عقدين ونيف تفصل بين رحلتين بالباص الخشبي - رحلة في ذاكرة طفلين

                                            

                          داود كركوكلي

عقدين ونيف تفصل بين رحلتين بالباص الخشبي - رحلة في ذاكرة طفلين

الثامن من شباط ١٩٦٣ بدأ كأحد الايام الدراسية العادية بمدرسة مناحيم صالح دانيال الواقعة بمنطقة السنك ببغداد. في ذاك الصباح وفي الحصة الأولى دخلت مساعدة المديرة لصفنا الابتدائي الاول وطلبت منا الخروج وبسرعة لساحة المدرسة. من هناك اعتلينا باصات المدرسة الخشبية التي نقلتنا على عجل الى دورنا. كل ذلك جرى تحت إشراف مديرة مدرستنا اللبنانية السيدة ماري قنواتي، والتي بدء القلق واضحا على وجهها.

رحلة الباص الخشبي الاستثنائية، الذي ابتلعنا انا واترابي الطلاب على حين غرة ليمخر بنا سائقه عباب شوارع بغداد، والتي كانت مكتظة بأرتال العساكر وعرباتهم، حفرت في ذاكرتي الغضة. كنا مكدسين كأسماك السردين ولم نفقه بعد بأن الدنيا "انگلبت”.

بالنسبة لي كان انقلاب شباط أول انقلاب عسكري اشهده عن قرب فبحكم قرب بيتنا من دار الزعيم عبد الكريم قاسم فقد وطأت دارنا اقدام الانقلابيين في هرولتهم المحمومة لاعتقال الزعيم قبل أن يلقى القبض عليه ظهر اليوم الثاني للانقلاب ويعدم بالرصاص في دار الإذاعة العراقية.

بعد أعوام وفي إحدى جلسات استذكار الماضي وشحذ ذهن والدي، استذكرت امامه "اخلاءنا” من المدرسة بالباص الخشبي (الذي شبه انقرض في آواخر الستينات) عندها سرد لي والدي رحلته التي لن ينساها في باص "النفرات" الخشبي بشارع الرشيد ببغداد عام ١٩٤١ وبالتحديد في الاول من حزيران من ذاك العام، الذي كان من الممكن أن يكون، والعياذ بالله، آخر يوم في حياته. في ذاك اليوم تلبدت سماء بغداد بغيوم سوداء وكشر الشر عن انيابه المسمومة ليغرزها في أجساد الاطفال والشيوخ والنساء اليهود- كان ذاك "الفرهود".

كان والدي، في الثالثة عشر من عمره، مستقلا الصف الاول من الباص الخشبي حين استوقفت الباص جموع غاضبة فتحت باب الباص تستفسر بغضب: اكو يهود؟!!! وجاءهم الرد السريع من والدي، الذي تمالكته الشجاعة في تلك اللحظة - "لا ماكو”. عندها فقط أغلقوا باب السيارة بامتعاض مضى بعدها سائق النفرات مسرعا لينفذ بجلده وجلد من معه من عراقيين يهود.

ما بين رحلة باص عام ١٩٤١ وباص عام ١٩٦٣ عقدان ونيف. باص خشبي تقاعد من صخب شوارع بغداد وذكريات تتأرجح ب"طسات" شوارع الزوراء ....!!!

أنها ليست مجرد تواريخ ثبتت على رزنامة العراق: الاول والثاني من حزيران أودى بحياة المئات وخلف أمثالهم أربعة اضعاف من الجرحى من بين يهود العراق، والثامن من شباط الذي أسدل الستار على نظام قاسم وجاء بحكم البعثيين والقوميين والذي في اشهره الأولى قتل المئات ممن اعتبرهم النظام من اتباع قاسم ومن الديمقراطيين والشيوعيين.

اما بالنسبة ليهود العراق فقد أسدل الستار على حقبة قصيرة استمتع بها يهود العراق بدرجة عالية من المساواة. وأصبح من تبقى من يهود العراق (بعد هجرة أغلبهم بين 1950-1952) رهائن بأيدي الأنظمة التي أعقبت حكم قاسم وسلبت منهم ابسط حقوقهم الإنسانية في ارض زرعوها بحبهم وبلد تمسكوا بترابها لآلاف السنين.

حولون - إسرائيل
شباط 2020

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

808 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع