قصة قصيرة كاملة آلة الزمن - الجزء الثاني

                                                   

                           بقلم أحمد فخري


قصة قصيرة كاملة آلة الزمن -الجزء الثاني 

من لم يتسنى له الاطلاع على الجزء الاول فبامكانه مراجعته من خلال هذا الرابط: 

https://www.algardenia.com/maqalat/45391-2020-07-26-12-27-38.html

ركب الاثنان السيارة فقادتها تالة من منطقة راغبة خاتون متجهة نحو السعدون مروراً بشارع الرشيد. ولما شاهد ابراهيم يافطة الحجي زبالة قال، 

ابراهيم : هل لك ان تتوقفي قليلاً هنا؟ اريد ان اجرب شربت الحجي زبالة. لقد حدثني عنه جدي كثيراً.
اوقفت تالة السيارة فطلب منها بعض النقود لانه لا يحمل معه سوى 5000 دينار من نقود المستقبل فاعطته نصف دينار. وبعد ان شرب كأسأ من ذلك العصير المدهش بداخل المحل. اخذ معه كاسان (سفري) كي يعطي واحداً منه لتالة التي وقفت بالشارع تنتظره حتى يعود. وعندما رجع لاحظ ان تالة قد غيرت من موقع السيارة لان شرطي المرور انّبها لوقوفها بشارع الرشيد فذهبت الى موقف السيارات القريب وانتظرته هناك.
ركب السيارة ثانية وواصلت السير بعد ان شربت الشراب المنعش معه، ولما مروا بساحة التحرير قال لها،
ابراهيم : هنا ستقوم ثورة تشرين العظيمة ضد الفساد عام 2019 وقد شاركتُ بها حتى جائت جائحة كورونا فعدت الى منزلي مع باقي زملائي. وهنا سوف تشيد بناية تسمى المطعم التركي، ستكون بعدها مقراً للثوار المسالمين العزل الذين اطلق عليها الثوار اسم جبل احد. وهنا قام مقتدى الصدر زعيم احدى العصابات المسلحة بفتح المجال امام كلابه المسعورة كي يعتدوا على المتظاهرين العزل. انا لا اصدق كيف ان هذه هي نفس ساحة التحرير بالمستقبل بكل جمالها وعظمتها وهذه حديقة الامة يا الله ما اجملها. بزمننا اصبحت امتداداً لمقرات الثوار بالتحرير. الشيء الوحيد الذي بقي صامداً هو هذا النصب، نصب التحرير.
واصلت تالة سيرها فمرت بالقصر الابيض ثم ساحة الاندلس ومستشفى الحيدري حتى وصلا زيونة. صار ابراهيم ينظر الى المنازل الجميلة هناك ويتحسر عليها.
تالة: أمازالت هذه المنازل قائمة بزمنكم؟
ابراهيم : لقد تحول الكثير منها الى اطلال. تحول شارع الربيعي الى شارع تجاري. انظري هذا هو جامع الرزازة. لازال قائماً حتى يومنا الا ان ايمامه المصري المخضرم قد توفى. حدثني عنه جدي.
تالة: انا اعرفه. اسمه الشيخ عبد الرحمن ولديه برنامج على التفاز كل يوم خميس.
ابراهيم : اجل انه هو بعينه.
تالة: واين منزلكم إذاً؟
ابراهيم : سنراه من هناك. هل ترين ذلك المتجرالذي كتب عليه ابو تحسين؟ صار بزمننا اسمه اسواق طبرة وهذه المدرسة اسمها الخنساء انها للفتيات. يا سلام كل شيء كان باحسن حال. ها هو بيتنا. لم يتغير كثيراً، جدي اشتراه من مالكه مباشرة بعد حرب ايران.
تالة: هل تريد ان ندق الجرس؟
ابراهيم : لا، لا. انا لا اعرف سكانه الحاليين.
بعد ان متع نظره بمنزله وبشارعهم وبالنادي المجاور سمع تالة تسأله،
تالة: واين الآن يا برهوم؟
ابراهيم : هل تعرفين منطقة قنبر علي؟
تالة: اجل اعرفها. اتريد الذهاب اليها؟
ابراهيم : اجل لو سمحت فقد كان جدي يسكن هناك ايام شبابه.
تالة: بالتأكيد. هيا بنا.
ركب الاثنان السيارة وانطلقت بهما الى منطقة قنبر علي. هناك نظر ابراهيم الى الحارات القديمة والمنازل الجميلة فابتسم وقال لنفسه "اين ساجد دارك يا جدي؟" بعدها تذكر ما اخبره جده عن 10/10 فقال لتالة،
ابراهيم : دعينا نبحث عن محلة رقم 10.
تالة: هنا كتب على هذا الجدار، محلة رقم 7. دعنا نسير الى هناك... اجل هذه محلة رقم 8... وهذه 9... وهذه 10. هل لديك رقم الدار؟
ابراهيم : اجل انه رقم 10 كذلك.
تالة: هذا هو رقم 1. دعنا نتابع قليلاً.
سارا باتجاه ارقام الدور وهي تتصاعد. صار قلب ابراهيم يخفق بشدة وبشكل متسارع. كان لا يعلم ماذا سيكون موقفه لو انه شاهد جده بتلك اللحظة. واصلا السير حتى وصلا الى دار رقم 10 فتفحصاه جيداً من الخارج. شاهدا حديقة جميلة خلف السور فبقيا ينظران اليها من خلال قضبان السور حتى جذبت انتباههما امرأة في مقتبل العمر تسقي الزرع. قال ابراهيم،
ابراهيم : ربما هذه المرأة قريبة جدي. ولكن ماذا استطيع ان اقول لها؟ دعينا نراقبها فقط ثم نسألها لاحقاً.
وفجأة خرج شاب عشريني وسيم وتحدث معها. لم يتمكنا من سماع حديثهما لبعد المسافة لكنهما من الواضح كانا يتشاجران. دخل الشاب الى المنزل فعادت المرأة بسقي الزهور والحزن بادياً عليها. بعد بضع دقائق خرج الشاب ثانية وصار يصرخ على تلك المرأة يبدو انهما في خلاف كبير. وما هي الا ثوانٍ حتى رفع يده وصفعها ثم غادر الدار فمر بالقرب من ابراهيم وتالة ونظر بوجهيهما ثم توقف. تفحصه ابراهيم وصار يبحث عن وجهه بذاكرته فوجده مطابقاً لتقاطيع جده خلف لكنه لم يكن متأكداً. بقي الشاب ينظر الى وجه ابراهيم باستغراب ثم سمع صوت الفتاة تناديه من داخل البيت وتقول له، "يا خلف. انتظر لحظة يا خلف. ارجوك لا تذهب. انا اسفة جداً. ارجع للبيت"
خلف : ساعود فيما بعد يا حسيبة. ارجعي انت للدار، لاعليك.
"يا الهي، انه جدي خلف. وهذه جدتي حسيبة. كم كان وسيماً حبيبي جدو. وهي فعلاً جميلة كما وصفها لي جدي بالضبط. انا لا اصدق اني اشاهدهما بعيني. يا ترى لماذا كان هناك خلاف بينهما؟"
نظر جده بعينه وقال،
خلف : من انتما؟ وماذا تريدان؟ ولماذا تقفان خارج منزلي؟
ابراهيم : انا آآآآآ... اقصد نحن آآآآآ... نبحث عن آآآآآ...
انقذت تالة الموقف وقالت،
تالة: نحن نبحث عن بيت السيد عبد الحميد الحافظ.
خلف : ليس هناك احد بهذا الاسم. هل انتما متأكدان من العنوان؟
تالة: اجل يا اخي، انه محلة 20 دار رقم 10.
خلف : انتم على خطأ. هذه محلة رقم 10 وليست 20. ليس هناك محلة 20. لان المحلات تنتهي بـ 16. عليكما التأكد من رقم المحلة.
ابراهيم : نحن متأسفين على الازعاج يا... يا... يا اخي. سنتأكد من العنوان. السلام عليكم.
رحل ابراهيم وتالة وهما يحملان مشاعر متضاربة. فمن ناحية كان ابراهيم سعيداً لانه التقى جده وهو شاب عشريني وسيم وجدته فائقة الجمال ومن ناحية ثانية لم يتمكن من ان يخبرهما بالحقيقة لانهما سيعتقدان انه معتوه وسيطلبان له الشرطة. اما تالة فقد كانت بقمة السعادة لانها جعلت ابراهيم يلتقي جده وجدته ويشاهدهما على الطبيعة.
تالة: هل تريد ان تذهب الى مكان آخر برهومي؟
ابراهيم : الا ذهبت الى منطقة المسبح؟
تالة: حسناً. بكل ممنونية.
قادت تالة سيارتها بشارع الكفاح مارة بجامع كتب عليه جامع قنبر علي. ومروا بمحاذات الشورجة ثم عرجوا على شارع الرشيد حتى وصلت بهم السيارة الى ساحة التحرير ثانيةً ثم استدارت وسارت بشارع السعدون. هناك صار ابراهيم يتفحص المحال التجارية والصيدليات والمستشفيات فسألته،
تالة: لماذا تبدو حزيناً؟
ابراهيم : لان بغداد كانت جميلة جداً قبل ان تصبح مستعمرة ايرانية فقد حولوها الى اطلال. انا عمري 18 سنة ولدت بالـ 2002 ولم ارى بحياتي يوماً واحداً نستطيع ان نقول عنه جيد.
تالة: وانا ايضاً عمري 18 سنة ولدت بعام 1953 وكل ايامنا سعيدة ولو اننا مررنا بثورات كثيرة لكن تلك الثورات كانت لا تمس الشعب وانما هي انقلابات عسكرية تطيح بالحكومات وتأتي بحكومات غيرها الا انها كانت جميعها وطنية.
ابراهيم : لا تحدثيني عن الوطنية. فبزمننا انعدمت هذه الكلمة واصبحت مجرد رمز يتحلى به السياسيون الفاسدون. اصبح كل ولائهم ينصب بجيوبهم. وماذا عن اسرائيل؟
تالة: في العراق اليوم الذي يؤيد الصهيونية يكون خائناً ويحاكم وقد يعدم.
ابراهيم : اما نحن فالذي يؤيد الصهيونية يكون مواطناً صالحاً خصوصاً وان بعض ساستنا صاروا يرحبون بالساسة الاسرائيليون ويستقبلونهم باراضي عراقية.
تالة: يا الهي، اكاد لا اصدق ما تقول. كيف ينقلب العراق 180 درجة؟
ابراهيم : ماذا ستفعلين لو حكيت لك عن قانون رفحا؟
تالة: وما هذا الآن؟
ابراهيم : الافضل ان لا اخبرك عنه لانه سيسبب لك الغثيان. اما داعش فهو امر آخر.
تالة: ماذا تقصد بداعش؟ هل تقصد الرقم 11؟
ابراهيم : قبل ذلك اريد ان اسألكِ، هل انتم من الموصل؟
تالة: اجل والدي ووالدتي من الموصل. اما انا فولدت ونشأت هنا ببغداد لكننا نزور الموصل باستمرار. انا فضلت ان ابقى ببغداد هذه المرة لان لدي امتحانات كثيرة وعلي ان اراجع دروسي. فالامتحانات النهائية على الابواب.
ابراهيم : إذاً انسي الموضوع. لا عليك عزيزتي. سوف لن اخبرك عن داعش.
تالة: كلا، اريدك ان تخبرني عنها ارجوك. حتى لو كان ذلك سيئاً. ارجوك برهومي.
ابراهيم : حسناً. مع شديد الاسف في عام 2014 قام رئيس وزراء العراق الخائن العميل المالكي بالتعاون مع جهات اجنبية وتخلى عن وطنيته وضميره مقابل المال فسلم الموصل لعصابات تدعي انها مسلمة ويطلقون على انفسهم داعش. ان عملية التسليم كانت بشكل دراماتيكي غبي جداً إذ جابه الجيش العراقي تلك العصابات ثم رموا اسلحتهم وهربوا بملابسهم الداخلية. وعلى اثرها احتل الارهابيون الموصل وعاثوا بالارض فساداً لثلاث سنوات عجاف.
تالة: وماذا فعلوا باهلها؟
ابراهيم : لقد قتلوهم وشردوهم وقام الداعشيون باستعباد الاهالي ولم يسلم منهم لا كبير ولا صغير. حاربوا المسيحيين ورسموا حرف (ن) على جدران منازلهم دلالة على انهم نصارى. سرقوهم وهتكوا اعراضهم ثم قاموا بمهاجمة الايزيديين وفعلوا ما فعلوا بالنصارى واكثر من ذلك. احتجزوا نسائهم واعتبروهن سبايا وقاموا بالزواج ممن ارغمن على الاسلام ثم قاموا يتبادلنهن كما يتبادل العبيد. لم يسلم منهم احد حتى السنة الذين يدعون انهم منهم.
تالة: يا ساتر يا ربي. وهل تمكن العراق من القضاء عليهم؟
ابراهيم : اجل بعد ثلاث سنوات. ولكن لم يسلّموها الا خرابة واطلال وحطام. تخيلي حتى جامع الحدباء قاموا بتهديمه وتهديم منارته.
صارت دموع تالة تنهمر بشدة وهي تستمع لتلك القصص المريعة.
ابراهيم : لا عليك ياعزيزتي. بالنسبة لكِ هي فقط امور غيبية لم تحصل بعد. والآن يجب عليك ان تجدي لي فندقاً رخيصاً انام به الليلة.
تالة: هل جننت يا ابراهيم؟ انت اليوم ظيفنا وستبقى معي بالبيت وستنام بغرفة اسامة.
ابراهيم : اتقصدين اسامة اخوكِ؟
تالة: اجل انه اسامة الشرير. وهل هناك غيره؟
ابراهيم : ولماذا تقولين عنه ذلك؟
تالة: لانه يزعجني بكل شيء ويغار مني. اما الاهل فيحبونه ويدلعونه ويشترون له كل ما يريد. تخيل برهوم، هو اصغر مني بسبع سنوات لكن الناس ينادون والدي ابو اسامة وامي ام اسامة، هل هذا عدل؟
ابراهيم : اعرف ذلك عزيزتي. تلك العادة لم تمت حتى بعام 2020. لازال الذكر اهم من الانثى بالرغم من ان العالم كله ساوى بين الذكر والانثى الا ان العراقيين لازالوا يتشبثون بعادات الماضي السلبية.
وصل الاثنان الى منزل تالة براغبة خاتون ودخلا الصالة فاتجهت تالة مباشرة الى المطبخ وصارت تعد له الباسطرمة بالبيض المقلي كي يتعشى بها. وبعد ان اكلا الطعام سألته ان كان يريد مشاهدة التلفاز، فعجبته الفكرة. انتقلا الى صالة الجلوس ففتحت التلفاز وقالت،
تالة: هل لازالت اجهزة التلفاز لديكم ام انها تغيرت؟
ابراهيم : التلفاز لازال موجوداً لكنه اصبح رفيعاً كالورقة واصبحت احجامه تكبر حتى ان جارنا ابو عمر اشترى تلفزيون بحجم 65 بوصة. لكن الفرق هي القنوات.
تالة: ماذا عن القنوات؟
ابراهيم : اصبحت هناك قنوات فضائية. اي انك تستطيعين ان تشاهدي قنوات تبث من جميع انحاء العالم على تلفازك.
تالة: اتقصد القنوات المصرية والسورية والفرنسية ووو؟
ابراهيم : ببيتنا بامكاني مشاهدة 6000 قناة على جهازي المربوط على الانترنيت.
تالة: أكيد ذلك شيء ممتع.
ابراهيم : يكون ممتعاً لو كان هناك كهرباء. فالكهرباء تنقطع لدينا كثيراً واصبح اليوم قطاع خاص يبيع الكهرباء. اما المحطات فالعراق فيها مئات المحطات، البعض منها دينية تبث السموم كي تأجج الحقد بين المذاهب والاديان والاخرى سياسية تابعة للسياسيين الفاسدين يروجون لمصالحهم الشخصية فقط.
تالة: كم هو امر محزن. دعنا نغير الموضوع. اليوم هناك فيلم عربي سيعرض بالليل لاسماعيل يسن، هل تعرفه؟
ابراهيم : اجل شاهدت له فيلم بالاسود والابيض بقناة الكلاسيكية.
تالة: وهل هناك تلفزيون بالالوان؟
ابراهيم : يووووووه. سيخترعون التلفزيون الملون ثم تبدأ التلفزيونات بالضمور حتى تصبح بثخن الورقة ويبدأ حجم سطحها بالازدياد واليوم هناك التلفاز العالي الوضوح ويدعى 4K.
تالة: اتمنى لو استطيع مشاهدة الافلام بالالوان بداخل بيتي. الآن بامكاننا فقط مشاهدة الافلام الملونة بدور السينما. هل تحب السينما؟
ابراهيم : اجل احبها كثيراً.
تالة: إذاً سادعوك للسينما غداً مساءاً على الدور الثاني.
ابراهيم : حسناً انا موافق.
بعد نصف ساعة بدأ فيلم السهرة فتابعاه باهتمام واستمتعوا كثيراً بمشاهدة اسماعيل يسن وقفشاته المضحكة. وبلحظة واحدة عندما كانت تضحك تالة من كل قلبها نظر اليها ابراهيم من طرف عينيه وصار يتفحص شفتيها المفتوحتين واسنانها الجميلة الناصعة البياض وشعرها المتدلي على كتفيها. شعر ان جرساً صار يدق في قلبه. لكنه لم يتجرأ ان يقول شيئاً لانه ضيف ويجب ان يتحلى باخلاق الضيوف.
بعد انتهاء الفيلم اخذته تالة الى غرفة اخاها اسامة وسألته إن كان يحتاج الى اي شيء آخر لكنه اخبرها بانه يشعر بتعب كبير فودعته وتمنت له ليلة سعيدة ثم ذهبت الى غرفتها ونامت هناك.
باليوم التالي استيقظت تالة الساعة الثامنة صباحاً وبقت تفكر في سريرتها وتسترجع احداث الامس. فكرت بابراهيم وصارت تستلذ بتلك اللحظات الجميلة وبدأت تتخيل نفسها مرتديةً بدلة العرس البيضاء وبجانبها ابراهيم ثم سرعان ما محت تلك الافكار ونهضت من السرير ثم توجهت مباشرة الى غرفة اخاها اسامة لتفتحها فوجدت ضيفها مازال نائماً قالت له،
تالة: اصحى يا نايم، وحد الدايم.
فتح ابراهيم عينه وابتسم ابتسامة عريضة وقال،
ابراهيم : ليتني استيقظ كل يوم على هذا الوجه الجميل. هذا اول صباح يمر عليّ وانا ببغداد عام 1971. صباح الخير تلولة.
تالة: صباحك عسل يا عسل. هيا قم من فراشك يا كسلان.
اخذته الى المطبخ وقامت باعداد افطار وافر يتألف من بيض وشاي وجبنة ضفاير وخبز تنور وعسل وصحن وضعت به راشي ودبس وصحن آخر مليء بالقيمر فسألت،
تالة: هذا يسمى عندنا قيمر السدة. هل لازال لديكم مثله؟
ابراهيم : كلا، لقد انقرض ولكن جدي حدثني عنه كثيراً وكيف انه كان يعاكس احدى الفتيات الريفيات التي كانت تبيع قيمر السدة عندما كان مراهقاً.
تالة: يبدوا ان جدك كان زيراً للنساء.
ابراهيم : ابداً والله كان عاشقاً لابحاثه وعلمه فقط.
تالة: المهم، ماذا تريد ان تفعل اليوم؟
ابراهيم : نخرج بجولة ثانية ببغداد فانا لم اشبع منها ثم نتناول وجبة الغداء بمكانٍ ما وبعدها ندخل السينما بالليل، ما رأيكِ بهذا البرنامج؟
تالة: انه برنامج رائع. هيا بنا وطز بالدروس.
ركبا السيارة وانطلقت بهما بحواري بغداد القديمة والجديدة. كان ابراهيم يصور المناطق والشوارع والساحات العامة بهاتفه النقال. بقت تالة تشعر بسعادة عارمة لانها تحس بفرحة ضيفها الذي كان يشعر انه بالجنة. استمرت جولتهما حتى المساء حين تناولا وجبة العشاء بمطعم شعبي صغير ثم قال لها،
ابراهيم : والآن اود ان اتناول (دوندرمة) لقد هلكني بها جدي عندما كان شاباً. إذ كان يأخذ خطيبته (اي جدتي) الى منطقة المسبح ويشتري لها من تلك الدوندرمة.
تالة: انا اعرفها جيداً. والدي يأتي بنا الى هنا دائماً لانه يقول انها كانت امام مدرسته، متوسطة الشرقية للبنين، يصنعون الدوندرمة كما لو كانت علكة. انظر، ها هي برهومي. انا لا استطيع النزول معك لان المحل يعج بالشباب. خذ هذا الربع دينار وائتنا باثنتين.
ابراهيم : لقد قضيت على مصروفك كله.
تالة: لا عليك، لدي ثروة كبيرة بالبيت. فقد تركت لي امي ثلاث ورقات حمراء من فئة 5 دنانير. وهذا مبلغ كبير جداً.
ابراهيم : وماذا عن وقود السيارة؟
تالة: اولاً هذه السيارة اقتصادية، وثانياً إذا ملأت السيارة برمتها فسوف يكلف ذلك ديناراً ونصف فقط.
ادخل ابراهيم يده في جيبه واخرج ورقة نقدية من فئة 5000 دينار وقال،
ابراهيم : خذي هذه الورقة هدية مني اليك.
تالة: ما هذا؟ هل انت جاد؟ 5000 دينار؟ يا برهومي بمثل هذا المبلغ تستطيع ان تشتري قصراً بمنطقتنا.
ابراهيم : هذا المبلغ بزمننا لا يشتري لك وجبة غداء بمطعم شعبي. لقد تهاوت عملتنا واصبحت اسفل سافلين.
غاب قليلاً كي يأتي بالمثلجات ثم عاد يحمل كأسين ورقيين. اعطى واحدة منها لتالة وجلس بجانبها. تناولا الدوندرمة وهما يقارنان الماضي بالحاضر وفجأة سقطت قطرة من الدوندرمة على حنك ابراهيم. بدون ان تفكر قامت تالة بازالتها باصبعها ثم همت لتقبله من وجنته لكنها تراجعت بآخر لحظة بعد ان وعت لما كانت ستفعله. لم ينتبه مصطفى على حركتها فمرت الامور على خير. وعندما انتهوا من تناول الدوندرمة قالت تالة،
تالة: لقد حان موعد السينما الآن، دعنا نذهب الى السعدون فالفيلم الذي اود مشاهدته رومانسي بعنوان (حرامي الورقة) بطولة نجلاء فتحى بسينما بابل.
ابراهيم : هل تصدقين ان نجلاء فتحى مازالت حيةً ومازالت تأخذ البطولة بجميع الافلام الجديدة.
تالة: انا احبها كثيراً.
وصلا الى السينما فوجدا طابوراً كبيراً من الرجال امام صندوق التذاكر فقال لها،
ابراهيم : قفي هنا يا تالة. ساشتري التذاكر وارجع فوراً.
اخذ منها المبلغ ووقف في الطابور مع باقي الرجال. انحرفت تالة جانباً تنتظر ابراهيم وفجأة جاء رجلان وصارا يعاكسانها قال الاول،
الاول : هل انت تنتظرينني يا حلوة.
تالة: ارجوك اتركني واذهب بعيداً.
الثاني : هل لديك حبيب تنتضرينه كي تنامي باحظانه؟ هل يداعب نهديك الكبيرتين هذه عندما يعاشرك؟
قال ذلك ووضع يديه على نهديها فقامت بصفعه دون تردد. لكن زميله مسكها من شعرها وصار يحاول تقبيلها فسقطت نظارتها على الارض. وما هي الا لحظات ورجع ابراهيم ليجد تالة تتعرض للتحرش فانقض على الرجلين كالعقاب وصار يتقاتل معهما بشكل عنيف جداً. وسرعان ما اصبحا تحت اقدامه يتوسلون كي يعفو عنهما. توسلت به تالة كي يتركهما ويدخلا الى السينما فتركهما بعد ان بصق عليهما ثم التقط نظارتها من الارض نفّضها من الغبار والبسها لتالة ثم مسك بيدها وصعدا الى الطابق الاول حيث توجد غرفة معزولة تسمى (صالة العوائل) تحتوي على ثلاثة مواقع كل واحد من تلك المواقع يسمى اللوج. كانت الالواج الباقية فارغة ما عدى لوج واحد احتله ابراهيم وتالة. بقيت تالة تفكر بذلك البطل الشهم الذي حماها من هؤلاء السفلة وكيف تقاتل معهما بكل بسالة كما لو كانت زوجته. بعد ان انطفأت الانوار وابتدأ الفيلم صاروا يتابعون احداث القصة. الفيلم يحكي عن فتاة فقيرة الحال تعمل بمصنع اقمشة كي تعيل والدتها المريضة واختيها الصغيرتين. وبيوم من الايام حالفها الحظ فربحت جائزة اليانصيب الاولى وهي 5000 جنيه مصري فتعم الفرحة بالعائلة. لكن سرعان ما تكتشف ان بطاقة اليانصيب التي ربحتها قد سرقت منها لتذهب عن طريق الصدفة ليد شاب اسمه احمد. فتبدأ ملاسنات ونقاشات بينها وبين احمد كي تسترد البطاقة منه فتتولد علاقة غرامية بينه وبينها. وباحدى اللقطات يأتي لزيارتهم بمنزلها، تذهب للمطبخ كي تعد له القهوة فيقترب منها ويقبلها. هنا شعرت تالة بفيضان كبير في مشاعرها فمدت يدها كي تمسك بيد ابراهيم الا انها تراجعت باللحظة الاخيرة لكنها اصيبت بالدهشة عندما بادر هو بوضع يده فوق يدها فتجاوبت معه ومسكت يده بقوة. نظر اليها ليشاهد وجهها يضيء تارة ويخبو اخرى بفعل سقوط الضوء على وجهها من شاشة العرض فدنا بشفتيه نحو شفتيها فنطقت اسمه وقالت، "يا احمد انا احبك" قال، "انا اسمي ابراهيم يا تالة ولست احمد" فاستقبلت شفتيه بشفتيها المفتوحتين واذا به يقبلها قبلة ساخنة وطويلة. كان ذلك بداية النهاية في متابعة باقي احداث الفيلم، لقد اكملاه بالضم والعناق طوال فترة العرض ولم يعرفا نهاية القصة. عندما اشعلت الانوار وصار الناس يغادرون القاعة وقف ابراهيم وتبعته تالة وهمّا بالخروج من صالة اللوج. لكنها اوقفته وقالت،
تالة: ابراهيم اعذرني لقد تصرفت بدون تفكير وقد افسدت عليك القصة.
ابراهيم : ارجوكِ يا تالة لا تعتذري. بامكاني متابعة احداث الفيلم في اليوتيوب لاحقاً. على اي حال فانا جداً سعيد لانك قبلتيني وانا اكن لك مشاعر كبيرة جداً. انا احبك من كل قلبي.
تالة: وانا احبك ايضاً لكننا... اقصد نحن من زمنين مختلفين...و
ابراهيم : اجل عندك الحق يا تلولتي. من الاجدر بنا ان نعود الآن لابحث عن فندق رخيص كي انام به الليلة؟
تالة: هل جننت يا برهوم؟ انت ضيفنا وبامكانك ان تنام في غرفة اسامة ثانيةً كما فعلت بالامس.
ابراهيم : الامر قد اختلف الآن يا تالة. انا لا اريد ان ادع مجالاً للشيطان كي يكون ثالثنا.
تالة: لا تقل ذلك ابداً. صحيح اني احبك واكن لك مشاعر كبيرة جداً، لكنك ستظل ببيتنا وستبقى علاقتنا على ما هي عليه.
ابراهيم : حسنا حبيبتي انا اشكرك لثقتك بي.
خرج الاثنان من السينما وركبا السيارة وعادا الى بيتها. هناك توجه ابراهيم مباشرة الى غرفة اسامة ودخل السرير كي ينام. فعلت تالة ذات الشيء الا انها لم تتمكن من النوم. بقيت تفكر بابراهيم وقبلاته الساخنة فشعرت بشعور غريب لم تحس به من قبل. ارادت ان تضرب كل الموانع عبر الحائط فقامت من سريرها وذهبت الى غرفة اخاها اسامة. دخلت الغرفة مرتديةً بدلة نومها ودنت من سريره ثم قبلته قبلة ساخنة وارادت ان تدخل معه في السرير الا انه صدها وقال،
ابراهيم : تصبحين على خير يا حبيبتي. عودي الى غرفتك فغرفة اسامة ملئى بالشياطين.
خرجت من الغرفة وهي غاضبة منه لكنها تعرف تمام المعرفة انه كان على حق فسامحته واحترمته لتمسكه بكلمته. باليوم التالي واصل الاثنان جولاتهم ببغداد وواصل ابراهيم تصوير المناطق المهمة والشوارع النظيفة والساحات الرائعة ثم عادا الى البيت فذهب كلٌ الى غرفته لينام وحيداً. باليوم التالي ومباشرة بعد تناولهما وجبة الافطار قال ابراهيم،
ابراهيم : اسمعي يا تالة انا فكرت بعلاقتنا جيداً. انا اريد ان اقترن بك فهل توافقين؟
تالة: اوافق طبعاً يا حبيبي ولكن كيف؟ انت من زمن وانا من زمن ثاني. هل اذهب معك كي اعيش بالمستقبل ام تبقى انت معي هنا بالماضي؟
ابراهيم : انا لن اسمح لنفسي كي اخذك الى جحيم 2020 بكل مساوئه وامراضه وويلاته وانا مللت منه تماماً. انا سابقى هنا بهذا الزمن الرائع الزمن الخالي من الاوبئة والمشاكل الاجتماعية الجميل بكل معنى الجمال من كلمة سوف اطلبك من والدك وسنعيش هنا.
تالة: هذا اجمل ما قلته يا حبيبي. انا موافقة من الآن. سابلغ عائلتي بكل شيء عندما يعودوا من رحلتهم.
ابراهيم : وهل تعتقدين ان والدك سيمانع؟
تالة: ابداً انه يحبني كثيراً وسوف يرضى بكلمتين مني.
ابراهيم : قبل ذلك. اريد ان ارجع الى المستقبل، اريد ان اخبر والدتي برحيلي لانني متأكد من انها ستقلق علي وساودع جدي ووالدي واودع اختي وداد لاني سارحل عنهم الى الابد.
تالة: هذا شيء معقول. ومتى ستعود الى هنا؟
ابراهيم : بالنسبة لك سوف تكون مسألة دقائق فقط. لانني ساضبط الموقت على نفس اليوم بعد مرور عدة دقائق ولكن انا لست متأكداً من اني ساصل الى بيتكم. فقد اضطر لركوب المواصلات اذا جائت بي الكبسولة لمكان آخر من بغداد.
تالة: حسناً ولكن لا تجعلني انتظر كثيراً. عد اليّ على جناح السرعة مفهوم؟
ابراهيم : مفهوم يا روحي وحبي وحياتي ومستقبلي هاهاها اقصد وماضيي.
تالة: اعطني هاتفك كي اصورك وانت ترحل ثم اصورك عند عودتك. سيكون هذا الفيلم اساس حياتنا وسيشاهده اطفالنا فيما بعد.
اعطاها هاتفه بتردد كبير لانه كان يريد ان يري جده كل الصور التي التقطها ببغداد الجميلة ومع ذلك لم يرغب ان يرفض لها طلب. راحت تالة تلتقط له عشرات الصور اثناء دخوله الكبسولة ثم اغلاقه الباب. لقد شاهدته من وراء زجاج الكبسولة وصارت تبعث له بقبلات هوائية فيرد لها القبلات. بدأت الكبسولة تصدر اصواتاً عالية وتدور بسرعة ثم اختفت عن ناظرها. بقي ابراهيم بداخلها يأمل ان توصله الى الزمن الذي جاء منه. استمرت الكبسولة تعمل لاكثر من نصف ساعة دون توقف. هنا بدأ القلق يتسرب الى قلبه. ماذا لو ان الكبسولة لم تتوقف عن العمل؟ واذا توقفت فهل سترجع الى نفس الزمن الذي جاء منه او هل تعود الى نفس الموقع الذي ابتدأت به؟ وفجأة شعر بهزة قوية ثم هدأت هدوءاً تاماً وسكت محركها. فتح الباب واخرج رأسه الى الخارج فشاهد ادوات والدته المنزلية وادوات جده الكهربائية فابتسم وحمد الله لانه رجع الى المكان الصحيح. اخرج ساقيه من الكبسولة وقفز للخارج. هنا قال لنفسه "الحمد لله لان الكبسولة مازالت على اتم حال لاني ساحتاجها للعودة الى تالة فيما بعد"
دخل الدار فوجده ساكناً. لم يكن يفهم سبب غياب الجميع عن المنزل فاراد التأكد. دخل غرفة والدته فوجدها خالية فذهب الى غرفة جده فوجدها خالية هي الاخرى صار ينادي باعلى صوته "جدي، جدي اين انت يا جدي؟ ماما، بابا، وداد اين انتم؟" استنتج وقتها ان الجميع خارج الدار لسبب مقلق فخرج الى الخارج لتستقبله اشعة الشمس الحارقة. شاهد جارته ام صباح تقف بباب بيتها وتشتري الخضار من بائع متجول فذهب صوبها وسألها عن اهله. قالت له ان جده اصيب بنوبة قلبية نقلوه على اثرها لمستشفى الطوارئ. رجع لبيته مسرعاً ليأخذ دراجته الهوائية وينطلق بها الى المشفى. وعندما وصل هناك سأل الاستعلامات فادلوه الى قسم الطوارئ. سار بممر طويل ليجد والدته تقف خارج احدى الردهات والقلق باديٍ عليها. ولما شاهدته قادم من بعيد ركضت صوبه. احتضنته وقالت،
فاطمة : حمداً لله انك بخير. اين كنت يا ولدي؟ لقد قلقنا عليك كثيراً. ظننا ان بعض المليشات قاموا باختطافك وسرقوا علبة الساردين الزجاجية التي يعمل عليها جدك تلك الكبسولة المشؤومة. قلت لجدك اني ساذهب للشرطة كي ابلغهم عن الخطف لكن جدك تبعني وكان يجري في الشارع ويريد منعي من البلاغ لكنه كان بغاية التوتر فسقط على الارض مغشياً عليه. نظرت خلفي فوجدته مستلقياً بوسط الطريق، استدرت ورجعت اليه فطلبت له سيارة اسعاف. والآن خبرني، اين كنت يا ولدي؟ كيف تذهب دون ان تعلمنا بوجهتك؟ اباك ذهب لمقابلة احد اصدقائه يقول انه ضابطاً في الحشد الشعبي يحاول ان يقنعه كي يقوم بالبحث عنك واختك لحد الآن لا نعلم عنها شيء.
ابراهيم : دعينا نطمئن على جدي اولاً ثم اخبرك بكل شيء لا تقلقي يا امي.
خرجت الممرضة من غرفة جده واخبرتهم انهم يستطيعون الدخول للاطمئنان عليه. دخل ابراهيم وامه فشاهدا جده راقداً على سريره مربوطاً بالانابيب والاسلاك يتنفس من خلال قناع مطاطي شفاف. ابتسم لما شاف ابراهيم لانه علم تماماً ان ابراهيم قد استعمل كبسولة الزمن ورجع بها للماضي ثم عاد بعدها الى الحاضر بنجاح. قال ابراهيم،
ابراهيم : كيف حالك الآن يا جدي؟ لقد قلقت عليك كثيراً.
فاطمة : هل انت بخير يا ابي؟
خلف : اجل انا بخير يا احبابي. وانت يا برهوم كيف كانت رحلتك؟
ابراهيم : لقد كانت موفقة يا جدي. ذهبت الى عام 1971 وقد شاهدت بغداد الجميلة بذلك العصر الذهبي. تماماً كما حدثتني عنها واكثر من ذلك بكثير.
خلف : الم اقل لك انها كانت اجمل العواصم بالعالم؟ هل شاهدت ساحة التحرير؟
ابراهيم : نعم.
خلف : هل شاهدت شارع الرشيد؟
ابراهيم : نعم.
خلف : هل شربت من شربت الحجي زبالة.
ابراهيم : نعم، نعم. هو الذي قدم لي الكأس بيده.
خلف : هل اكلت السمك المسكوف؟
ابراهيم : كلا يا جدي لم يتسنى لنا الوقت.
خلف : يتسنى لنا؟ يتسنى لنا؟ تتكلم بصيغة الجمع. هل قابلت فتاة هناك يا ولدي؟
ابراهيم : اجل يا جدي اجل انها تالة. قابلت تالة واحببتها كثيراً. هي فتات احلامي واملي وحبي الاول والاخير.
خلف : وهل جائت معك الى هذا الزمن؟
فاطمة : بالله عليكما توقفا، عن ماذا تتحدثون؟ اي زمن هذا؟ اي فتاة؟ ومن هي تالة؟
ابراهيم : ساشرح لكِ كل شيء فيما بعد يا امي فانا متعب جداً واريد ان انام قليلاً. وبما اني اطمأنيت على جدي فسارجع للبيت لارتاح.
بقيت فاطمة مصدومة بما سمعت وطلبت من والدها ليشرح لها معنى الكلام الذي دار بينه وبين ابراهيم. الا ان والدها تضاهر بانه نام لذا تركته وجلست على الكرسي وهي حانقة.
باليوم التالي استيقظ ابراهيم وذهب مباشرة كي يبحث عن والدته فوجدها بالمطبخ قال،
ابراهيم : صباح الخير يا امي.
فاطمة : صباح الخير يا حبيبي. هل لنا ان نتحدث؟
ابراهيم : اجل يا امي. اردت ان اتحدث معك بخصوص تالة.
فاطمة : من هي تالة؟ اخبرني عنها ومن هي عائلتها؟ ومتى تريدني ان اخطبها لك؟
ابراهيم : سوف لن تستطيعي ان تقابليها لانها بالماضي. التقيتها بعد ان ذهبت اليها راكباً كبسولة جدي. هي تعيش بعام 1971. هي من ولادة بغداد لكن اهلها من الموصل.
فاطمة : ما هذا الكلام يا ابني؟ الا زلت مصمماً على تلك الدعابة التافهة؟
ابراهيم : انها ليست دعابة. انها حقيقة وانا احبها من كل قلبي.
فاطمة : ولماذا لم تحضرها معك إذاً؟
ابراهيم : هل انت جادة يا امي؟ اين اجلبها؟ الى هذا العراق المحطم بالمليشات والكورونا والفساد وانقطاع الكهرباء وشحة المياه والظلم وعنجهية السياسيين الفارغين الجهلة؟
فاطمة : حسناً وماذا تريد إذاً؟ ما الحل بنظرك؟
ابراهيم : سارحل اليها هناك وسابقى معها الى باقي ايام عمري.
فاطمة : لحظة، لحظة، لحظة، دعني افهمك جيداً. هل هذا يعني انك سترحل من عندنا الى الابد وسوف لن نراك ثانيةً؟ اهذا ما تقول؟
ابراهيم : اجل يا امي. الا تريدين لي الخير؟ الا تريدين ان اعيش بمكان افضل من هذا الجحيم؟
فاطمة : هذا هراء. سوف لن ادعك تذهب الى الماضي. ستبقى امامي وسابقى معك حتى اشيب واموت. بعدها بامكانك ان تذهب الى اي مكان او زمان تشائه.
ابراهيم : لقد اتخذت قراري وسوف لن ادع اي شخص يقف بطريقي حتى لو كنت انت يا امي.
فاطمة : سنرى يا ولدي. لي حديث آخر مع جدك.
ابراهيم : هل اخبروكِ اليوم عن حالة جدي؟
فاطمة : بالامس اخبرني الطبيب انه إذا استمر جدك بهذا الحال فانهم سوف يخرجوه بعد اسبوع.
ابراهيم : إذاً سازوره اليوم بالمشفى.
بعد ان تناول وجبة الافطار خرج الى الخارج مسرعاً راكباً دراجته. وعندما وصل الى غرفة جده شاهد احدى الممرضات وهي تسقيه الدواء فانتظر خارج الغرفة قليلاً حتى خرجت الممرضة فدخل وقبل جده وقال،
ابراهيم : كيف حالك اليوم يا جدي؟
خلف : انا بخير ولكن اخبرني برهومي، كيف كانت رحلتك؟ فنحن لم نتمكن من الحديث بحرية عندما كانت امك هنا.
بدأ ابراهيم يقص على جده كل الاحداث باتفصيل الممل هذه المرة لم يترك معلومة الا وقالها له ثم بالآخر قال،
ابراهيم : لقد شاهدت جدتي رحمها الله وكنت شاهداً على خلاف دار بينكما.
خلف : خلاف؟ كيف؟ هل ذهبت الى منطقة قمبرعلي؟
ابراهيم : اجل يا جدي وقد شاهدتك وانت تصفع جدتي.
خلف : اوه... كانت تلك اول وآخر مرة اضع يدي عليها. لقد كان خلافاً بسيطاً لكني تصرفت بتهور وقد ندمت كثيراً عليه ولم اسامح نفسي ابداً حتى بعد ان اصطلحنا ونَسِيَتْ حسيبة الامر. ولكن قل لي ماذا تريد ان تفعل الآن؟
ابراهيم : اريد ان ارجع الى زمن تالة واتزوجها كي اعيش بذلك الزمن الجميل.
خلف : هذا سيكون صعباً الآن. لاني لا استطيع ان احصل على المزيد من الوقود. ففي السابق كان يزودني به الدكتور نواف من الجامعة التكنولوجية. اما الآن فقد احيل على التقاعد وليس هناك سبيل للحصول على الوقود من مصدر آخر.
ابراهيم : يا الهي ماذا تقصد؟ هل سنتوقف عن العمل على الكبسولة؟
خلف : ليس باليد حيلة يا حبيبي. حتى المعجل فانا لا استطيع ان استبدله بمعجل احدث والذي بامكانه ان يقلص نفس الرحلة الى دقيقتين فقط.
ابراهيم : ساحاول ان احصل على الوقود بنفسي. ساعمل المستحيل، حتى لو اضطررت ان اقدم للدراسة بالجامعة التكنولوجية. ساحصل على الوقود ياجدي.
خلف : يجب ان تعمل ذلك بنفسك لاني فقدت القدرة على استعمال يدي اليمنى وسوف لن اتمكن من ان اواصل ابحاثي.
ابراهيم : هذا شيء مريع يا جدي. انا آسف يا حبيبي.
خرج ابراهيم وهو بغاية الحزن لان جده فقد القدرة على استخدام يده ولانه سوف لن يتمكن من متابعة تطوير الكبسولة. لذلك يجب عليه ان يقوم هو بكل العمل مستقبلاً. رجع الى المنزل فلم يجد والدته بالمطبخ كعادتها، بحث عنها بكل مكان حتى وجدها بغرفة المخزن. كانت واقفة بجانب حطام الكبسولة. لقد قامت والدته بالطرق عليها بمطرقة كبيرة فاردتها حطاماً وتناثر زجاجها بكل مكان وصارت اسلاكها على الارض. نظرت اليه وقالت،
فاطمة : الآن ليس هناك سبيل كي تغادر وتتركني يا ولدي لاني لن اسمح بذلك ابداً.
ابراهيم : ماذا فعلت يا امي؟ لماذا حطمتِ الكبسولة؟ لماذا حطمتيني وحطمتِ قلبي؟ لماذا فعلت ذلك؟ لماذا حرمتيني من تالة؟
فاطمة : كان يجب ان افعل ذلك كي انقذك من الجنون الذي ركبك انت وجدك.
ابراهيم : ولكني وعدت تالة ان اعود اليها لنتزوج. لماذا فعلت ذلك؟ الا تحبيني؟ الا تريدين لي الخير؟
فاطمة : هكذا افضل يا ولدي. بامكانك ان تجد فتاة هنا بهذا الزمان وسوف اخطبها لك متى ما شئت.
نظر ابراهيم الى الكبسولة المحطمة وصار يبكي بحرقة كبيرة. همت امه كي تضمه الى صدرها لكنه دفعها وقال،
ابراهيم : سوف لن اسامحك ابداً على ما فعلت. لقد فرقت بيني وبين تالة الى الابد.
خرج من المخزن وهو حزين جداً. ركب دراجته وقادها الى ابي نؤاس حيث جلس هناك ينظر الى مياه دجلة ويبكي بحرقة. صار يتذكر كل اللحظات التي قضاها مع تالة وكلامها وضحكتها وقبلها التي مازالت على شفتيه. بقي جالساً اكثر من 4 ساعات حتى خطرت له فكرة. قرر ان يذهب الى منطقة راغبة خاتون حيث منزل حبيبته تالة. ركب دراجته وسار بسرعة عالية. وعندما وصل هناك بدأ يجابه صعوبة كبيرة في العثور على المنزل لان الكثير قد تغير هناك. مرت عليه ساعة كاملة وهو يبحث حتى لمح المنزل فسار باتجاهه ثم ترجل من دراجته وصار يسير ببطئ شديد لانه لا يعلم ماذا سيجد هناك. نظر من فوق سور المنزل فوجد تالة تسقي الزهور في الحديقة. لم يصدق عينيه، كيف تكون تالة بشحمها ولحمها ونظارتها الكبيرة التي على عينيها ولم تشيخ؟ لقد مرت اكثر من 49 سنة وبما انها كانت 18 عام فان عمرها يجب ان يكون 67 عاماً. كيف تبدو بنفس عمرها وبنفس جمالها. هذا شيء لا يصدق. ناداها من خلف السور وقال،
ابراهيم : تالة، يا تالة تعالي هنا.
الفتاة : من انت وماذا تريد؟
ابراهيم : انا ابراهيم، الا تذكريني؟
الفتاة : اغرب عني فانا العب الكاراتيه وبامكاني تحطيم رأسك. ابتعد عني هيا.
ابراهيم : ماذا بك يا حبيبتي انا ابراهيم هل نسيتيني؟
الفتاة : قلت لك ابتعد انا لا اعرف اي ابراهيم.
ابراهيم : سابتعد فوراً ولكن ما اسمك؟
الفتاة : انا اسمي ميسون.
ابراهيم : هل انت اخت تالة؟
ميسون : انا ليس لدي اخوان ولا اخوات. ارجوك ارحل من هنا.
ابراهيم : هل هناك احد بالعائلة اسمها تالة؟
ميسون : اجل عمتي تالة رحمها الله.
ابراهيم : يا الهي متى توفت؟
ميسون : في العام الماضي 2019. كنت احبها كثيراً وقد توفت وهي ممسكة بيدي وباليد الاخرى صندوقها.
ابراهيم : اي صندوق هذا؟
ميسون : كانت تحتفظ بصندوق قديم مغطى بالصدأ طوال حياتها. ولم تسمح لاي انسان كي يمسه. بقي ذلك الصندوق سراً حتى توفت. قال والدي...
قاطعها ابراهيم وقال،
ابراهيم : هل والدك اسمه اسامة؟
ميسون : اجل ابي اسمه اسامة، كيف عرفت ذلك؟
ابراهيم : هذا غير مهم. اكملي.
ميسون : اجل، قال والدي انه يريد ان يفتح الصندوق ليرى ما بداخله لكننا عارضناه بشدة وقلنا انه يجب ان يحترم خصوصيتها ولا يفتحه. بل يدفن معها في قبرها لكنه اصر وقام بفتحه.
ابراهيم : وماذا وجد بداخله؟
ميسون : وجد بداخله ورقة من فئة 5000 دينار لكنها كانت مهترئة. ووجد قنينة زجاجية صغيرة فارغة مكتوب عليها (تراوبي). ووجد جهاز هاتف خلوي سامسونغ حديث لكنه كان مغطى بالصدأ وكأنه من العصور الوسطى.
ابراهيم : يا الهي. هل لي ان ارى ذلك الصندوق؟
ميسون : كلا لان والدي رماه في صفيحة النفايات .
ابراهيم : واصلي الحديث لو سمحتِ.
ميسون : كان والدي يعتبرها عبئ كبير عليه ويود لو انها تموت بسرعة لانها كانت تتحدث بشكل غريب.
ابراهيم : كيف ذلك؟
ميسون : كانت تقول انها تنتظر حبيبها الذي جاء من المستقبل. وانه سيتزوجها عندما يأتي. لكن الجميع كان يعلم انها تعاني من مرض الزهايمر لذلك لم يكونوا يأخذوها على محمل الجد.
ابراهيم : لقد كانت على حق.
ميسون : هل انت ذلك الشخص؟
ابراهيم : اجل انه انا ابراهيم، انا الذي عشقتها.
ميسون : لكنها قالت بان حبيبها سيأتي بكرة زجاجية، وانت جئت بدراجة هوائية فكيف ذلك؟
ابراهيم : الآن انا جئتك من 2020 ولم اركب آلة الزمن لانها تعطلت. ولكن هل اخبرتك عمتك باسمي؟
ميسون : اجل اذكر انها باحت لي باسمك مرات عديدة. لقد كنت الوحيدة التي اصدقها واتحدث معها وكانت تثق بي كثيراً.
ابراهيم : يا حسرتي يا تالة. لم اكن محظوظاً كي القاك ثانية يا عمري.
ميسون : كانت عمتي تجلس وحيدةً في المخزن لساعات طويلة. وعندما اسألها تقول انها تنتظرك.
ابراهيم : كم تمنيت ان التقيها واشرح لها سبب عدم استطاعتي الرجوع اليها. لكن الآن انتهى كل شيئ. وداعاً يا اخت ميسون.
ولما امسك بدراجته كي يرجع الى بيته قالت له،
ميسون : انتظر لحظة يا اخ ابراهيم. لقد تذكرت شيئاً.
رجع ابراهيم ونظر بوجهها قائلاً،
ابراهيم : نعم، ماذا تريدين؟
ميسون : قبل سنتين من وفاتها قامت عمتي بكتابة رسالة وطلبت مني ان اعطيها الى حبيبها ابراهيم إن عاد بعد وفاتها.
ابراهيم : واين هذه الرسالة؟
ميسون : لقد احتفضت بها كل هذه الفترة واعتقد انها مازالت بين اوراقي وكتبي. لحظة واحدة سافتش عنها وارجع اليك.
ابراهيم : ارجوك حاولي ان تعثري عليها. انا سانتظرك هنا.
دخلت ميسون الى داخل البيت وهي تركض بينما بقي ابراهيم واقفاً بالخارج يتضرع الى الله ان تتمكن ميسون من العثور على الرسالة التي ستكون اكبر مكافئة وعزاء له بهذه الدنيا. وبعد مرور نصف ساعة خرجت ميسون وقالت،
ميسون : لقد عثرت عليها، ها هي.
ابراهيم : انها مقفولة. الم تفتحيها او تقرأي ما بداخلها؟
ميسون : وكيف افعل ذلك؟ لقد اءتمنتني عليها عمتي وكان لزاماً علي ان اصون الامانة.
ابراهيم : شكراً جزيلاً يا اخت تالة... اقصد ميسون فالشبه بينكما كبير.
ميسون : اعرف، الكل يقول ذلك.
لم يتمكن من ان يؤجل فتح الرسالة حتى يعود للبيت. لذا فتحها وصار يقرأها بسره.

حبيبي واملي ابراهيم،
منذ ان رحلت من عندي قبل 46 سنة وانا انتظر رجوعك بكل صبر. لم افقد الامل ولا للحظة واحدة لاني كنت على يقين بانك تحبني بقدر ما كنت احبك ولانك كنت صادقاً بكل ما قلته لي وستعمل المستحيل لترجع اليّ يوماً. بقيت انتظر وانتظر لكنك لم تأتي. كنت احدث نفسي واقول انك قد تكون رحلت الى الآخرة لكني كنت اغضب منك واقول كيف ترحل ولا تأخذني معك؟ فالحياة بدونك ليس لها طعم.
كنت انظر بهاتفك واقلب الصور التي اخذناها سوية وكنت ابتسم وابكي بنفس الوقت. بقيت استعمل هاتفك لسنين طويلة حتى اصابه العطل يوماً فاخذته للمصلح لكنه لم يتمكن من اصلاحه. بقي الهاتف عندي كذكرى جميلة اشمها كما اشم الورود واتذكر يدك الناعمة التي كانت تمسك به. ولاني ماكنت استنشق الهواء الا لاعيش واراك ثانية. رفضت كل الرجال الذين تقدموا لي وقلت لهم باني مخطوبة لك يا عمري. كم ضحك علي الجميع ووصفوني بالجنون والخرف والزهايمر. الا ان ذلك لم يهزني او يثنيني عن حبي. بقيت انتظر حتى مل مني الجميع ما عدى حبيبتي ميسون هي ابنة اخي التي كنت احدثها عنك وعن الامور التي عملناها سوية وعن شربت الحجي زبالة والدوندرمة التي اكلناها في المسبح والفيلم الذي شاهدناه بالسينما والقبلة الاولى التي قبلتني اياها في اللوج والصور التي اخذناها سوية على هاتفك وعن كرمك واخلاقك النبيلة وشهامتك وقوتك الخارقة التي دافعت بها عن شرفي لما اعتدوا علي أُولَئِكَ السفلة.
إذا رجعت ثانية ولم تجدني فاعلم انني انتظرتك لآخر يوم بحياتي وسوف انتظرك بالآخرة حتى تأتي وتمسك بيدي لندخل الجنة سوية. حيث سيكون عرسنا هناك بين الملائكة.

حبيبتك التي تنتظرتك دائماً وابداً
تالة

نظرت اليه ميسون فوجدته سابحاً بدموعه وهو يطبق الرسالة ويضعها في جيبه ثم يركب عجلته ويرحل. نادته من بعيد وقالت،
ميسون : تعال الى هنا وزرني إن استطعت.
ادار رأسه اليها من بعيد وهو يقود دراجته وقال،
ابراهيم : حسناً سافعل ذلك...
وفجأة صدمته سيارة مسرعة فسقط على الارض وصار يسبح ببركة من الدم.
ركضت اليه مسيون فوجدت سائق السيارة يحاول ان يسعفه. وعندما قربت منه رفع الرجل رأسه وقال،
السائق : لقد فارق الحياة.
بكيت ميسون قليلاً ثم ابتسمت وقالت،
ميسون : لقد التحق بعمتي تالة فقد انتظرته كثيراً.

   

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

838 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع