من تراث وفلكلور الأنبار ... الجزء الأول

                                               

                      إعداد: بدري نوئيل يوسف

    

       من تراث وفلكلور الأنبار ... الجزء الأول

على ضفاف الفرات ... النواعير

تمتد على سواحل الفرات القديم بين بلدتي الرمادي وهيت، نواعير عديدة بعجلات خشبية كبيرة الحجم، تزاحم جريان الماء، وتبدو غريبة المنظر ولكنها أية في الإعجاب بشكلها وانتظامها ودقة عملها، وتشكل النواعير في أعالي الفرات جزءاً من ذاكرة وهوية المدن الواقعة على النهر وسكان المدن متمسكين بشدّة بـ بقايا وآثار النواعير الممتدة على جانبي نهر الفرات، وبفعل السنين الطويلة وعوامل التعرية تعرض جزء من دالية النواعير (القواعد الحجرية)، وخاصة في هيت والتي تبلغ من العمر أكثر من 700 سنة.
تشير الأبحاث التاريخية والآثار الى أن العراق هو موطن النواعير الأول، ومنه انتقل الى مدن العالم الأخرى التي تعاني مشكلة الري بسبب ارتفاع أراضيها نسبة الى الأنهار، إن هذه الطريقة التي اخترعها العراقيون القدامى في سقي المزروعات والمغروسات تمتد جذورها إلى اقدم العصور التاريخية، فالتاريخ يرينا أن البابليون القدامى كانوا قد مارسوا هذه الوسائل البدائية في إرواء أراضيهم، ولاتزال تلك القنوات القديمة شاهد على هذه الطريقة من الري التي وجدت أثناء حفريات الآثار، وترينا بأنها كانت العرق النابض لحياة الدول التي عاشت وترعرعت في وادي الرافدين,
ومع ذلك فإن منطقة النواعير محصورة بمسافة قدرها (200 كيلومتر تقريباً، وهي المعروفة باسم “أعالي الفرات” ما بين هيت صعوداً ومدينتي عنه وراوه المتقابلين، وتفسير أسباب قيام النواعير في هذه المنطقة، ارتفاع مستوى الأرض عن سطح ماء النهر، وتيار حركة الماء في نهر الفرات سريعة وقوية، وهو أمر بالغ الأهمية لتدوير عجلة الناعور الثقيل، فكلما حاولت هذه الأمواج الصاخبة أن تقهره وهي في غضبها فلا تقوى عليه.
والناعور هي آلة مائية ذات حركة دائمة معدة لرفع الماء، مؤلفة من أخشاب ومسامير حديدية تغطس بالماء، وجرار خزف فارغة ترتفع الماء وتصبه في قناة ذات قناطر متعددة، وتسقي به البساتين وأكثر الحمامات وبعض الدور والجوامع والخانات والمقاهي.
نهر الفرات أعلى من الأرض المحيطة به والسقي كان يتم سيحاً، ولكن انخفاض الماء التدريجي دفعت سكان المنطقة الى ابتكار أسلوب إروائي يناسب الوضع الجديد، أي ارتفاع مستوى الأرض عن الفرات، وتمثل بإنشاء بالمحطة الحجرية العملاقة (الدالية) ودائرتها الخشبية (الناعور). وقد يظن الإنسان أن النواعير في منظرها أشبهه بقنطرة ريفية مقوسة الأنحاء تمتد على بعد أمتار متساوية وتستند على مراكز حركة فتحمل الماء بجرار صغيرة من الخزف من النهر وإيصاله الى البساتين والأراضي الزراعية لأغراض السقي، وهذه الجرار مربوطة بحبال صنعت من ألياف النخيل. تندفع في الماء بقوة وهي تدور في نظام بدائي محكم فتغوص إلى في عمق النهر وتملأ بالماء وهي في طريقها الدائري ترفعه إلى الأعلى ثم يسكب في الساقية.
الدالية هي البناء الحجري الذي يقام في الماء على ضفة النهر، مهمته حمل الناعور، لا يختلف بناء الدالية عن أي مشروع إروائي تبدأ خطوة العمل الأولى بتوفير أطنان من أحجار الكلس، ومادة النورة البديل القديم عن الأسمنت المقاوم، وتتوقف كمية الأحجار وحجم الدالية إذا كانت مخصصة لناعور واحد أو أكثر، وقد يصل عدد النواعير في بعض المناطق إلى عشرة فوق دالية واحدة.
طريقة بنائها برمي تلك الأحجار عبر مجرى النهر على شكل أكوام، تسير مع اتجاه التيار بعرض مترين تفصل بينهما مسافة مترين أيضا، وبطول يتراوح ما بين 9-10 أمتار، حتى إذا ما ظهرت أسس البناء تبنى فوقها جدران عريضة (1-1,5 متر)، يقوم فوقها بناء أخر اقل سمكاً لكنه أكثر ارتفاعاً، وعلى هيئة عقود مثلثة أو دائرية، وفي قمة العقود يتم بناء الساقية التي تستقبل مياه الناعور وتتولى توزيعها، ويلاحظ أن الساقية تكون شديدة الارتفاع في الجزء المحاذي للناعور، ثم تأخذ في التناقص كلما ابتعدت حتى تصل الى مستوى الأرض عند بلوغها المناطق الزراعية.
تضمن الدالية توفير فتحة في قاعدة البناء تدعى السِيب، تساعد على مرور الماء منها مروراً سريعاً وقوياً يعمل على تدوير الناعور، كما تتضمن بناء ممر ممشى بعرض 60-80 سنتمتراً يستعين به الفلاح للوقوف وإجراء بعض الإصلاحات على الناعور، يضاف الى معمارها الخارجي عنصر جديد يدعى السِكر، وهو حاجز مائي يتكون من وضع عشرات المئات من الصخور فوق بعضها البعض في الماء والى ارتفاع 40 سنتمتراً فوق سطح الماء، يبدأ من جسم الدالية ويمتد في النهر الى مسافة طويلة جداً ووظيفته حجب الماء ودفعه الى فتحة السيب كي يكون جريانه قوياً، وتزداد الحاجة الى السِكر كلما انخفضت مناسيب المياه في الفرات.
أما الناعور ويراد به العجلة الخشبية المزودة بأوانٍ فخارية ومهمته رفع الماء من النهر وإيصاله الى البساتين والأراضي الزراعية لأغراض السقي، ولكن الملاحظ أن اسم الناعور، قد تصدّر الواجهة، وأصبح يعني المفردتين وبذلك تراجع اسم الدالية حتى كاد ينسى.
وبقدر البساطة التي يوحي بها مشهد الناعور، بقدر ما يتضمن من تفاصيل وأسرار صناعية ودقة متناهية في العمل ولعل أول ما يسترعي الانتباه ذلك العدد الهائل من الأشجار التي يلزم توفيرها لإنجازه، فهي تزيد في العادة على (100) شجرة كلها من التوت لما تتميز به جذوعها من خاصية التعامل مع الماء، يتراوح قطر الناعورة بين 10-12 متراً ويتألف المحيط من عجلتين أو طوقين يسمى الخارجي (الظهارة) والداخلي (البطانة) وتتصل بهذا الاطار المزدوج مجموعة عيدان تسمى (الصلبان) كل صليب يمثل نصف القطر، ويتباين عددها على وفق حجم الناعورة، تلتقي كلها عند المحور المركزي الوسطي، وهو عبارة عن جذع شجرة (فحل التوت) يعد أعدادا خاصاً لهذا الغرض، فهو لا يقطع إلا بعد أن تمضي عليه اكثر من (20) سنة كي
يكتسب الصلابة المطلوبة والقدرة على تحمل أثقال الناعورة.
وتطلق على هذا المحور مسميات عدة بحسب المنطقة مثل العابر، العوبر، الجبة، وهو بطول 4-6 أمتار أما قطره فبين 50-60 سنتمترا. ويوضع فوق بناء الدالية عند فتحة السيب ويستند طرفاه على خشبتين تحته من أشجار المشمش أو التوت، وتدعى كل خشبة (السندان) ويجري باستمرار (تزييت) السندانين لمنع احتكاك الخشب وتسريع دوران الناعورة.
ويحتاج الناعور إلى الأربطة والقيود والمسامير الخشبية فان ما هو واضح للعيان يتمثل بالسرايج مفردها سريجة وهي زعانف مصنوعة من سعف النخيل، تلحق بإطار الناعورة لمنحها طاقة حركية أكبر، ويبلغ عددها بين 8-12 سريجة هناك أيضا دلاء الماء الفخارية ذات الشكل الأسطواني، وتسمى الكوز (بضم الكاف وفتح الواو) ومفردها كوز، وهي كلمة عربية، لكن الاسم الشائع لها هو القواقة (ومفردها قوق) وعددها يتوقف على سعة الناعورة.
وتبذل الجهود من أهالي المنطقة إلى إعادة هذا التراث الحضاري والحفاظ عليه وقد أعيد فعلاً (22) ناعوراً الى العمل من جديد في منطقة الحديثة من قبل إصحاب الأراضي الذين تقع النواعير ضمن ممتلكاتهم ومن بينها ستة نواعير في ناحية بروانه فيما تم إعادة ناعور الشاغوفة في (هيت) العمل جارياً لإعادة ناعور آخر على نفس الدالية التي تقع على يسار القلعة الشهيرة وناعور ثالث في منطقة التربة وكان من المنتظر أن يبادر أبناء القرى الى العادة النواعير غير المتضررة دواليبها كثيراً الى العمل في مناطق مختلفة من (هيت).
ما أروع هذه النواعير، إذ تسمع زمجرتها فنشنف الأسماع بنغماتها المتوالية وتراها تحمل حفنات شحيحة من المياه لتصببها في حضائر الحقول الضيقة، تضيع كميات هائلة منه تتساقط في النهر من فتحات تلك الجرار الخزفية الصغيرة، فلا تستفيد الحقول من هذا الماء المحمول إليها إلا القليل، ويحرص الفلاح على هذه الكمية القليلة المياه ويوليها عناية فائقة ويراقب حقله وناعوره ونخلاته بعينيه الحائرتين، وهي تمثل في منظرها صورة رائعة لمعركة عنيفة جرت بينها وبين رمال الصحراء، فخرجت منها وقد أضناها التعب وأرهقها الجهد.
مهما بدت النواعير بدائية الصنع والتركيب، فأنها نثير في النفس الشجون، وتهيج فيها الحي اللاهب المحرق، هذه العجلات البالية التي يعود بها الزمن إلى أقدم العصور التاريخية، تعكس للجميع صورة ناطقة تمثل تلك العصور الخالية في بداية هذه الحياة التي ألفها الفلاح العراقي في زراعة أرضه.
ويمكن أن نستوحي من هذه النواعير آيات تسحر النفس وتستهوى الأفئدة، فهي إذا تدور عجلاتها تدعو
الناس لتصنت شكواها، تسمعهم ألحانا مثيرة من أنينها وتأوهاتها. فتوحي للجميع بما ناءت بحملة الأجيال التي تعاقبت على هذه الأرض من آلام ومصائب ونكبات وتشعر الناظر إليها، بنا قاسته من ظلم على عهد دول وحكومات توالت في حكم البلاد حتى أضناها التعب وأنهكها الإعياء.
كان الظلم والاستعباد والطغيان في تلك العصور المظلمة هي الدعائم التي بنى عليها الأولون مجدهم وعظمتهم، وها هي في خرائبها لم تزل قائمة حتى الآن تصهرها أشعة الشمس، وتذريها الرياح وهي في طريقها للاندثار.
لقد تأثر الناعور بالظروف السياسية وانشغل الناس عنه، وأصابه الإهمال مثلما أصاب جميع المرافق الأثرية والتراثية.. وهو بحاجة الى جهود شعبة من السياحة ورؤساء الوحدات الإدارية ومواطني المحافظة وخاصة ممن يقع هذا الإرث الحضاري ضمن مناطقهم.
والناعور عشق دائم للأرض وحنين لا ينقطع وقد تغزل به الشعراء ووصفوه بالدمع المتناثر وأطلقوا عليه شتى الأسماء.. ومن أكبر النواعير ناعور (جرعة) في الحديثة
وبما أن الناعور يصنع من خشب (التوت) ويصدر أصواتا مختلفة عند دورانه يميزها المزارعون في جلسات سمرهم ويعرفون أن الناعور الفلاني بدأ يحن (أي بعمل) وهذه الصفة غير موجودة في نواعير الآهين في المناطق الأخرى، وقد قال فيه أحد الشعراء قديماً كما تحفظ لنا كتب التأريخ..
وحنانة من غير شوق ولا وجد
يفيض لها دمع لمنتشر العقد
احن إذا حنت وابكي اذا بكت
وليس لنا من ذلك الفعل من ب
ويتناول ابن الرومي (283) ه موضوع الناعور تناولاً مختلفاً، فهو يلجأ إلى الوصف مستخدماً بعض معطيات العلم والفن، ويشتق ابن الرومي من لفظة الناعور صوتاً لها، فهي تنعر بالماء إذا أخرجت صوتاً. يقول:
كم صوّبت فيه سماريةٌ * موجفةٌ كالنقنق النافرِ
ونعرتْ بالماء ناعورة * حنينُها كالبَرْبَط الناعر
كأنما كيزانُها أنجمٌ * دائرةٌ في فلك دائر
ولابن الرومي في الناعورة بيتان مفردان قائمان على التشبيه فحسب، وكأنما اصطنعهما اصطناعاً للتدليل على مقدرته البيانية، وقد وردا في ديوانه يقول:
وناعورة شبّهتُها حين أُلبست * من الشمس ثوباً فوقَ أثوابها الخُضر
بطاووسِ بستانٍ يدور وينجلي * وينفضُّ عن أرياشه بَللُ القطْر
المصادر:
مجلة الشبكة العراقية: الدالية العراقية… أول محطة ري في التاريخ.
الحاج نجاح الهيتي في مؤلفه الموسوم (شذرات من تراث هيت).
نواعير الفرات للصحفي الهولندي ماليبارد

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

750 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع