النوم تقض المضجع وتدمن على السهر الموجع. وان خيال الأفعى كما يظهر لم يفارق مخيلة صدام في تشبيههم بها. وقد وسمهم بلقب (التبعية) فصار يطلق على تشكيلهم العسكري ومجاميعهم وأفرادهم فيقال: لواء التبعية، فوج التبعية، جنود تبعية، جندي تبعية أو تبعي، فميزهم نفسياً عن الجيش العراقي.
في أواخر عام (1981) تأسس (فوج 330 المستقل) في (نواحي سنجار). وحدثني أخي علي أنهم نقلوا بحراسة مشددة من الناصرية إلى بغداد بسيارات مدنية تمهيداً لنقلهم إلى سنجار. وفي الصباح عندما طلب الجنود من السواق أن ينزلوا من السيارات للفطور، رفضوا وقالوا للجنود: اخبرونا بعد السماح لكم بالنزول لأنكم تبعية وتهربون!! إلا أن إعصار غضب الجنود أجبرهم على الخضوع لهم.
وتدل كلمة المستقل التي وُسِم ووُصِم بها (فوج 330 ) على استقلالهم عن الجيش العراقي. وهذا الفوج يختلف عن أي فوج في ألوية الجيش؛ لأنه بمثابة لواء في العدد. وبعد تأسيس الفوج صار الجندي الفيلي يأخذ كتابه من معسكره في تكريت إلى فوجه المستقل، وجعلوا آمراً على الفوج (المقدم جواد رومي الدايني).
ضم فوج 330 مختلف التبعيات أكبرها الإيرانية وهي تقسم إلى قسمين: كورد فيليون (يشكلون الغالبية)، وفرس (بمسمى تبعية إيرانية). ومن التبعيات الأخرى: هندية وبريطانية وروسية وجنوب شرق اسيا وباكستانية وغيرها.. فضلا عن المسيحيين الذين أعطوا أعمال الطبخ في بهو الضباط غالبا لتميزهم بالطهي الجيد.
وتعرف تبعية هؤلاء من سحنتهم فترجعهم إلى أصولهم؛ فالهنود لهم السمرة الهندية ذاتها، الذين من جنوب شرق اسيا عيونهم مشقوقة. كما حمل بعضهم الأسماء المعروفة في تلك القوميات فأحد الجنود من التبعية الروسية اسمه (إيـﭭان) وكانوا يلقبونه تندراً بـ(إيـﭭان الرهيب)!! وكان مخترعاً، فقد صنع من (السكراب) سيارة يركبها في إجازاته، واقترح صنع آلة لرفع الجنود من الأرض إلى قمة (جبل بمو) بوقت قياسي بدل صعودهم بمشقة في ست ساعات أو أكثر، ولكن آمر السرية لم يوافق لتكلفة المشروع. وأسماء الكورد الفيليين بين العربية والكوردية مثل: قيطاز، كوكز، شمّه، گنجلي، شوزه‌لي وغيرها، وكذلك بقية الأعراق.
في نيسان من عام 1982 جاءت الأوامر بتحرك الفوج إلى بعقوبة، وسط إشاعات قوية تقول: إن الفوج سيشترك في المعارك على جبهات القتال، وقد كانت مراوغة خبيثة من صدام كما تبين فيما بعد. بقي الفوج يومين في بعقوبة، بعدها تم تحريكه إلى منطقة (زين القوس)، وبقي الفوج شهراً كاملاً هناك. خلال هذا الشهر وضع صدام الفوج في اختبار لزجهم في إحدى المعارك الخاسرة للتخلص منهم نهائياً. كان جنود الفوج يقومون في هذا الشهر بحفر مواضع وملاجئ للجيش العراقي في العمق من الليل إلى ما قبيل الفجر، ويقضون النهار في المقر.

رفض الفيليين القتال على الجبهات
وفجأة جمّع المقدم الدايني الجنود ومعه ضابط (مقدم) جاء من (القصر الجمهوري)، فأعلمهم الأخير أن القيادة تريدهم أن يشاركوا في الحرب بوصفهم عراقيين ليقفوا مع إخوانهم في جبهات القتال!! وفي تلك الأيام كان التهجير على قدم وساق، وقد جاءت الأنباء إلى الجنود وهي تلتهب ناراً فأكثر الجنود شمل التهجير ذويهم أو أقاربهم ولاسيما أهل بغداد.. وعلى إثر ذلك عمت موجة عارمة من الاستياء والتذمر بل التنمر بين الجنود، وصاروا ولاسيما مَن شمله التهجير يعلنون احتجاجهم واستنكارهم، مما دفع آمر الفوج ومساعده وباقي الضباط إلى عقد سلسلة اجتماعات لتهدئة الجنود.
وأمام استمرار الاحتجاج ولحساسية المنظومة العسكرية، أخبر آمر الفوج الجنود أنه نقل هذا الانطباع إلى بغداد وما عليهم إلا انتظار ما تقرره السلطة. وبعد مدة جاء خبر أن القيادة سترسل لجنة إلى الفوج للنظر في أمر الجنود، وكانت الحرب في ذلك الوقت مستعرة على الجبهات. ومثلما يكره الجنود الذهاب إلى مشاركة غير مشكورة ومغفلة على الجبهة؛ فإن ضباط الفوج كانوا في ظل الحالة التبعية يحافظون على حياتهم بالبقاء في الفوج وعدم الذهاب إلى جبهات الموت؛ لذا كان من مصلحتهم بقاء الفوج في الخلفيات. وهكذا كانوا يتصلون بالجنود ويشجعونهم على احتجاجهم ويطلبون منهم التحدث بشدة أمام اللجنة القادمة من القصر الجمهوري وإعلان رفضهم التهجير والمشاركة في القتال، وقد طبق الجنود هذه التوصيات بحذافيرها.
وأمام اللجنة المؤلفة من ضباط كثيرين بعضهم برتب عالية، تعالت أصوات الجنود الرافضة المحتجة والمعلنة: (كيف تطلبون منا المشاركة في القتال وأنتم لا تزالون تهجّرون ذوينا وأقاربنا وأبناء جلدتنا؟ أولاً: هذا إجحاف بحقنا وعدم احترام واعتراف بمواطنتنا، وثانيا: إننا على الجبهات قد يقاتل الشخص منا أخاه أو قريبه المهجَّر المتطوع (في الجانب الآخر)). كما قالوا كلاماً كثيراً غير هذا مما حدا بصدام بعد رجوع اللجنة أن يغير الخطة فيأمر بعدم زجهم في الحرب ونقلهم إلى (كلار) التابعة لمحافظة السليمانية. وهنا قرر صدام أن يضرب الكورد بعضهم ببعض، وهي خطة لا تقل خبثاً وغبناً عن مشاركتهم في الجبهات وقتال ذويهم أو أقاربهم. ولكن صداما سيظل يتحين الفرص لتمييعهم في الألوية المقاتلة؛ لأنهم إذا صاروا أفراداً لا يستطيعون غير الاستسلام بصمت للموت في جبهات القتال وهو ما يحلم به.
في مايس من سنة (1982) أصبحت كلار مقر الفوج المستقل، والمهمة المناطة به تأمين طريق الجيش العراقي من الـﭙشمرﮔـة عبر المناطق الكوردية، فانتشر الجنود على شكل ربايا ومقرات للسرايا والأفواج من جلولاء إلى فتحة سرتك على طريق السليمانية، فوق التلال والهضاب وعلى أراضٍ منبسطة وفي أعالي الجبال أيضاً كجبل (بمو) و(خوشك). وهي مسافة شاسعة جداً، وهذا الاتساع يعطي الرقم الدقيق لعدد جنود الفوج وسيتضاعف حين يتحول إلى لواء.
وحال وصول الفوج تم تسليحه بالأسلحة الخفيفة، وهي أول مرة يتسلم الجنود فيها السلاح. وقد حقق صدام ما أراد في خطوته هذه؛ فمن جهة أنه لم يخسر موالين يُشغلون بحماية هذه الطرق والمناطق الداخلية، ومن جهة أخرى ضرب الكورد بعضهم ببعض: السوران بالفيليين.. ولم تكن غارات (الپيشمرگه) تستثني أحداً في الجيش العراقي فكل من يلبس الخاكي يرونه عدواً مبيناً. كما أن الجيش كان لا يبقي ولا يذر (تنفيذاً للأوامر) فسقط ضحايا من الأخوين؛ لأن السلاح أصم أبكم لا يعي الأخوَّة.
وأسجل للتاريخ أن الأهالي في كوردستان أبدوا أقصى ارتياح للجنود الفيليين فهم من قومهم يتحدثون بلغتهم ويغارون على حرمهم. وكان الجنود يتعاطفون مع الاهالي، ولكنهم برغم ظلم صدام لهم وعدم ثقته بهم وعدم إحساسهم بتمثيل قضية.. أقول برغم كل ذلك فإنهم لم يخونوا الجيش العراقي والأمانة الوطنية التي كلفوا بها، ولا غدروا بالجنود العرب الذين معهم في اللواء، لهذا أعطوا الضحايا دون أن يفروا من الجندية أو يلتحقوا بصفوف الپيشمرگه.

استمارات وتهجيرات
في شهر آب من نفس السنة (1982) ولأول مرة وزعت على الجنود كافة (استمارة معلومات) تضمنت (22) فقرة فيها استفسارات عن وجود معدومين أو مهجَّرين أو هاربين خارج العراق، فملأ الجنود الاستمارة بسلامة النية أو بسبب تخويفهم عاقبة عدم الصدق، فتم اعتقال (66) جندياً اثر ذلك ممن اعترفوا بوجود معدومين أو مهجَّرين أو هاربين لديهم.
وقد هز خبر اعتقالهم الفوج هزاً، كما شمل الذعر عوائل الجنود وصار يسأل بعضهم بعضاً عن أبنائهم إذا تأخرت إجازاتهم خشية أن يكونوا من المعتقلين، لأن أغلبهم لديه مهجر أو معدوم أو هارب. واستمرت (استمارات المعلومات) لتقع في حزيران من عام 1984 مأساة مشابهة، اذ جاءت لجنة من بغداد حققت مع جنود ثم اخذوا إلى بغداد وسجنوا في (أبو غريب)، ومنهم قريبي (صلاح حياة) الذي بقي في السجن أربع سنوات وأطلق ليموت بعدها بقليل. وقسم منهم ارجعوا إلى الفوج فسجنوا فيه وأطلقوا بعد سنة. وكانت اللجنة تحقق مع الجنود بلا رحمة أو أخلاق فأحد الجنود المحقق معهم وكان قد هجّرت والدته، صرخ الضابط بوجهه قائلاً: (وماذا تفعل أمك في إيران هل تمارس الجنس)؟! وتكررت استمارات المعلومات والاحتجازات في عام 1985 أيضاً وخسرنا أعزاء علينا.

معركة تيلاكو
في 10/12/ 1982 وقعت معركة دامية مؤسفة في (تيلاكو) أو (تيله كو)، وهي منطقة تقع على طريق (سرقلعة) ويستمر الطريق إليها سهلا مكشوفاً حتى يقترب منها فتقوم هضبة عالية كأنها جبل علواً وفوقها تقوم مقبرة، وفي قبالتها تقوم سلسلة هضبية غير مستقيمة إلا انها طويلة وقابلة لإخفاء فوج كامل، كما ان صخورها تتيح للرامي المختبئ حماية من الرصاص.
في ذلك اليوم الذي وافق يوم جمعة، ذهب الجنود المجازون من مقر السرية في تيلاكو بعد تجمعهم من الربايا إلى سرقلعة. وكانت قافلة المجازين تتكون من ناقلة أشخاص مدرعة واحدة فيها جنديان، وعجلة واحدة (إيـﭭـه) بلا حماية سوى الجنود المجازين، وفي سرقلعة يسلم المجازون أسلحتهم وينزلون إلى بيوتهم ويتسلمونها عند التحاقهم ليكونوا مسلحين في هذا الطريق الخطر ملتحقين ونازلين، ويرسل في الاعتياد مع المجازين البريد والأرزاق.
عندما توسطت القافلة البسيطة الهضبة العالية والسلسلة الهضبية في منخفض أشيع بأنه نهر متيبس، ظهر الپيشمرگه. كانت أول إطلاقة على سائق العجلة (صلاح عبد الهادي مواليد 1956) وهو فيلي من علي الغربي فأردته في الحال، وبعد مصرعه المباغت قفز الجنود جميعهم من العجلة وصاروا يطلقون النار بشكل عشوائي بينما كانت رميات الپيشمرگه مصيبة؛ لأنهم يرون الجنود ولا يراهم الجنود، ولأنهم محتمون بالصخور والجنود مكشوفون لهم، فقتل سبعة جنود. وعندما توقف رمي الجنود نزل الپيشمرگه وأسروا الباقين. وتقدم أحدهم بقاذفة RBG7 ورمى ناقلة الجنود المدرعة، ولكون الضربات قريبة كانت الناقلة تتمايل كالزورق في موج عاتٍ، مما دفع أحد الجنديين إلى القفز خارج الناقلة توهماً بالنجاة فأردي في الحال واستسلم الثاني. وفي الحال قفز أحد أفراد الـﭙيشمرﮔـة فوق الناقلة ومعه (مفك) وفتح السلاح BKC فوقها وأخذوه مع العجلة والجنود الأسرى وهم نحو عشرين أسيراً.
وكان يرافق الهجوم على القافلة هجوم على السرية إلا انه أريد به مشاغلة مقر السرية والربايا المحيطة بها. وبعد ان اسر الپيشمرگه الجنود جعلوا يتوغلون بهم في أعماق جبلية، وكلما وصلوا مرتفعاً أطلق احدهم رصاصة لينزل أفراد يلتحقون بهم حتى وصلوا مقرهم.
كان الجزع في الفوج من قبل الجنود شديداً عليهم وخاصة على صلاح عبد الهادي لأن بمسؤوليته عائلة كبيرة، بينما كان آمر الفوج غاضباً على القتلى والأسرى إذ عدَّهم متخاذلين وكتب في ذلك تقريراً إلى آمر الفرقة. وسرعان ما زار آمر الفرقة المنطقة ودرس بدقة عسكرية مهنية ظروف الهجوم من جوانبه كافة، فعلق قائلا:" للحقيقة أقول لو كان مكان هؤلاء الجنود القليلين فوج كامل لما استطاع المقاومة، وأنحى باللائمة على الفوج وضباطه؛ لأن القافلة حمايتها غير كافية مما دفع الفوج إلى زيادة عدد قطع القافلة وزيادة جنود الحماية.
وفي مقر الپيشمرگه قضى الجنود الأسرى أسبوعين، وقد اخذوا أسلحتهم وطاقياتهم (البيريات) ومعاطفهم العسكرية (القماصل). وفور وصولهم التقاهم غلام كوردي في نحو السادسة عشرة من عمره وألقى فيهم محاضرة بالعربية، كال فيها اللعنات لصدام حسين والجيش العراقي وبيَّن جهادهم المشروع ضده. وبعد الأسبوعين سلموهم إلى مختار قرية قريبة من السرية، وإذا بجنود السرية يتفاجؤون بمجموعة جنود محلقي الرؤوس بملابس عسكرية اعتيادية بلا معاطف تقيهم البرد القارس يتجهون نحوهم!

التحاقي بالفوج
في الشهر الأول من عام (1983) التحقتُ بالجيش، ماراً بمعسكر تكريت، وبعد اقل من شهر التحقتُ بالفوج في كلار، ونسِّبتُ على السرية الثالثة وتعرفت إلى بعض الجنود الجدد فضلا عن رفاقي في معسكر تكريت من مواليدي (1964). وفي تلك الأثناء، وتحت تأثير جبنه ومساومته لكورد شمالي العراق، أعلن صدام تسريح الجنود من القومية الكوردية فشمل الكورد الفيليين، وبالفعل تم تسريح بعضهم وكنت أتهيأ للتسريح.
ولكن صداماً لدكتاتوريته كان ارتجالياً وفاته أن الفوج يضم النسبة الكبيرة من الكورد الفيليين، فتدارك قراره بإلحاق يجعل التسريح للكورد في منطقة (الحكم الذاتي) حصراً، أي استثنى الفيليين فقط وسرح ما سواهم، فأسقط في يدي بعدما أعيد المتسرحون من الفيليين إلى الخدمة، وقد التحقوا ضمن خدمة الاحتياط حتى الذين مضى على وجودهم في خدمة المكلفية أشهراً. ولم يمضِ وقت طويل حتى نقلنا إلى منطقة بمو وفيها جبلا (بمو) و(خوشك) و(فتحة سرتك) التي تقود إلى جبهات القتال الشمالية وهي بين كلار والسليمانية، لأعيش في هذا الجيش تراث مأساة الفيليين وتليد أوجاعهم.
وعلى جبل (بمو) تمشيتُ أجوب الأرض شبه المستوية في قمته، وكنت أراها من الأرض ولا أظنها إلا مدببة كالناب. ووقفت بثبات مرة وأنا أصوّب ببندقيتي على قطيع من الخنازير راح يتقافز من الرصاص دون أن يسقط واحد منه، وقد سمعت أنها مكسوَّة بطبقة من الشحم تحول دون تأثير الرصاص وغيره فيها، لذا كانت تقدم في اقتحام الغابات؛ لأن الأفاعي لا تؤثر فيها بسبب تلك الطبقة من الشحم. وحين استلقيتُ على ظهري تحت شجرة بلوط عملاقة تذكرت الناس الذين التقيتهم في كلار وكيف لأول مرة اسمع لغة كوردية يُتُفاهم بها.. نعم كنت اسمع أبي وأمي يتفاهمان بالكوردية ولكن بكلمات قليلة وبين مدة ومدة. وتذكرت حين ذهبت الى سوق كلار لاشتري حاجة، فقال لي البائع: (أنت كوردي)؟ قلت (نعم)، قال (عيب عليك لا تتكلم الكوردية وانت كوردي! واشار الى مصري بعيد وقال: هذا مصري تعلم الكوردية من اجل العمل، فكيف انت لا تجيد لغة قومك)؟!! ولذا قررتُ أن أتعلم الكوردية برغم ظروف الجندية ومع الوقت وإلى التسريح عام (1990) تعلمت تقريباً (60%) من الكوردية السورانية، فضلا عن الفيلية من خلال الجنود الفيليين من بغداد وخانقين.

اسم اللواء المحيِّر
كان الفوج في تلك الأثناء يضم ست سرايا، وهو خلاف نظام الجيش إذ يتكون الفوج حسب النظام العسكري من ثلاث سرايا. وتعادل السرية الواحدة سريتين أو ثلاثاً من سرايا الجيش العراقي، مما اضطر القيادة إلى تحويله إلى لواء. وهكذا صار لواءً يحمل اسم (لواء المشاة 432)، متجحفلة معه: سرية مغاوير، وسرية دبابات btr60، فضلا عن سرايا الإسناد التي تضم هاونات: 60ملم، 82ملم، 120ملم، ودوشكات رباعية وثنائية (شلگة) وأحادية، وأسلحة ثقيلة أخرى.
ولكن لم تقتنع القيادة أو صدام تحديداً بهذا الاسم، فتم تغييره إلى (لواء 436)، ثم اختير له اسم ثالث. ان تغيير اسم اللواء ثلاث مرات في مدة وجيزة يفسر اهتمام المجرم صدام شخصياً بأمر تسميته حرصاً منه على اختيار اسم يطفئ غليله، ويؤكد ذلك الاسم النهائي الذي توصل إليه. لقد داهمه مجدداً خيال الأفعى المقضضة لقيامه ومنامه لذا اشتق منها اسم اللواء فسماه (لواء 444)؛ لان رقم (4) يشبه أفعى ملتوية! أي كان اللواء بمثابة ثلاث أفاعٍ ملتوية تنفث سماً وتتأهب للدغه.
رؤوس بشرية للبيع
عند فتحة سرتك يقف جبلان كبيران (بمو) و(خوشك) وتجري في الأسفل وديان صغيرة بمياه العيون الحلوة، وتنتشر أشجار مختلفة طبيعية من الحمضيات والكروم والبلوط وتفترش الأرض خضرة نباتات مختلفة كالريحان والبطنج، فضلا عن الحشائش والنباتات الموسمية. وعند اجتياز فتحة سرتك إلى الداخل تشاهد غابة كثيفة في وسطها نافورة تقذف الماء إلى الأعلى بقوة بلا ماطور او كهرباء بل بدفق ماء العيون المحصور، وسمعنا انه مكان المرحوم مصطفى البارزاني.
إنها الطبيعة الساحرة التي سمعتُ عنها، ويزيدها سحراً وتأثيراً أنها للكورد الذين أحبُّهم بالفطرة وانتمي إليهم بالفطرة، ولكني قبل هذا لم أرهم أبداً. كنت أسرِّح العين في الجبال العملاقة وصخورها الملونة التي لا يرقى إليها الطير وقد استحوذ عليَّ الحلم فنسيت سجن الجيش والحرب. وقادني سحر الجبال وحب الاكتشاف ونشاط الشباب إلى تسلق جبل خوشك مع اثنين من زملائي للبحث عن طريق أخصر من المعهود واقل ساعات صعود، غير أننا بالكاد سلمنا من المزالق وقطعنا المسافة بسبع ساعات أو أكثر!
ترى كيف يعيش الحبَّ شخصٌ قذف في قعر الخدمة العسكرية مرعوباً فوجدها هنا أمراً مرغوباً؟!! ونسي انه ترك أهله في أقصى الجنوب إلى الغربة في أقصى الشمال؟ ألأنه صار في موطن الكورد فأحس بأنه استعاد كورديته؟
ولكن سرعان ما أعلمتني الحقيقة مأساتي فنضجتُ بحجم الوعي، وتبينتُ الحرب شوهاء قبيحة وأبطالها بمواصفات مجرميها، وشاهدتُ الوجه الآخر للمكان فأرجعني بقوة إلى سبب وجودي المقيت هنا. فقد سمعت جلبة وأناسا يركضون مرعوبين فتصورتُ بركانا على وشك الانفجار. ولكن حتماً هو ليس بركاناً، فحين ذهبت إلى قلب الحدث عرفت ان كوردياً من المنطقة جاء يحمل كيساً كبيراً فاستقبله آمر سريتنا وبعد كلام قليل أكفأ الكيس فتدحرجت رؤوس مقطوعة مدماة ملء الكيس على أنها لأشخاص من الپيشمرگه. وتلك أول مرة أعيش الرعب وأرى الموت وعليَّ أن أتوقعه في كل لحظة منذئذ. قالوا: إن صدام حسين يعطي على كل رأس يحمل إلى اللواء مبلغاً باهظاً.. وعلمت لاحقاً أن هذا السفاح الخسيس ممن تسميهم الدولة صدام (الفرسان) ويسميهم الكورد (جاش) أي الجحوش. وقيل ان هؤلاء الجاش لا يجرؤون على قتل الپيشمرگه فيقتلون رعاة من بني جلدتهم ويدعون أنهم پيشمرگه! بل أخبرني أحد الواقفين المشاهدين أنه رأى بين الرؤوس رأس طفل!
وفي (الربيّة) أدركت أن الوقت يمضي بليداً أو يقتل صبراً، فيترك آثاره الحزينة على الوجوه التي يعتادها البؤس واليأس، وعلى الأماكن الموحشة التي تحيط بالربايا والمقرات فتذكرهم بأنهم يعيشون في مكان وحالة غير صالحة للإقامة والعيش وليس ثمة مستقبل في انتظارهم. ويكاد يقفز الوقت قفزات رتيبة وثابتة ثلاثاً على قدر وجبات الأكل: الفطور، الغداء، العشاء، فليس لهم شيء لذيذ غير الأكل. وقد عشتُ زمناً ألوم (حسين علي مراد) لأنه تشاجر بسبب الأكل حين أفسده الذي طبخه لنا فجعل التمن (الرز) عجيناً، وأخذ يصيح في وجهه ويبالغ في القضية ويقول: (وهل عندنا شيء غير الأكل)؟ ولكني عذرته فيما بعد وللأسف بعد وقت طويل، وسامحته وصرت ألوم نفسي لأني لمته في حينها، ووجدته على حق (وهل كان في حياتنا شيء لذيذ غير الأكل)؟
بعد نحو شهر قتَل احد الجنود الفيليين (عماد كريم) صديقه الحميم (إسماعيل) بالخطأ فوق جبل خوشك. وكان عماد مع مجموعة من الجنود يصعدون إلى أعلى الجبل الذي يستغرق صعوده نحو (ست) ساعات، وكان إسماعيل (يرحمه الله) صديقاً حميماً لعماد، وكان قد وصل القمة قبله. وحينما وصل عماد إلى القمة أراد الجلوس من فرط التعب، وكانت الملاجئ (الغرف) تبنى منخفضة حيث يحفر لها مقدار متر او يزيد في الأرض، وهكذا جلس عماد على الملجأ بينما كان يجلس أمامه على ارتفاع يوازي ارتفاع ملجأ جنود سبقوه في الوصول ومنهم إسماعيل. وصادف جلوس عماد على بندقية مفتوحة الأمان، فصارت أصابع يده اليمنى على الزناد، فانطلقت أربع رصاصات إلى الأمام لتضرب إسماعيل: واحدة في حنكه وواحدة في جبينه وثنتان في صدره. وحين وجد عماد صديقه وهو يغرق بسيلان الدم الساخن وجروحه الفاغرة تشخب، حاول الانتحار بإلقاء نفسه من أعلى الجبل فامسكوا به، وتم سجنه في اللواء بمنعه من الإجازات فقط وبحكم ميسَّر (ستة أشهر) لعدم قصديته.
وكلاهما تعرفتُ إليه، كان اسماعيل قبل نقلنا إلى الجبال في كلار يتحدث إليَّ أثناء الواجب عن طموحه بعد التسريح (تسريح الكورد) وقال: إذا لم يسرحوني سأنتحر! وعماد كان المقرب لي بعد الحادث، حيث عشنا في ربية واحدة مدة قضائه محكوميته.
وفي اثر هذا الحادث أعادونا إلى معسكر للتدريب لإتقان استعمال السلاح، وبعدها وزعونا على ربايا في الطريق بين كلار وبيباز.

إيرانيون ولو طاروا
في بيباز تنقلتُ بين ربايا عدة وتعرفت إلى جنود فيليين أطباء ومهندسين وحملة شهادات عليا عانوا قضية التبعية. كان احد الأطباء الذين تعرفت إليهم مكلفاً بحمل الماء على ظهر (حمار) من أسفل الربية إلى الأعلى، وكان الحمار بذمته وأصر أن يأخذ معه صورة (إدانية). وتعرفتُ أيضاً إلى المهندس (علي محسن) فاخبرني انه كان مهندساً في المفاعل الذري العراقي ونقل مطروداً إلى اللواء بسبب التبعية. قال: أرسل بطلبي المدير المسؤول، ولما دخلت غرفته نهض من مكانه وجاء نحوي غاضباً ثم صفعني بقوة وصرخ بصوت عال: (أنعل أبوك لابو إيران)!! علماً بأن المهندس علي لم يكن هواه مع إيران ابداً وكان علمانياً صرفاً.
وحدثني صديقه (عبد الإله) وهو مهندس أيضاً، قال: كنت في ميناء البكر، وفي احد الأيام حدث خطأ في عمل تجربة في مختبر وكنت يومها مجازاً، فاحترق جانب من المختبر، ولما شكلت لجنة تحقيقية اتهمتُ أنا لأنني كما ذكروا (من التبعية الإيرانية.. ولا يفعل ذلك عراقي) فعوقبت وتم نقلي إلى اللواء، علما اني كنت مجازا وقت الحادث!! وذكر من قبيل ذلك جندي مسيحي (تبعي)، كان في دائرة حساسة وحين عرفوا انه (تبعية) نقلوه إلى اللواء، على الرغم من كونه مسيحياً أي لا توجد أية علاقة روحية بينه وبين الثورة الإسلامية في إيران!!
وربما من وحي الأمل أو اليأس أو كليهما كنت ارسم باب الملجأ من الداخل في كل مكان أنقل إليه. انه يرمز إلى الخروج، ولكنها أبواب لا تخرج ولا تخرِّج. كما كنت انظر إلى الطيور المحلقة..أراها تستطيع الفرار أو هي فوق الحبس. وأخذت اصطاد الحشرات الطائرة لأعرف كيف تطير، وفكرت بجدية في صنع آلة تطير لأهرب بها بعيداً عن الجيش وصدام والبعثيين، ولكن تبدد كل شيء وأحسست بالسذاجة حين قال لي المهندس علي محسن: إن هذه العملية تكلفك الكثير من المال والوقت، وهي بحدود ميولك الأدبية ضرب من التوهم والتخييل.
وفي أحد أعياد (النوروز) احتفل الأخوان الكورديان: الأهالي في الجبال والقرى والجنود الفيليون في معسكرات الجيش. حينها كسا الربيع الجبال والوهاد أبهى حلله، ونشر الورد والزهر أريجه في الوديان التي علت بأغاني الرعاة وثغاء الماشية، وألبست الشمسُ الأرضَ والأفقَ الممتدَّ أساورَ وقلائدَ من شعاعها الذهبي، فانطلق من فم احد الجنود الكورد الفيليين نشيد (دلم يادي وطن كرد، نزونم ده وطن كي يادي مَن كرد؟/ تذكر قلبي وطني..لا أعلم من في وطني تذكرني؟)، وصاحت مجموعة من وراء الساتر (قلوبنا معكم).


الفيليون والكوردستانيون
كان تعامل صدام مع الفيليين مختلفاً تماما عن تعامله مع كرد كردستان وهم يحملون السلاح في وجهه، ويمثلون له قلقاً حقيقياً وتاريخاً دامياً. وليس ببعيد عام 1975 الذي خشي فيه أن يدخل الملا مصطفى البارزاني بغداد عليه ويجتثّ أنفاسه.
كان الجنود الفيليون يتحدثون بتعجب عن تلك المعاملة الغريبة..فقد سرَّح أبناءهم من الخدمة العسكرية.. ونسمع من الشباب الكورد في المدن والأقضية التي يسكن فيها اللواء قولهم: (عسكري ناكه‌م) أو (ما أسوي عسكرية). وأذكر مرة كنت ضمن حماية أجانب ألمان يعملون خطوط هواتف بين كلار والسليمانية، وكان معهم كرد بصفة عمال أو بصفة أخرى، فقال لي أحدهم ببرود تام:" صحيح أكو حرب بين العراق وإيران"؟!
بل كان العسكري الكوردستاني قبل قرار تسريح الكورد من حقه أن (يهرب) من الجيش ويسجل في (الفرسان) ثم يقف في سيطرة عسكرية يحاسب الجنود الغائبين او الفارين! وقد غرقنا في الضحك ونحن نشاهد أحد (الفرسان) يحاسب جندياً غائباً، وكان قبل أيام في اللواء عسكرياً ثم هرب. حتماً هم فرضوا على صدام تلك المعاملة المختلفة؛ فهو إذا لم يسرحهم سينقلبون پيشمرگه، ولكن الوضع مع الفيليين مختلف على كل حال؛ فالكوردي اذا كان كوردستانياً فهو عراقي محترم، واذا كان فيلياً فهو لا عراقي ولا محترم.

الجنود في الربايا
في داخل الربيئة أو (الربيَّة) كما ينطقونها يعيش جنود اللواء (الكورد الفيليون والتبعيات الأخرى) ، فضلا عن جنود عرب، وجنود أعضاء في حزب البعث أعدادهم تطعيمية جيء بهم لإحكام السيطرة وعدم ترك الجنود الفيليين وحدهم. وآمر الربية عربي في الغالب، وقد يكون فيلياً في حالات الضرورة، أو بديلا من آمر الربية في حالات طارئة كنزوله في إجازة او نحوه. أما آمر السرية فصاعداً فهو عربي فقط. وضباط اللواء وآمروه من الموصل بالدرجة الأولى والرمادي وتكريت ثانيا وثالثاً من كورد الشمال.
وكان الحزبيون يراقبون الفيليين بل يتربصون بهم الدوائر، ولا أزال أذكر موقفاً عايشته فأعجبُ كيف كنا نعيش في هذا اللواء بلا أدنى ثقة بولائنا، ونحمل أسلحتنا معرَّضين للموت ونحن لا نساوي حتى المرتزقة في نظر الدولة، ففوق ما نعانيه ونعرِّض له أنفسنا من مخاطر يتحينون بنا الفرص للنيل منا.
كان (منعم كاظم عبد) مع مجموعة يسمعون (كاسيتاً) لشخصية هزلية في مواقف ضاحكة تدور في الأهواز وهو باللغة العربية، فقط يذكر في الشريط اسم الأهواز. فاقتحم (الحزبي) الغرفة وأخرج الشريط من المسجل عنوة وقال: " هاذه شريط إيراني! كلكم أذبكم جوه " ثم التفت إلى منعم وقال له بلهجة الجلاد " ابن عمي.. هاذه يبقى يمِّي "!! فتوسل به ومنعم وتوسلت به المجموعة فلم يلتفت لهم بعدما ظفر بصيده.. وقد استفز الموقف حتى الجنود العرب (غير الحزبيين) فراحوا يكلمونه ويؤكدون له بأن منعماً لا علاقة له بإيران وهو على نيته ولا يقصد غير الضحك، كما أن الكاسيت ليس في السياسة. فقال لهم الحزبي: ومن أين حصل عليه وهو من الأهواز؟! وبعد لأي تخلى عن فكرة معاقبة منعم ومجموعة الفيليين معه وكسر الشريط وهو أسف لأنه أجبر على ذلك.
وكان الجنود الفيليون كثيري التندر وقد أطلقوا على اللواء اسم (تـﭖ توﭖ Tip Top) علامة (الآيس كريم) المعروفة، تندراً أو أخذاً بالمعنى الحرفي للكلمة وهو (رأس القمة)، كما أسموه (نص اردان) وهذه الأسماء غلبت على اللواء وجنوده غير العرب.
وما كانت النكتة تغادر هؤلاء الجنود والأحاديث عن الكورد وعاداتهم وبطولاتهم وملؤهم ثقة بالنفس، حتى أني كنتُ أبهر بهذا الخيلاء الذي يكتنفهم وهم في قعر المحنة. وكان للغة الفيلية حضور في تلك الجلسات ولاسيما من كورد بغداد إذ قلما أجاد كورد المحافظات لغتهم الفيلية.
وكانوا يسخرون (ينصبون) من آمر الربية والسرية صعوداً إلى آمر العراق، وحفلات (النصب) تقام باستمرار وبلا تهيؤ. ومعروف (جعفر) بتقليد حركات صدام حسين وصوته. ووقف مرة يقلد صدام وهو يتوسل الصلح من القيادة الإيرانية، ووقفت مجموعة تقلد الإيرانيين وهم يرفضون الصلح، فأخذ صدام أو (جعفر) يضرب على رأسه ويرفس الأرض برجله.
وفي يوم أخذوا بأطراف الأحاديث وطرائف النكت بعيداً عن الدولة وأزماتها وحربها الآثمة، وفي ذلك الحين كانت إيران تقارب استرجاع المحمرة من الجيش العراقي، فدخل الملازم سعدون الملقب بـ(أبو ذيبه) لصلافته وشدته، فوجد الجنود يضحكون فقال لهم: (لا تضحكوا نحن أقوى منكم)! فعدَّهم طابوراً خامساً للإيرانيين وهو تجنٍّ كبير عليهم.
وفي المقابل، خلق الخوف من المجهول وعدم الجدوى جنوداً غريبي الأطوار والتصرفات؛ فكان (حيدر جعاري) الجسيم القوي يصيح بين حين وآخر بصوته (الجهوري) (عندي كآبة حادة، وروح شريرة وشخصية اعتدائية، ورغبة شديدة في الاعتداء على المواطنين)، وكان أحدهم في مقر الفوج الثاني يمر في حالة نوم شبه دائم؛ فهو جالساً وواقفاً كالنائم، وعندما ينام يردد عبارته المأثورة:" اللي ما بيه خير نومه أخَير".

لواء الذيب وقرية عمر بل
تعاور إمرة اللواء ضباط كثيرون أولهم (العميد سامي) (فلسطيني)، ثم تلاه (العميد الركن حكمت) وقد ترقى إلى قائد فرقة ثم إلى آمر فيلق، وأصبح بعده آمرا للواء العقيد الركن بارق عبد الله الحاج حنطة في عامي 1984- 1985 وهو أهم آمري اللواء، ثم جاء بعده (المقدم الركن نوري)، وبعده عاد (العميد سامي) إلى إمرة اللواء، وخلفه إلى ما قبل الهيكلة (المقدم الركن خالد العبيدي).
وكان مجيء العقيد الركن بارق لتأدية مهمتين، الأولى: كسر شوكة الپيشمرگه عقب فشل الهدنة بينهم وبين الحكومة، والثانية تشتيت (لواء التبعية). لكن العقيد بارقاً فشل فشلا ذريعاً في تحقيق الغايتين؛ ففي حروبه مع الپيشمرگه تأكد من قوة شوكتهم ولاسيما بعد معركته الأخيرة في قرية (عمر بل)، فعلى الرغم من إشراكه في الهجوم ألوية عدة ولاسيما (لواء 70) الملقب بـ(لواء الذيب)، واستعماله أسلحة ثقيلة مقابل قلة وبساطة أسلحة الپيشمرگه فقد كانت خسارته قاسية وفاضحة. ومن المفارقات أن الجيش لم يجرؤ على استعادة جثث قتلاه إلا بوساطة رعاة كورد نقلوها على البغال وحملوها إلى اللواء مقابل ثمن! أما الغاية الثانية وهي تشتيت اللواء فقد قام بنقل الفيليين على شكل دفعات، ولكنه بعد نحو شهر توقف النقل أو كاد.
لم يكن العقيد بارق ضد الفكرة وهو الذي جاء من اجلها، ولكنه وجد من الحيف استبدال جنود اللواء (الذهب) بجنود الالوية (التنك) كما أثر عنه. ونقل عنه المقربون قوله" أرسل إلى الالوية جنوداً منضبطين، ذوي سجل عسكري نظيف خالٍ من المخالفات والعقوبات، ومن خريجي الكليات والمعاهد، ويرسلون لي جنوداً ينقصهم الضبط ومن ذوي العقوبات بل الجرائم والسوابق أحياناً، وفي الغالب غير متعلمين". وكان في السرية الأولى من الفوج الثاني ستون خريجاً من أصل نيف ومائة" أي نسبة الخريجين في السرية نحو 60%، وكذا بقية السرايا بتفاوت بسيط.
ومن ثمَّ غيَّر أسلوبه مع الاثنين (كورد الشمال والجنود الفيليين) فصار يتعاطف مع الكورد الأهالي في كلار (مقر اللواء)، وساعد مادياً الكثير من فقرائهم. وتعاطف مع جنود اللواء، وصار يقدرهم ويعاملهم معاملته لبقية الجنود العراقيين. بل انه جعل رئيس العرفاء (ابراهيم محمد حسن الفيلي) آمر فصيل حمايته الشخصية. وكان رئيس العرفاء إبراهيم بطل العراق بكرة المنضدة وله بطولات ومشاركات داخل العراق وخارجه، وقد جعله العقيد الركن بارق آمراً على فصيل حمايته؛ لأن جميعهم رياضيون. وقد استؤنف نقل جنود اللواء بنقل العقيد الركن بارق عام 1985. وكان مؤلماً لجميع اللواء ان الآمر الجديد نقل أولاً رئيس العرفاء ابراهيم محمد حسن إلى (بنجوين) عندما حدثت المعركة الكبيرة فيها والتي سميت لهولها (معركة بنجوين)، فقتل في المعركة وهو يفرح تواً بولادة طفلته.
وكان سبب نقل العقيد الركن بارق وشاية أحد الضباط الحزبيين به إلى صدام بأنه يتعاطف مع التبعية. وقد نقل بالفعل، تاركاً شرخاً في سيرته العسكرية حتى انتهى به المطاف إلى إعدامه على يد المجرم حسين كامل.

النقل إلى الألوية وتوقفه الاضطراري
كان السبب المباشر في توقف نقل جنود اللواء إلى الألوية زمن بارق، أن الجنود المنقولين حالما يصلون إلى الألوية الجديدة يقولون: (نحن تبعية إيرانية) مما كان يترك خوفاً لدى أمراء تلك الألوية، فيعيدوهم إلى لوائهم أو يجعلوهم غير مسلحين. وسمعنا أن أحدهم رفض القتال فأعدم، وقيل عن آخرين إنهم (تخاذلوا) ولم اعرف معنى هذه الكلمة هل اعترفوا بالجبن أم رفضوا القتال بشجاعة.
ولكن السبب الحاسم في توقف نقل الجنود يرجع اليَّ، وكنت وقتها في مقر الفوج الثاني في منطقة بيباز (باوه نور)، فقد جاءنا وفد من قيادة المجرم صدام إلى مقر الفوج، واجتمع الوفد بجميع الجنود وقال قائدهم: " ليس المهم أنكم تشعرون بالاضطهاد، ولكن المهم أن تكون القيادة راضية عنكم، ومهما نفعل بكم وبعوائلكم، عليكم بالمقابل أن تضاعفوا من إثبات الولاء للدولة بالقول والفعل حتى تصل القيادة إلى حالة الرضا عنكم"!!
لقد كنتُ أتحرق ألماً وأنا اسمع هذا التعجرف وهذا الاستخفاف الحقير بجنود عراقيين على رغم انف الطاغي الباغي. وفي الليل كتبتُ شعاراتٍ تناولت القيادة العميلة وصداما المأفون؛ مثل (الفيليون عراقيون برغم أنف صدام)، (يسقط العميل صدام)، (الكورد أخوة لنا وليسوا أعداء). وبعد ظهورها في الصباح ارتبك الجهاز الأمني والحزبي، وقاموا بتصوير الشعارات، ثم التقوا بنا جميعاً وطلبوا منا كتابة كلمات وردت في تلك الشعارات ليقارنوا خطوطنا بالخط المكتوب ورفعت إلى بغداد. وعندما كتبتُ الكلمات التي ردوها لنا والتي اعرف جيداً كيف كتبتها، قمت بتغيير كيفية كتابتي الاعتيادية للحروف وبدون أي ارتباك. كما تم حجزنا في الفوج ومنعت عنا الاجازات. ولكني استمررت بكتابة الشعارات، وظهرت شعارات لجنود آخرين دفعتهم الغيرة.
وقد وُضع عليَّ عين كما وضعت عيون على بعض الفيليين. والتقى بي هذا العين مراراً وسألني أسئلة كثيرة، وطلب أصدقائي إثرها آخذ الحذر منه فأخبرتهم بأني اعلم به، واستطعت أن ألبس عليه أمري واصرفه عني. وقد استمر حجزنا في مقر الفوج ثلاثة أشهر.
توقف اثر هذا الحدث نقل الجنود، وصرفت قيادة صدام كتابة الشعارات إلى ضباط الفوج على ظن أنهم فعلوا ذلك لكي يتوقف نقل الجنود فيضمنوا بقاءهم أيضاً، كما فعلها الضباط سابقاً في زين القوس بتحريضهم الجنود على العصيان، وقد نقل عدد من الضباط لاحقاً. وإذ توقف نقل الجنود بكميات كبيرة؛ فإنه بعد توقفه للأسباب المار ذكرها عاد النقل بتقطع وعلى شكل أفراد أو مجموعات صغيرة حتى تصفية اللواء وهيكلته عام 1989- 1990.
في عام 1986 طالني النقل بعدما نقلت إلى مقر الفوج في (سرقلعة) ونسِّبت على سرية الإسناد بعد دخولي دورة في (الرباعية)، فنقلت إلى أحد الألوية الشمالية في الجبهة. وحال وصولي اللواء تبينت الفرق الشاسع بين ألوية الجيش العراقي ولوائنا. كان صوت المدفعية لا ينقطع في الخلفيات فتخيلت قوته في الخطوط الأمامية. وكان الجنود منجحرين في ملاجئ تشبه جحور الكلاب لصغرها ودخولها في الأرض. وحين كنت في دورة الرباعية أخبرني جنود الألوية عن الإبادة اليومية للجنود العراقيين في الجبهات حتى ولو لم يكن هجوم. وقال لي أحدهم: في (عارضة سانوبة) معدل القتل (500) جندي عراقي يومياً، في حين كانت ملاجئنا غرفاً مرتفعة يعلو عليها ساتر ترابي، ولم نكن نسمع صوت مدفعية، ونشتري كل ما نشتهيه من الحوانيت المتنقلة التي تصلنا يومياً، فضلا عن نزولنا إلى المدن الكوردية. وعندما كنا في مدينة (كفري) كنا ننزل إلى المدينة يومياً فنأكل (زهمول قيمر) ونستحم في حمام السوق ونعود إلى ربايانا.
فطلبت مقابلة الآمر، وحين التقيته أخبرته بأنني (من التبعية !)، قال: كلنا عراقيون وقبلك جاءنا جندي من لوائكم وقاتل بإخلاص مع إخوته العراقيين حتى استشهد. فقلت له: أنا أردت إعلامك فقط وانصرفت. فلحق بي (كاتب القلم) ومعه كتاب عودتي إلى لوائي.

طرد الفيليين من حزب البعث
شهد عام 1986 طرد الفيليين من الحزب. وكان صدام قد أرسل في عام 1983 قبل تشكيل اللواء اثنين من حزب البعث لكل سرية لكسب جنود الفوج للحزب. وكان التهديد الإشاري والعلني الدافع إلى أن ينتمي الجنود برمتهم الا من رحم ربي. وكان في السرية الثانية اثنان لم يأبهوا للتهديد وبقوا (مستقلين)، ويستطرد أخي علي الذي روى لي هذا الأمر وكان في السرية الثانية: " كان الرفيق الحزبي يجتمع بنا فيخرج (جليل) ومعه آخر لا أذكر اسمه، وكنا نعجب أو نستغرب من عدم انتمائهما بلا خوف أو تردد. وفي التسعينات حين هربتُ إلى إيران اضطراراً في حرب الكويت، تعرفت إلى (كاظم أبو زهراء) فأخبرني أنه منذ الدراسة المتوسطة تعاهد مع صديق له اسمه (جليل) على عدم الانتماء لحزب البعث مهما كانت الظروف. فقلت له: لقد أبرَّ بوعده وحدثته عنه في الفوج".
ومن الغريب أن قرار الفصل من الحزب جاء مذيلا بعبارة الطرد لعدم الالتزام بالاجتماعات! مما اثار الاستغراب لدى الجنود فهم ملتزمون جداً من الخوف جداً؛ لذا قصد (ماهر) الرفيق المسؤول عنه فقال له: رفيقي، اذا كنت انا غير ملتزم فهل فلان وفلان وسماهم له غير ملتزمين وهم لم يتغيبوا مرة واحدة؟ فقال له الرفيق: اذهب واكفني شرَّك!!

بندقية غير محشوة
وأذكر في صباح باكر جداً، أخذونا إلى إحدى القرى الكوردية القصية، كان الجيش يبحث عن أشخاص معينين فأزعج القرية وأقضَّ مضجعها، وحدث إطلاق نار وأصيب أحد الجنود، وصار القتال في شوارع القرية، فأمسكت بندقيتي وكان عليَّ أخذ قرار؛ هل ساقتل من يظهر امامي أم اتركه يقتلني؟ وقررت قراراً في وقت يفتدي الشخص نفسه بأخيه وأبيه والموت يقرأ بالأسماء كيفما اتفق والأفئدة مشدوهة مذعنة لأزيز صوته.. قررتُ عدم التهيؤ للقتال فلم أسحب رصاصة إلى حجرة البندقية! مفضلا أن يقتلني من يصادفني على أن أقتله. ولكن لم يحدث شيء وانسحبنا، فكتب الله لي أن لا أقتل كوردياً أو يقتلني كوردي، فعددتها من نعمه الكبرى.
واذكر أسفي الشديد على جنود فيليين عايشتهم، بعضهم قتل وبعضهم حبس إلى الموت وبعضهم هُجِّر، وبعضهم انقطعت أخبارهم عني. ولم أزل استعيد ذكرى الهجوم على كمين من قبل الپيشمرگه فسقط سبعة جنود فيليين قتلى وثلاثة جرحى. وإذ الجنود القتلى ساقطون أرضاً والجرحى يتلوون وينزفون، حضر آمر الفوج فذهب إلى الجرحى فخاطبهم بلهجة حادة غير آبه بأنينهم ونزيفهم قائلا: "لماذا لم تستشهدوا، لماذا أنتم جرحى"؟!! وقد أثلج قلوبنا فيما بعد حين عرفنا أن آمر الفوج هذا لقي حتفه على الجبهة بعد وقت قصير جدا من نقله إليها.
وذهبتُ أتأمل الضحايا الأعزاء.. كانت وجوههم مثخنة بالدماء والذكريات كآخرين فقدناهم. لقد ذهبوا سدى في جهاد غير مأجور وجهد غير مشكور.

وشاية لبعثي تقتله
في عام 1988 انتقل اللواء برمته إلى خانقين للتدريب الإجمالي. وكان الهدف أن قيادة صدام قررت أن يَحل اللواء (430) مشاة محل لوائنا في: كلار وسرقلعة وكفري وقره تَبَّه. ولكن بعد شهر من خلود اللواء في التدريب، قررت القيادة إلغاء الفكرة وإعادة اللواء؛ بسبب سوء تعامل اللواء الجديد مع الأهالي الكورد، ولاسيما في نقاط التفتيش إذ أخذوا يضايقون النساء، وطلب وجهاء تلك المناطق – بمضبطات - إعادة اللواء 444، فأعيد إلى مناطقه مبجلاً مكللاً بغار البطولة والشرف.
وفي شهر التدريب تعرفت إلى جميع أفراد سريتي (الإسناد) إذ نحن لا نجتمع في غير هكذا مناسبات نادرة لكوننا موزعين في السرايا والربايا، وممن تعرفت إليه (أكرم) الذي رصدت به أن أيّ وشاية بفيلي ضد الدولة قابلة للتصديق؛ فقد اشتكى عليه رئيس عرفاء بعثي اندس بين الفيليين، وكان عمله حلاقاً يتيح له الالتقاء بهم كلهم. زعم رئيس العرفاء هذا أن أكرم قال له: إذا كبرت (حلا) بنت صدام حسين ستصبح عاهرة، وشهَّد شاهداً فيلياً على ذلك اسمه (صباح). كان صباح شخصاً معتدلاً وسائقاً مميزاً وفيتراً ماهراً. وقد لاحظته متعباً اثر نوبات الذهاب والإياب إلى المحكمة، وازداد اضطراباً مع الوقت علماً بأنه مجرد شاهد، بينما كان (أكرم) واثقاً من كذب الادعاء واثقاً في تصرفاته وحديثه.
بعد أن شاع حديث أكرم، صار الجنود ينفرون من رئيس العرفاء؛ فكلما جاء إلى مجموعة من الجنود انفضوا من حوله حتى صار منبوذاً من الجميع وأدرك هو ذلك. وفي فجر تدريبي بارد سمعنا صوت إطلاقة مخنوقة، وهرول الجميع إلى خيمة رئيس العرفاء فوجدوه غارقاً بدمه. بعد هذا الحادث الانتحاري أغلق موضوع أكرم وأفرج عنه، غير أن (صباحاً) ازداد تعباً، وسمعتُ لاحقاً من جنود في اللواء أنه مسه جنون، ولم ألتق به إلا بعد التسريح في التسعينيات ببغداد في شارع الرصافي.. أقبل نحوي بابتسامته المعهودة وكلماته السريعة، وكم أسفتُ عليه.. فحين تركني لاحظت في إحدى رجليه حذاءً فخماً ورجله الثانية حافية!

الأنفال
وجاءت (الأنفال) فجرى الهدم الشامل للقرى الكوردية بوصفها الساند لحركات وانتصارات الپيشمرگة. وقد شارك في هذه العملية الجيش العراقي بمساعدة الكورد الخونة (الفرسان) أو الـ(جاش= الجحوش) كما يسميهم الأهالي، وكانوا يعملون مع صدام بالمال فأثرى كثير منهم ثراء فاحشاً، وربما اشتغل بعضهم عميلاً مزدوجاً مع الپيشمرگة وصدام. وبأمّ عيني شاهدت الجاش يسرقون القرى الكوردية التي فارقها اهلوها والكورد الفيليين يعفّون يداً وقلباً، بل يتأسفون ويجاهرون بالأسف.
كان من التحضيرات لهذه العملية متعددة الأهداف والأغراض، جلب أفراد من أمن الفيلق الثاني وتوزيعهم على الربايا التي تشرف على الشوارع آخذين مواقعهم في السيطرات.
حدثني عبد الامير الصفار عن ربيئته التي بين كفري وطوزخرماتو، ان اثنين من هؤلاء الأمنيين: نائب ضابط وعريفاً، جاءا إليهم. وكانا مريبين حقاً ومتشابهين في الصفة؛ فكلامهما قليل الكلام ونظراتهما فيها الكثير من التحري. وبعد أيام كشفا عن أنهما تابعان إلى سرية من أمن الفيلق الثاني في منصورية الجبل، وهما مكلفان بواجبات في السيطرة، وثمة أفراد من سريتهم يتوزعون على باقي السيطرات في ربايا اللواء. وبعد نحو أسبوع بدأت عملية الأنفال.
وتسمية الأنفال من ابتداع صدام حتماً؛ لأنه كان مغرى بالتشويه والتلويث للإسلام والقرآن. وإذا نزلت سورة الأنفال في غنائم معركة بدر الكبرى؛ فإنه أراد أن يجعل حملته الجبانة عِدلاً لبدر، كما شوّه معركة القادسية الجبارة بتسمية عدوانه بها، وصواريخ الإرهاب والجريمة بصواريخ الحسين والعباس. ومعنى الأنفال (العطية)، إلا أنها تحركت من العطاء الحق إلى الإباحة؛ فقد أباح صدام لعصابته ومغرريه الاستيلاء على ما يجدونه من متاع في تلك القرى الآمنة، مثلما أباح هولاكو بغداد وأهلها أمولا وأعراضاً لجنوده التتر الهمج، وسيفعل ذلك لاحقاً في الكويت.
كان واجب لوائنا في هذه العملية تمشيط القرى المهدّمة والاستحواذ على ما تركه الكورد من ماشية وأثاث وغير ذلك. وكان الضباط يريدون من الجنود أن يشتركوا في السلب والنهب بعدما قاموا هم والعرفاء بسرقة تلك الأموال، وقد سرق بالفعل جنود من اللواء عدا الفيليين.
وسرق عريف سريتنا (11) بقرة و(30) رأس غنم، وسمعنا عن سرقات كثيرة في الأفواج والسرايا الاخرى، والغريب لم يعترض أحد ولا اعترضت السيطرات طريقهم، وكأنها مسألة مقررة من الدولة.
وبلغ من الإجرام وإتلاف تلك الأموال أنهم بعدما شبعوا من اللحم صاروا يذبحون الشاة فيأخذون منها الكبد والقلب ويرمونها للكلاب والذئاب. وتتبع الضباط الجنود الفيلية الذين رفضوا السلب والأكل فقللوا عليهم (الأرزاق) حتى الصمون العسكري الذي كان فائضاً. وأخبرني أخي وهو في الفوج الأول أنه والجنود اكتفوا بالمعلبات والأعشاب الموجودة على التلول.
ومرة قاموا بعمل الأكل من هذه الأشياء، وإذا بمجموعة من الضباط ومعهم (ملازم ثاني مجيد) كان حزبيا برتبة نائب ضابط فرقاه صدام إلى ضابط. وكان يقول للجنود لا تنادوني بـ(سيدي) بل نادوني بـ(الحجي)، وكان يصلي معهم ويتذاكرون الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة. وحين رأى (الحجي) عشاءهم البسيط الخالي من كل شيء عائدٍ إلى القرية فقدَ أعصابه وصاح: اتركوا هذا الأكل واذهبوا إلى القرية ففيها لحم غنم وتمن وطحين وعدس.. فأصر الجنود على (الأكل الحلال) فانصرف الحجي الحزبي غاضباً مع مجموعته الغاضبين، وسمعه الجنود هو يقول لرفاقه: (هذا دين ثالث ظهر لنا، سنتفرغ لهؤلاء بعدما نفرغ من الخميني).
ولم يكتفِ صدام بالهدم والسلب والنهب، بل طفق بملاحقة أهالي القرية والقبض عليهم والتصرف بمصائرهم. لقد كانت تلك الأيام بوحشيتها وسفالتها (ليالي كربلائية) فقد خيم الظلم والظلمة على تلك الربوع الفطرية وساعاتها البريئة وأهلها الوادعين الذين يتحركون خيراً ويسكنون خيراً. حلَّ فيهم فجر مطفّف فأحال ديارهم إلى بلاقع وقاع صفصف، فكأنها لم تغن بالأمس. وصار أهلها بين مقبوض عليه وهارب ملاحق، والنساء إماء وسبايا يمسكن وينقلن إلى الأفواج والألوية ثم إلى سجن تحت الأرض وبعدها لمصير مجهول.
حدثني جندي من ربيئة الفتحة ضمن قاطع السرية الأولى/ الفوج الثاني: أن كوردياً من الهاربين جاء فانبطح أمام الربيئة وقال: (آني أموت!) فتجمع حوله الجنود وسألوه الأمر. فأخبرهم أن ولده وبناته كل منهم يرعى بجزء من قطيعه البالغ (ألفي) رأس غنم، اختفوا جميعا ولا يعلم سوى أن الجيش يستولي على الحلال والعيال.
وذكر عبد الأمير الصفار أنه بعد أيام من الأنفال مرَّ من أمام ربيئتهم رتل طويل من قلابات (مان) وهي تحمل الشيوخ والنساء والأطفال. وكان احد الشيوخ يشير بيده إلى فمه فذهب ليعطيه ماء فمنعه الأمني، كما طلب من جنود الربيئة الابتعاد عن الساتر ورؤية الأهالي. الا انه لم يعبأ بالأمني وأعطى الشيخ الماء، فتلقفه وتناوب شربه الباقون بلهفه. وشاهد شيخاً آخر يضع يده على فمه وبحركة شفتيه كأنه يقول (نان = خبز)، فجلب له الخبز القليل الموجود في الربيئة، ولكن أمام حالة الجوع هذه بحث الجنود فوجدوا كيساً من الخبز نصف اليابس فجلبوه إلى الركاب فأكلوه وكأنما كانوا يأكلون (الكيك)!!
وعن النساء، كنت ضمن مجموعة دخلت قرية مهدمة ومعنا ضباط، فوجدنا امرأتين مختفيتين في الأنقاض، فاتصل قائد المجموعة طالباً طائرة لوعورة المنطقة حيث جئنا مترجلين، وحال وصول الطائرة وضعت المرأتان فيها وأقلعت لا ندري إلى أين.
وحدثني صديق أنه كان ذاهباً للتسوق من (كفري) إلى (كهريز) فطلب منه انضباطي في السيطرة أن يأخذ ثلاث نسوة مأسورات إلى مقر الفوج بطريقه. فأخذهن كارهاً وكان يتمنى أن يجيد التحدث معهن لإيجاد سبيل خلاص لهنّ، فركب وركَّبهنّ في سيارة الجيب السائدة في هذه المنطقة، وكانت تسمى محلياً (سوبر كلر)، عندها تحدث السائق الكوردي إليه واليهنّ، وطلب منه أن يأخذ النسوة إلى بيته ليأكلنَ ويرتحنَ ففرح الجندي وجعلها بمثابة الفرج من إثم وعار سيلاحقانه إلى الأبد.
وسمعنا وقتذاك أن صدام يعطي للجندي الذي يتزوج من نساء الكورد السبايا (وهن متزوجات غالبا) عشرة آلاف دينار؛ وهو مائة ضعف راتب الجندي الاحتياط. ونقلا عن الجندي (علي العلي) جبوري من (قره تـﭙـه) كان في ربيئة (دويدان)، أن احد وجهائهم عرضت عليه سبية كوردية. وقيل عن مصير تلك السبايا ما هو أبشع من الزواج الغصب.
وبعد نحو الشهرين من جريمة الأنفال، حين علا الزرع الذي زرعه الكورد في قراهم، قام اللواء بحملة حصاد واسعة. فأجبروا الجنود الفيليين على حصاد الزرع، كما جلبوا الحاصدات من الكورد سخرة. أما المحصود فقد ترك نهباً للناهبين ولاسيما الضباط. وشاهدنا الملازم أول علي وهو ينقل كميات كبيرة منه إلى بيته في الحويجة.
لقد جعلت الأنفال (الأهالي) يغلون في مراجل حزن وحقد على الجيش.. انها جريمة مركّبة لها أهداف كثيرة كبيرة. لم يكن هدم القرى والاستيلاء على الموارد لكسر شوكة الپيشمرگه الغاية الوحيدة، بل هناك غايات مستقبلية أكثر شيطانية. وحينما بدأتُ أكتب هذه السطور واستعيد تلك الأيام الخوالي، واربط ذلك بمستجدات الجرائم والنكبات التي تصبها أمريكا وإسرائيل على بلدنا الآمن وأهله البسطاء، أدركتُ انه أريد من الأنفال، بجرائمها المتشعبة وما تلا ذلك من ضرب الكورد بالسلاح الكيمياوي غير الشرعي دولياً، التأسيس لعداء مستحكم وفرقة شعورية أبدية بين الكورد والعرب، والقضاء على فكرة (العراق وطن الجميع) قضاء مبرماً. حيث يهيئ هذا الظلم الشديد والحزن الشديد الكورد لبناء حدود طبيعية في الوطن الواحد..والحدود الطبيعية على الضد من المصنوعة عصية على الزوال، فقد تهدم جدار برلين الضخم ولم يتهدم جدار الكره الوهمي بين الألمان والانـﮔليز.

معركة توكلنا على الله الرابعة
قبل انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية بثمانية عشر يوماً، وفي قاطع الفيلق الثاني، الفرقة (21) (قوات مسلم بن عقيل) التي كان لواؤنا تابعاً لها، وقعت هذه المعركة التي أفرزت المزيد من الوثائق العنصرية والمعادية للفيليين من قبل صدام وأعوانه. إذ أظهرت أن صدام كان يطالب الجنود الفيليين بما يطالب به الجنود العراقيين وأكثر، ومع ذلك يميزهم بعدم العناية، والرغبة في إبادتهم وهم يكلفون بالواجب، كالحجاج تماماً حين كان يميز الجنود الشاميين عن الجنود العراقيين بالامتيازات وكلاهما يكلف بواجب واحد.
بعد الغداء من يوم 22/7/1988 تلقت ربايا اللواء عبر الجهاز السلكي الأوامر بإرسال جنود (بالاسم) إلى مقر اللواء في كلار. وتضمن التبليغ أن يأخذ الجنود معهم كل تجهيزاتهم لأن العملية ستطول. وفي الساعة السادسة عصراً تكونت في مقر اللواء سرية جديدة من أفواج اللواء اختير الملازم أول (كريم الدليمي) آمراً لها.
وفي الصباح انطلقت السرية المتكونة إلى جبل بمو. وبدأت سيارات (الايفا) تترنح عند الصعود لقدمها ووعورة الطريق، وتوقفت إحداها فجأة لتتراجع بعنف مع مقطورة كانت تجرها إلى الخلف، فقفز منها الجنود لتستقر في الوادي، ونقل المتضررون إلى وحدة (ميدان) الطبية.
وحين وصلوا إلى العارضة الحدودية، تكلم الضابط المسؤول مع الحرس الحدوديين فسمحوا لهم باجتياز العارضة. بدا الطريق وكأنه نسف حديثاً من قبل الهندسة العسكرية. وبعد مسافة من المشي بدأت تظهر قطع ملابس ممزقة وأحذية لنساء وأطفال... انه الطريق الذي مشاه المهجرون وسط الألغام!! انه لا يصلح لمرور الرجال المسلحين فكيف النساء والأطفال العزَّل؟! لقد صعق الجنود وهم يرون أطلال أهاليهم وضاعوا في هذا التضليل ولم يعرفوا قراراً سوى التمرد إن أمكنت الفرصة.
وعندما حلَّ الليل كان الجنود يتجهون إلى جبل (سلمنان) الذي يسميه الجنود (سلمانه). وطلب من الجنود صعوده. كان على الجندي (التبعية) أن يحمل كامل تجهيزاته (اليطغ) و(السلاح والعتاد) و(زمزمية ماء واحدة)، بينما كانت الألوية المشاركة في الهجوم ومنها الحرس الجمهوري تجهز جنودها بالماء الكافي والإضافي، فضلا عن الثلج والغذاء والمعلبات. ويزيد من إنهاك الجندي انه عند صعود الجبل لا يستعمل كامل قدمه بل الكعب فقط وعند النزول المشط فقط، فتعب جنود اللواء وأكثر من التعب العطش، ولم يكن ضباط اللواء أحسن حالا من الجنود.
في الصباح وصلوا قمة الجبل واخذوا مواقعهم المحصنة فيه، ولم يكن من مشكلة غير الجوع والعطش. وقد جعل الجنود خوفاً من نفاد الماء، يكتفون بلعق غطاء الزمزمية لتخفيف العطش. وذهب الجندي طاهر مع اثنين باحثين عن الماء، فوجدوا (الشربت المركز) في المواضع التي تركها الإيرانيون، فشربوه وأغمي عليهم. وتهالك أحد الضابط في اللواء واخذ يصيح من العطش، فذهب جنود اللواء إلى الألوية الأخرى طلباً للماء والطعام. فقالوا لهم (أليست عندكم وحدة مسؤولة عن أكلكم وشربكم)؟!!
ومع ازدياد سوء حالة الضابط عطشاً، ذهب الجنود إلى عين ماء متعرضين إلى نوبات القصف. وحين وصلوا عين الماء وجدوا بغلاً جالساً في وسطه. فاشمأزت نفوسهم، وكان عليهم اتخاذ قرار: الشرب أو الموت عطشاً. إلا أنهم وهم يقتربون من عين الماء فقدوا الخيار وارتموا يعبون الماء بالخوذ عبَّاً، كما حملوا منه بجليكانات أخذوها معهم للضباط والجنود. وقد لوحظ ان عدد الجنود قد قلَّ لتسرب بعضهم وقتل بعضهم الآخر.
ثم جُمّع الجنود ونقلوا إلى نقطة شروع جديدة. ارتاحوا وناموا في العراء. قبل الشروق أيقظوهم ليباشروا معركة هي أشرس من سابقتها. كانت أصوات المدفعيات والراجمات والهاونات وأسلحة ثقيلة وخفيفة أخرى على أشدها. وكان آمر السرية كريم الدليمي والضباط: ملازم أول كريم، ملازم عادل، ملازم فاضل، ومعهم وليد المخابر دليلاً، يتقدمون الجنود في خط الشروع. واخترق صوت كالجحيم نزل في قلوب آمر السرية الدليمي والجنود هو صوت مقدم يصيح على السرية: (اتقدم جبان.. إلمن تربّون هاي الأجسام)؟ وبدا الضجر على وجه آمر السرية لكنه آثر الاستمرار في التقدم.
كان التقدم بين شقوق التلال وتحت الأشجار، وسيل القذائف ولاسيما قذائف (106 ملم) كالمطر، وكان القتلى والجرحى يصرخون ويئنون بشكل غير منقطع. والمعركة بفضل قنابر التنوير صارت مفتوحة الزمن غير محددة بليل ونهار. والنتيجة قتل وأسر الكثير من اللواء.
وعندما رجعت السرية المنتخبة، عادت سيارات الايفا إلى ترنحها إياباً كما ترنحت ذهاباً. وانحرفت إحداها إلى الوادي بشكل سريع، فقفز منها ثلاثة مبتعدين عن مسار رجوعها القوي. ثم قفز جندي كربلائي فسقط على جص أبيض فانصبغ به كلياً ونهض أبيض اللون، مما دفع بعض الجنود إلى الضحك على الرغم مما هم فيه من قلق وخوف. ثم سقطت الايفا في حقل الألغام، الا انها لم تنفجر. فقد انغرزت إحدى عجلاتها الخلفية في نقرة عميقة أوقفتها، فأخرج الجنود منها مصابين بكسور مختلفة.
ان معركة توكلنا على الله الرابعة نبهت على مصيبة ومظلومية أخرى للفيليين والموسومين بـ(التبعية الإيرانية)، وهي أنهم يطالبون بعين الواجبات التي يطالب بها بقية الجيش العراقي، ومع ذلك لا يعطون الحقوق نفسها. فهل سُمع بجيش في أي مكان وزمان في العالم المترامي، يُقدَّم جنود فيه إلى معركة بسيارات شبه عاطلة وتجهيزات صفرية، وبلا ماء أو غذاء؟!!

تسريح الفيليين
ليس أحب للجندي شيء من التسريح؛ لأنه الهاجس الذي يعيشه منذ أول يوم يلتحق به إلى الجيش. وفي عسكرية البعثيين البعيدة عن مفاهيم الدين والوطن والشهادة والواجب المقدس، يمكن تشبيه الجندي باطمئنان بالمحبوس الذي يعيش هاجس الإفراج منذ إيداعه السجن وطوال محكوميته، وحين يتسرح ففرحته لا توصف بالكلمات مهما بلغت بلاغتها.. ولكن الذي حدث في لواء 444 أن التسريح كان لدى أغلبية الفيليين غير مسرّ! بل كان لدى بعض منهم أشبه بالصاعقة القاتلة، وبعضهم حار لا يدري هل يفرح أم يحزن فأخذ كتاب تسريحه وسار لا يلوي على شيء.
(أنترانيك كارنيك ألكسان) مسيحي بصراوي مواليد 1957 (عد من التبعية)، سيق إلى الخدمة العسكرية بدون امتلاكه أي أوراق ثبوتية كالجنسية والشهادة، ولكنهم قالوا له: اذهب إلى الجيش وسنتحقق من سجلك المدني لاحقاً. ولعله ظنّ انه بالتحاقه إلى الجيش العراقي مدافعا ومنافحاً عن الوطن سترأف به الحكومة وتمنحه الجنسية العراقية ويصبح بشهادة الدم عراقياً تاماً، إلا انه بعد نحو تسع سنوات من الخدمة، وقد انتهت الحرب، سرّحوه وقالوا له: انت غير عراقي لذا يجب أن لا تبقى في الجيش العراقي!
في صبيحة يوم غائم كان انترانيك يأخذ كتاب تسريحه الساخر من الفوج الثاني الكائن في (سرقلعة) قبل أن ينقل إلى (كهريز). حيث انقلبت فرحة التسريح إلى حزن نهائي، وهو يقف في نقطة التفتيش التابعة لربيئة (الفتحة) التي تطل من اليمين على قرية (نا صالح)، ومن الجنوب على قرية (دوانزه إمام).
كان يقف في نقطة التفتيش وهو يرتدي (القاط المدني)! سأله أحد أصدقائه بتعجب: لماذا ترتدي الملابس المدنية ألست عسكرياً؟ فأجابه بسخرية مؤلمة: (طلعت مو عراقي) وأردف: (لازم انشوف غير بلد ينطينه الجنسية ويقدرنا).
والعريف أحمد كانت تمر عليه أيام تسريحه مثل سنوات كبيسة، ويعيش دوامة غريبة حقاً؛ فالذي يراه يظن أنه سيحكم عليه قريباً بالإعدام أو السجن المؤبد! ونصحه أحد أصدقائه المقربين بمراجعة طبيب لأنه يبدو مريضاً جداً، الا انه لم يجبه بشيء وظل في دوامته الداخلية تلفّ به وتنخره كالسوس.
ولأنه لابدّ منه، فقد تكلم وأذاع السر العجيب الغريب لصديق مقرب واحد كشهرزاد لشهريار في لياليها، ولم تكن ليالي شهرزاد بأعجب وأغرب من ليالي لواء التبعية (444).
قال العريف عماد لصاحبه: ان التسريح يضعني في مشكلة كبيرة تقضي عليَّ تماماً. ذلك أني تمّ تهجير كلّ عائلتي ولم يبق سواي. والمنطقة والمختار يعلمون بذلك. وان التسريح يقتضي جلب مضبطة من المختار. والذي يزيد الأمر تعقيداً ان المختار طلب مني أن أكتب باسمه أحد البيوت التي امتلكها مقابل هذه المضبطة والتستر عليَّ.
ولم يكن من عنده سجل مدني وأهل غير مهجَّرين أحسن حالاً من انترانيك وعماد، فصدام قطع عليهم الطريق إلى الحياة الكريمة؛ اذ منعهم من الوظائف المهمة والدراسات العليا التي تقود اليها، كما انه أوصل البلد إلى الخراب، فلا توجد مشاريع تعوض ما فات، وهذا جعل التسريح غير مفرح لدى الغالبية لانه لن يجدوا اعمالا تؤمّن لهم اللقمة كما يؤمّنها رتب الجيش على مرارته.

استعراض نهاية الحرب
في يوم 8/8/1988 ألقت الحرب أوزارها. فطلب من ألوية الجيش العراقي كافة أن ترشح أفراداً يتصفون بالطول والقيافة الجيدة للاشتراك في (استعراض نهاية الحرب). وتحضّر لواؤنا لذلك أيضاً بوصفه من ضمن ألوية الجيش العراقي.
وقام كل فوج بتدريب مرشحيه. ثم تحول التدريب إلى مقر اللواء مع تقليل العدد. واخبروهم أن يضعوا (الفلين) في جعبهم لأن الاستعراض سيكون بلا عتاد.
وفي مقر اللواء بكلار استمر تدريب الجنود المختارون يوماً واحداً فقط؛ ففي اليوم الثاني جاءت الأوامر إلى اللواء بأن القيادة في بغداد لا تريد (جنوداً تبعية) في الاستعراض. وتم استبدالهم بجنود غير تبعية.


هيكلة اللواء واستمرار محنة الفيليين
استمر اللواء بعد انتهاء الحرب حتى (تهيكل) في المنطقة بين (سرقلعة) و(قرية شاكل) عام 1990، وكنتُ من الجنود القلائل الذين بقوا فيه إلى نهايته فزادت ذكرياتي عنه. واستمر صدام يزدري اللواء وأفراده كما ظل يهجّر ويسجن ويصادر حقوق الفيليين.
وعندما حدثت حرب الخليج، ومع تجنيد صدام الشباب العراقي لإشراكه بجريمته في احتلال الكويت الشقيق لإقامة حدود طبيعية من الكراهية بين الشعبين ضمن خطة لمصلحة أمريكا وإسرائيل، أعاد الفيليين إلى الخدمة مع أقرانهم. فذهبوا كالمعتاد إلى معسكر تكريت أولاً، ونقلوا بعدها ولكن هذه المرة إلى منطقة (النشوة) في البصرة وفي اللواء الحدودي (324)، الذي أصبح اسمه أو رقمه (اللواء الثاني) ثم (اللواء الثاني عشر) في وقت قصير.
لقد شددوا على الجنود بوصفهم (تبعية) وحصروهم في مقرات سرايا وأفواج اللواء الحدودي، فلا سمحوا لهم بدخول الكويت ولا سمحوا لهم بالوصول إلى الحدود المشتركة مع إيران. وكنتُ من الملتحقين إليه مجدداً بعد أدائي الامتحان الخارجي للسادس الإعدادي بنجاح. وفي معسكر تكريت التقيت أصدقائي الفيليين في ضيق آخر وحرب أخرى. ونقلتُ إلى النشوة لألتقي بجماعة أخرى منهم. ولكن لم يتح لي معرفة أحوالهم بعد الهجوم الأمريكي فقد انسحبتُ إلى مقاعد الدراسة في كلية الآداب/ جامعة بغداد حيث أكملت البكالوريوس، ثم الماجستير، ثم الدكتوراه مخلفاً تاريخاً من الموت والضياع لأبدأ مشوار القلم.
على أني بتسريحي تخلصت من التبعية العسكرية لأباشر التبعية المدنية؛ فبعد ان أكملت البكالوريوس عام 1994، اضطررت إلى العمل الحر لمنعي من التعيين، وقبلت في الماجستير في العام نفسه لانال درجته في شباط 1997. ولكني منعت من اكمال الدكتوراه بعد ان قوي صدام من ضربة الكويت، مما اخر نيلي الدكتوراه إلى ما بعد سقوطه (2005).
وقد وعدت الفيليين مَن قتل ومن هرب ومن تأسَّر، ومن صار مجهول المصير، أن أبقي هذه الأيام التي عشناها في اللواء المريب خالدة في ضمير الحق وذاكرة الشرفاء.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1284 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع