في رحاب كرة القدم

                                                    

               الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
                   أستاذ متمرس/ جامعة الموصل

                  

      

              في رحاب كرة القدم

تُعدُّ كرة القدم من أشهر الألعاب الجماعية وأكثرها انتشارا في العالم، وتشير الحقائق التاريخية إلى أن حضارة بلاد ما بين النهرين كانت من أوائل الحضارات البشرية التي عرفت كرة القدم، ففي العام 1977 تم اكتشاف لوحة أثرية في مدينة (نفر) قرب (عفك) في محافظة القادسية يرجع تاريخها إلى العام 1900 ق.م.، حيث يظهر فيها جليا شخص وأمام قدميه كرة تشبه كرة اليوم. ومارسها الصينيون القدامى، وكانوا يقدمون الولائم للفريق الفائز ويجلدون الفريق المُنهزم. كما عرفها المصريون 300 سنة قبل الميلاد.

وتشير الوثائق التاريخية إلى أن العرب كانوا يلعبون "الكجة": حيث يأخذ الأطفال خرقة ويدورونها (يُكورونها) فتصبح بشكل كرة يلعبون بها بأقدامهم. وذكر الخطيب البغدادي (1002-1071م) أن العرب كانوا يألفون أشكالا عديدة للعب بالكرة: فمنها ما يُلعب بالصولجان (أي العصا) والأخرى ما يُرمى بها، قال جرير:

لبستُ سلاحي والفرزدق لعبة ... عليه وشاحاً كُرَّجٍ وجلاجلُهْ

وقال الأخفش:

كرةٌ طُرحت بصَوالجةٍ ... فتلقَّفها رجلٌ رجلُ

كما ذكرتها (ليلى الأخيلية) سنة 42ه عندما وصفت قطاة تدلت على فراخها:

تَدَلَّتْ على حُصِّ ظِماءٍ كأنَّها... كُراتُ غُلامٍ في كِساءٍ مُؤَرْنَبِ‌

بداية كرة القدم الحديثة:
لقد ظهرت اللعبة في شكلها الحالي بإنجلترا، ففي سنة 1016م، وخلال احتفالهم بإجلاء الدنماركيين عن بلادهم، لعب الإنجليز الكرة فيما بينهم برؤوس قتلى الدنماركيين، ثم مُنعت ممارستها. وكانت هذه اللعبة تظهر وتنتشر، ثم تُمنع بمراسيم ملكية لأسباب متعددة، ووصل الأمر إلى حد المعاقبة على ممارستها بالسجن.

وكان لقوانين كامبردج، التي وُضعت في سنة 1848 في جامعة كامبريدج، أثر بارز في تطوير العبة. وفي العام 1862 ابتكر ثرينغ مجموعة من القوانين المؤثرة في اللعبة. وأسهمت الجهود المستمرة إلى تشكيل الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم سنةَ 1863، والذي عقد أول اجتماعاته صباح 26 أكتوبر 1863 في (حانة الماسونيين) في شارع (الملكة العظيمة) بمدينة لندن. وشكلت (حانة الماسونيين) مقراً لخمسة اجتماعات أخرى أقيمت بين أكتوبر وديسمبر، وُضعت خلالها أولى القواعد الشاملة لقوانين اللعبة. ثم تأسست اتحادات كرة القدم في مختلف البلدان، وتأسس (الاتحاد الدولي لكرة القدم) عام 1904، واصبحت اللعبة شاملة لها قوانينها وانديتها.

دخلت كرة القدم إلى العراق في مطلع القرن العشرين، ومع مجيئ الإنكليز بدأت اللعبة تنتشر، وأقاموا بطولات خاصة بها، أشهرها (كأس كاجولز) التي بدأت في العام 1923 واستمرت إلى 1932، و (كاجولز) هو اسم كابتن إنكليزي.

وبدأ العراقيون يتقاطرون على ساحات كرة القدم التي يلعب فيها الجنود الإنكليز، مثل (ملعب الهنيدي- معسكر الرشيد حاليا) في بغداد و (ساحة فانشو- حديقة الشهداء حاليا) في الموصل.

كرة القدم والمجتمع:
إن كرة القدم هي سلاح ذو حدين، فإما أن يتأثر بها المجتمع بشكل ايجابي أو بشكل سلبي، وهي فرصة عمل جيدة للكثير من المواهب التي ترغب أن تكون في عالم النجومية، وأنها فرصة لنشر السلام واصلاح ما تفسده السياسة والاقتصاد، وتنشر المحبة والالفة بين الناس. كما أنها وسيلة للاتصال ما بين الشعوب في المشرق والغرب، وتجمع بين الغني والفقير. وحتى من لا يمارس هذه اللعبة فهي وسيلة للترفيه عن النفس بممارستها مع الأصدقاء للابتعاد عن ضغوطات الحياة الكثيرة.

تتباين وجهات نظر المجتمع تجاه كرة القدم، ومهما تباينت الآراء تجاهها فهي إحدى أهم الرياضات ممارسة ومتابعة ومتنفس لكثير من الكبار والصغار. يقول السياسي البريطاني (جورج غالاوي) عندما سُئل في إحدى البرامج الحوارية عنها ولماذا لا تُلغى لأنها مضيعة للوقت وتلهي الشعوب عن قضاياها؛ قال: ( لا يمكن تخيل الحياة بدون موسيقى أو مسرحية أو قصة أو أي نوع من الفنون.. وأنا أعتبر كرة القدم فن من هذه الفنون.. لذلك لا يمكن أن أتخيَّل الحياة بدون كرة القدم).

كرة القدم والشِعر:
لقد أضحت كرة القدم هي الأوبرا التي يعزفها البشر جميعاً في القارات الخمس، ولم تقتصر ممارسة كرة القدم على ساحاتها الرسمية أو الشعبية أو داخل البيوت، بل دخلت معظم المجالات الأدبية والفنية.

ولعل معروف الرصافي (1875-1945م) كان من أوائل الشعراء الذين اهتموا بكرة القدم، وقد نظم قصيدة (في ملعب كرة القدم) ونشرها في صحفية (العراق) وفي ديوانه سنة 1910، وقد نالت القصيدة شهرة واسعة داخل العراق وخارجه. ومن الطريف أن نذكر بأن صحفية (العراق) بدأت تناولها لأحداث ووقائع مباريات كرة القدم إثر نشرها لقصيدة الرصافي.

فبعد أن سيطرت (كرة القدم) على ألباب الناس، قام الرصافي بنظم قصيدة (في ملعب كرة القدم) والتي تصف هذه اللعبة وقوانينها. وتُعد هذه القصيدة تُحفة فنية، بيَّنت قدرة الشعر على الاندماج والتصوير في أي زمان أو مكان بلغته الساحرة البليغة والقادرة على أن تساير أي عصر.

https://www.youtube.com/watch?v=lw_A_zxMkPM

وبكلمات تتدافع وتتراكض وسط ملعب كرة القدم، نسج الشاعر المُلهم أبيات قصيدته الرائعة، فكان معلقا من نوع خاص جدا: دخل اللاعبون الملعب وهدفهم تحقيق فوز على الفريق المنافس بواسطة كرة هي محور المنافسة، دخلوا ساحة المنافسة فانطلقت المعركة باندفاع اللاعبين واصطدامهم مع بعضهم البعض، يتقاذفون الكرة فيما بينهم:

قصدوا الرياضة لاعبين وبينهم ... كرة تُراضُ بلعبها الأجسامُ
وقفوا لها متشمِّرين فألقيت ... فتعاورتها منهم الأقدامُ
يتراكضون وراءها في ساحةٍ ... للسُّوق مُعترك بها وصِدامُ

ويشرح الشاعر قوانين كرة القدم، موضحا أن لمس الكرة باليد ممنوع ومُحرَّم في اللعبة، وينتقل إلى وصف تعارك اللاعبين حول الكرة، من قفز لضرب الكرة بالرؤوس، والكل يترقب أن يظفر بالكرة كأسد يتربص بفريسته لينقض عليها:

رَفسًا بأرجلهم تساق وضرْبُها ... بالكف عند اللاعبين حَرامُ
ولقد تحلِّق في الهواء وإن هوت ... شرعوا الرؤوس فناطحتها الهامُ
وتخالها حينًا قذيفة مدفَعٍ ... فتمرُّ صائتةً لها إرزامُ
ولربما سقطت فقام حيالَها ... للضرب عَبل الساعدين همامُ
فتخالها وتخاله كفريسةٍ سقطت ... فزمجر دونها الضرغامُ

كرة القدم في عالم الغناء:
كما دخلت كرة القدم في مختلف المجالات الفنية. ففي مجال الغناء هناك العديد من الأغاني الخاصة بكرة القدم وبمختلف اللغات، كما أصبح لكل نادي كروي أغنية خاصة به بمثابة (السلام الوطني) تُردد من قِبَل جمهوره قبيل كل مباراة يخوضها.

من أشهر الديربيات في كرة القدم العربية (ديربي القاهرة) بقطبيها (النادي الأهلي) و (نادي الزمالك). وكان ولا يزال التنافس بين هذين الناديين كبيرا، وقد تزايدت روح التعصب بين جمهوري الأهلي والزمالك، مما حدا بالفنانة صباح (1927-2014) بالقيام بمحاولة فنية للتوفيق بين جمهور الناديين، فغنت من كلمات حسين السيد وألحان محمد عبد الوهاب:

بين الأهلي والزمالك محتارة والله ... حب الأهلي والزمالك حيرني والله
أنتَ أهلاوي، أنتَ زملكاوي ... الاثنين حلوين، الاثنين جامدين
الاثنين هايلين، محتارة أشجع مين ... وألا أشيل مين جوه عيوني

https://www.youtube.com/watch?v=KfdTL-1e3CE

وللفنانة مها صبري (1932-1989) أغنية رياضية جميلة (فيها كَول) نالت شهرة واسعة في أرجاء العالم العربي، وكان التلفزيون المصري يبث هذه الأغنية بين شوطي كل مباراة في الدوري. ويُذكر أنه في كل مباراة يكون النادي الأهلي طرفاً فيها كان يحرز هدفاً في الشوط الثاني بعد بث الأغنية، فعاتب بعض الزملكاوية مها صبري قائلين:‏ أنتِ معانا ولا مع الأهلي؟! كل ما تغني (فيها كَول) يحرز الأهلي هدفاً، فقالت لهم مها صبري ضاحكة:‏ طيب ما أنا غنيتها في المباريات بتاعتكم.. ليه ما اسمعتوش كلامي وأحرزتم كَول؟!

https://www.youtube.com/watch?v=DOaAKCqHt64

أما جذور الأغنية الرياضية في العراق فتمتد إلى العام 1966م، حيث أغنية (العب يا حبيبي تمرن) للمطربة الضريرة هناء مهدي وهي من كلمات والحان شقيقها الفنان خزعل مهدي، وقد تزامنت هذه الأغنية مع بطولة كاس العرب الثالثة في بغداد (ساحة الكشافة). 

https://www.youtube.com/watch?v=2i0mPpOmJf8

بطل هذه الأغنية لاعبُ نادي مصلحةِ نقلِ الركّاب، والمنتخب الوطني السابق، ابن مدينة كركوك (محمد مجيد). وكان مِن أشهر مُشجّعي فريق المصلحة (محمد نقش) الموظف في مصلحة نقل الركاب، صاحب صوتٍ جُهوري حاد سخّره لتشجيع الفريق، وكان إذا نزل الفريقُ إلى أرض الملعب، يتقدّمهم اللاعب الأشقر ذو الشعر الذهبي والعيون الخُضر ( محمد مجيد) فيستقبلهم المشجع (محمد نقش) بهوسِته الشعبية:

جاكم ابو جاسم هو ولواعيبه ... يلعب ابوجاسم حلوه ملاعيبه!

وكِناية (أبو جاسم) كنايةٌ عراقيةٌ، تُطلق على كلِّ شخصٍ أسمُه محمّد، وصارت الهوسةُ الشعبية تلك، ترنيمةَ فريق المصلحة، حتى إذا أطلقها المشجّعُ (محمد نقش) في الملعب، أرتجّت مدرجاتُ ساحة الكشافة بأصوات المشجّعين، وهم يهتفون ويهوّسون معه.

وهكذا صارَ اللاعبُ (محمد مجيد) ترنيمةَ الكرة العراقية، وصارت الهوسةُ الشعبية تلك، مُلهِمةَ الفنان والأديب الراحل خزعل مهدي الذي ألّف الأغنيةَ الرياضية الشهيرة ولحنّها، لتغنّيها شقيقتُه الفنانة (هناء) استعداداً لبطولة كاسِ العرب الثالثة.

 ثم كانت أغنية محمود عبد الحميد (هذا الكاس يلمع وعيونهم تدمع) مكملة لمشوار المطربة هناء مهدي. ثم تبعتها لاحقا العديد من الأغاني الجميلة، ومن أشهرها أغنية (جيب الكاس جيبا) لمجوعة فنانين. 

https://www.youtube.com/watch?v=l4-7Lx3FACA

   

وفي نيسان من العام 1966، وعلى ملعبِ الكشاّفة ببغداد، جَرت المباراةُ النهائية لبطولة كاس العرب الثالثة، بين منتخبِ العراق ونظيره السوري برعاية الرئيس العراقي عبد السلام محمد عارف (1921-1966). وقد تقدم الضيوف بالهدف الأول، إلا أن البديل الناجح كوركيس إسماعيل كان على موعد مع دخول التاريخ عندما تمكَّن من هز شباك الحارس السوري (السلطجي) مرتين.

وبعد فوز الفريق العراقي قام الرئيس عبد السلام محمد عارف بتسليم كأس البطولة الى كابتنِ المنتخب العراقي هشام عطا عجاج، على أنغام الهوسةِ الرياضية الشهيرة:

جاكم ابو جاسم هو ولواعيبه ... يلعب ابوجاسم حلوه ملاعيبه

وردّدتها الشفاهُ معه منذ عشراتِ السنين، وستّظل تردّدها إلى ما شاء اللهُ تعالى.

    

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

934 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع