التاريخ ووهم القداسة

                                                 

                            قاسم محمد داود

التاريخ ووهم القداسة

تأريخ مجتمع ما هو الذاكرة الجمعية لهذا المجتمع وهو الذي يشكل الخطوط العريضة لثقافة وشخصية هذا المجتمع وذلك عندما يستقي أفراده الحد الأدنى من تشابههم الثقافي من هذه الذاكرة. ويتحول التاريخ الى لعنة عندما لا نقرأ منه سوى الصراع من أجل السلطة وحروب الحكام المغطاة كذباً بغطاء الدين وعندما تُستغل أحداثه ووقائعه في صياغة وعي تأريخي مغلوط من شأنه ان يكون سبباً مباشر أو غير مباشر لعديد من المشاكل والصراعات في واقعنا الحاضر، والمجتمع المتخلف الذي يلتحم عنده المستقبل بالحاضر بالماضي، ويصبح المستقبل والحاضر مرهونان بالماضي. يصبح هذا المجتمع مجتمعاً ينظر للخلف كي يخطو للأمام أي انه مجتمع يسير بظهره للأمام وبهذا يكون عرضة للسقوط وعلى أقل تقدير يسير ببطيء كي يتجنب السقوط قدر المستطاع. لذلك يصبح المستقبل شبه معدوم عندما يميل الناس الى العيش بالماضي أكثر من الحاضر، ويمكن القول ان المجتمع المتخلف يتعامل مع التاريخ ويقرأه بهذا الشكل:
--- التعامل بانتقائية لحوادث التاريخ بمعنى أن يتفق فقط على نسيان ما لا يريد أن يتذكره في حين أن نفس المجتمع يختلف في ما يريد ان يتذكره ومن هنا نستطيع ان نفسر لماذا صار تاريخنا مشوهاً ومبتوراً أو لا يتسق مع بعضه كأن نقرأ عن حادثة جرت في مرحلة ما من مراحله فنجد روايتين او اكثر لنفس الحادثة ولكن بشكل مختلف. فهناك من يتحدث عن التاريخ يخيل أليك انهم يتحدثون عن تاريخ ملائكي وان شخوص واحداث هذا التاريخ كائنات فوق بشرية وكل ما يروى عنهم مليء بالمثاليات واسباغ هالة من القدسية وحذف كل ما يعتقد أنه لا يتناسب مع هذه القدسية شخوصاً وزمان. أي انهم يستحضرون الماضي وفق مشيئة الخرافة، فيتحول التاريخ الى مجموعة من الأكاذيب والاساطير والخرافات التي تتقبلها العقول الضحلة كمنقذ لها من واقع بائس ومتردي، كما أن استحضار التاريخ بهذه الطريقة يؤدي الى الاغتراب عن العصر وعجز عن دخول الحداثة ومواكبة العالم. لأن عرض التاريخ بصورة مثالية انتقائية وحذف السلبيات يخلق " جيل جاهل بتأريخه سيستسلم عند أول مواجهة مع الحقائق". هذا بالإضافة الى تشويه ذهن المتلقي بأخبار مجتزئة ومغلفة بثوب القداسة. وهذا يعني الحرمان من معرفة التاريخ وأخذ الدروس والعبر من أحداثه. وأيضاً عدم التعامل مع الاحداث وتحليلها بعمق ومنهجية والتعرف على العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وغيرها التي ساهمت فيها، وبالتالي فإن الأخطاء التي حدثت من الممكن أن تتكرر.
--- ولأن الماضي حصن وملاذ من لا حاضر ولا مستقبل له، لذلك يقدس المجتمع المتخلف الماضي حتى يُقدس الذي لم يكن مقدساً في وقتهِ، أن المجتمع الذي يسبغ القداسة على تأريخه بكليته يحكم او يقر بأن حاضره عاجز عن التطور والتقدم لكي يصل ما وصل اليه هذا التاريخ المقدس، ثم أن أي نقد لهذا التاريخ يعني مساس بالمقدس ويستوجب العقاب. وعليه يعتبر ما تحقق في الماضي هو مشروع نهوض المجتمع في المستقبل ويقرأ المستقبل بواسطة الماضي أي إعادة الماضي كما كان وليس ما يجب ان يكون الحاضر بالاستعانة بالعبر من ذلك الماضي، وتضيع حقائق التاريخ وسط ركام الروايات التي تقدس أشخاصاً بعينهم لا يأتيهم الباطل من أمامهم ولا من خلفهم لأنهم منصورون بعون السماء، وبالتالي فهم أرفع مقاماً من البشر العاديين، ولا يحق لمخلوق أن يوجه حتى سؤال عن صحة الأفعال والبطولات المنسوبة لهم، فالسؤال أول درجات الشك وهم فوق الشكوك. واللافت في هذه المجتمعات عند ازدياد العوامل المهددة لأمنها كالمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تتسع لديها دائرة التقديس لتشمل ما لم يكن مقدساً في عصور سابقة وتزيد درجة التقديس لما كان مقدساً بدرجة أقل في الماضي. أن فهم الماضي وشخصياته بهذا الشكل يمثل توجه خطير لغرس الخرافة والجهل في نفوس البسطاء من الناس تحت مسميات كثيرة وذلك لأن أسس هذا التوجه تعتمد على الغيب والخيال وليس على الواقع والوثائق، ودون دليل بحثي علمي بالإضافة الى إحداث خلط كبير بين الواقع والخيال وبين الحقيقة والرمز في نفوس البسطاء، وتمنح بالمقابل أصحاب هذا التوجه السيطرة التامة عليهم وتسييرهم حسب الرغبة لاستغلالهم من اجل مصالح شخصية وفئوية، كما" أن غرز الخرافة في النفوس يثبط الهمم ويرخي العزائم ويخلط الحق بالباطل ويفصل الانسان عن الواقع وعن الاخذ بأسبابه وعن التسلح بالعلم والسعي وراء العمل الجاد" واللحاق بركب الإنسانية المتطور والمساهمة فيه بدل العيش في الحاضر ولكن بعقلية القرون الغابرة والتغني بأمجاد السلف الصالح. --- في المجتمع المتقدم يتعامل الانسان مع التاريخ بكونه تاريخ فقط يُدرس ويناقش وفق هذا الاعتبار، أما في المجتمع المتخلف فأن الانسان يعيش مع التاريخ حاضراً واقعياً ويتلازم معه تلازماً يومياً فيصبح جزءاً من حياته يمسي ويصبح عليه، لذلك يسحب الماضي الى الحاضر ويرتبط معه وجودياً وعاطفياً ويجعله مقياساً للكثير من نواحي الحياة اليومية لدرجة البحث عن وسائل وطرق للانتقام والثأر لحوادث حصلت في عمق التاريخ وقد يُحمّل معاصريه من فئات مجتمعه المسؤولية عن تلك الوقائع والأحداث ثم يثأر منهم ضناً منه أنه انتقام لتلك الوقائع التاريخية وثأراً لشخوصها. ولأن الامية والجهل هي السمة الغالبة في المجتمع يعتمد الانسان على الأفكار الجاهزة التي تقدم له دون تحليل او تحقيق ويفوته ان الكثير من الذي ورد في التاريخ ما هو إلا أوهام سيطرت على العقول مع أنها ليست حقيقية أو ان بها بعض من الحقيقة ولكن ِزيدَ عليها الكثير لغايات واغراض متعددة وأضاف تداولها على مر السنين أليها الكثير من الاوهام ما جعلها اقرب الى الاساطير من الحقيقة، فعندما تنغلق السبل امام التطور والتقدم ويصبح التخلف سمة عامة للمجتمع يبدأ الناس بالبحث في زوايا ومغاور التاريخ المظلمة عن حدث او واقعة ما لكي يستعيدوها وينسجون حولها القصص والاساطير تعويضاً عن الشعور بالضعف والانكسار نتيجة لحال التردي الذي يعيشه المجتمع، وأنا على يقين ان السابقين لم تكن نظرتهم لأنفسهم وللعالم الذي كان من حولهم لا علاقة لها بنظرتنا نحن في عصرنا الحاضر لأنفسنا وللعالم من حولنا، حيث تتسارع خطاه نحو التقدم ونحن لا زلنا نراوح في مكاننا نعيد ونصقل قصص بطولات الأجداد وشخصياتهم الأسطورية، ولا علاقة لنا بالحاضر سوى استهلاك منتجات الأمم الأخرى غير مدركين للزمن المهدور من أعمارنا ومستقبل اجيالنا الذين نزرع بأدمغتهم الأوهام التي زُرعت في نفوسنا، وكذلك من مستقبل اوطاننا.
سوف نخرج من سياق التاريخ الإنساني اذا لم يتغير فهمنا لتأريخنا الذي اسبغنا عليه القداسة وأحطناه بالمثالية من كل جانب بحيث يصعب على الباحث نقده او التشكيك بقداسته ناسين ومتناسين إن التاريخ صنعه البشر وكتبه بشر يحبون ويكرهون، كما أنه معين لا ينضب من الدروس والعبر، وكل ما حدث ويحدث وسيحدث في العالم صار ويصير وسيصير جزءاً من التاريخ.
--- في المجتمع المتخلف ينظر للتاريخ من خلال رؤى دينية أو مذهبية وأحياناً كونه ناتج بطولات فردية. وفي كل الأحوال يجري تغليب العناية الآلهية في تفسير وقائع وأحاث التاريخ على حساب كونه فعاليات بشرية صنعها بشر عاديون. لقد خلق هذا الخلط بين الدين والماضي عقلية غير قادرة على توجيه أي نقد لأي جانب من جوانب التاريخ أذا ما كان على تماس مع الدين معتقدة أن أي نوع من أنواع النقد في هذا الشأن هو خطيئة تستوجب العقاب يوم الحساب، وبالتالي يتحول التاريخ الى جزء من الدين ثم يبدأ افراد المجتمع يعيشون هذا التاريخ بتفاصيله أكثر من عيشهم الدين نفسه، ونتيجة لذلك تترسخ القناعة بعدم قدرة الحاضر على أنتاج شخوص وعقول توازي شخوص وعقول ظهرت في الماضي قبل مئات السنين فيتوقف الزمن في هذا المجتمع عند زمن مضى بعينه فتتجمد الحياة عبر فرض "سلطان الماضي / حكم الأموات على الأحياء والحاضر".
ان تطور وتقدم المجتمع يتطلب من بين متطلبات أخرى، ان يُفهم بأن التاريخ ومهما كان بسيطاً او عظيماً شأن بشري صانعوه بشر، ومحتواه الفكري من علم وآداب وغير ذلك نتاج بشري لذا فأنه، يحمل طابع النقص، ولا يمكن اعتباره وبكل الأحوال مقياساً كافياً لتقييم وتقويم الحاضر، لأن هذا يعني قتل الحاضر بجميع مفرداته فكراً وسلوكاً، وإيقاف حركة الزمن، ولذا فأن مكان التاريخ هو الاستفادة والاحترام وأخذ العبر منه، وليس التقديس.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

860 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع