ديمتري شوستاكوفيتش وسمفونية لينينغراد

                                                  

                               ضرغام الدباغ

       

          

ديمتري شوستاكوفيتش وسمفونية لينينغراد

المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


دراسات ـ إعلام ـ معلومات

العدد : 143
التاريخ : / 2019

تعرفت مبكراً على الموسيقار السوفيتي الكبير ديمتري شوستاكوفيتش (Dimetrij Shostakovich) المولود في 1906 في مدينة لينيغراد، والمتوفي عام 1975 في موسكو. وتعرفي الأول كان من خلال المقدمة الموسيقية القوية لنشرة الأخبار من إذاعة القاهرة المستلة من سيمفونية "لينينغراد"، وتلك كانت مقدمة تنبئك أنك سوف تستمع إلى أشياء حاسمة، وهذا (المقطع) كان موقعه في سياق السيمفونية الهائلة التي اشتغلها هذا الموهوب أبان حصار مدينته البطولي، والتي دفعت ثمن صمودها 2 مليون قتيل من القصف الهتلري النازي ومن أسهال الجوع الذي كان قد أصاب الناس لقلة الموارد. يضعها الموسيقار في نوتات :

" قرع طبول .. وتصاعد لهيب وذروة صعبة.. جاء الرد.. أنتبهوا .. أسمعوا ... ويأتي رد الشعب ساحقاً ماحقاً، ينهض مئات الألوف من بين الركام من بين الجثث، وحطام العجلات والآليات، يصرخون بوجه المعتدي بصرختهم التقليدية ... هورا ... النصر أو الموت .. وراءنا الوطن .. فينكفئ الغزاة هاربين.. " كيف لا تهز هذه الصور وجدان شوستاكوفيتش فيضعها في سمفونيته السابعة الخالدة، التي يخشاها الغزاة ..

سمفونية لينينغراد كانت السابعة في تسلسل 15 سمفونية أنتجها، ولكن لينينغراد ربطته نهائياً بهذا الوطن السوفيتي كانت ولادته هنا، وعاش الموت الذي كان يهطل في سماء المدينة وعانق نصرها التاريخي، شوستاكوفيتش الذي كان قد أغضب السلطات الثقافية السوفيتية بمواقفه حيال العمليات الثورية الحاسمة التي كانت تدور في الاتحاد السوفيتي، ولكن الوطن السوفيتي عندما أصبح في خطر كان شوستاكوفيتش مع المدافعين عنه، ورفض الإجلاء من المدينة، إلا بعد إلحاح كبير من زوجته والسلطة أيضاً.

عام 1941، استوحى شوستاكوفيتش من الغزو الألماني لروسيا مؤلفه "السمفونية السابعة "، والتي كانت بعنوان "لينينغراد". وقد حظي هذا العمل بقبولٍ وتقدير في جميع أنحاء العالم، كما ظهرت صورته على غلاف مجلة تايمز.

كانت هذه ذكريات أول العمر ...

ثم أني في زيارتي الأولى للأتحاد السوفيتي عام 1971، لم أجد صعوبة قط في العثور على أعمال شوستاكوفيتش، ومنها سمفونية لينينغراد، وبالطبع أصبحت من بين أهم الأعمال التي اعتز بها في مكتبتي الموسيقية. وبدا لي أن شوستاكوفيتش هو من موسيقي النخب مثله مثل فيفالدي، وبيزية، وبرامز و، فهو ليس معروفاً على نطاق واسع كبتهوفن وموزارت، وحتى تشايكوفسكي.

أيام دراستي في ألمانيا، كنت أسكن في مدينة برلين وأدرس في جامعة لايبزغ، وتمكنت من تأمين متطلبات التنقل السريع بين المدينتين بسهولة ويسر، وكنت أسهر الليل بطولة في الدراسة، وأغادر البيت حوالي الظهر لقضاء متطلبات البوم، وبينما كنت على وشك الخروج من الشقة، كان التلفاز مفتوحاً، وألقيت نظرة لأشاهد ما الأمر " كان التلفاز قد بدأ من لحظات بعرض الفلم السوفيتي " لينينغراد "، فأدركت أني يجب أن أتخلى عن فكرة خروجي.

المدينة تمطر سماؤها النار واللهب وتقتل البشر ونهدم الحجر ولا تبقي للحياة من أثر. المقاتلون في الخنادق لا تغمض عيونهم، ببطون خاوية بفعل حصار مجرم للمدينة، حصار يقتل الطفل والمريض والشيخ قبل الجندي، الأشجار تتكسر، الحيوانات تنفق، البشر ينالهم الجوع، فيموتون هزالاً، ولكنهم لا يستسلمون فورائهم الوطن.

إدارة الفرقة السيمفونية للمدينة تقرر عرض رائعة ديمتري شوستاكوفيتش " لينينغراد" التي كان قد أنجزها تواً، ولكن أين العازفين ... معظمهم ولا سيما الشبان منهم في الخدمة العسكرية، بعضهم في مواقع الدفاع عن حدود المدينة، آخرون في أسراب الطيران، بل وأحدهم يعمل في اسطول الغواصات.

لم تكن صعوبة لتحد من طوح قائد الفرقة الموسيقية عن القتال مع أبناء المدينة، كتب البرقيات يطلب فيها العازفين بمهمة رسمية، استحصل الموافقات عليها، أحد العازفين وصل بأعجوبة بطائرة قذفته بالمظلة، وغواصة أوصلت عازفاً آخر، وآخرون بعضهم جاء زحفاً، وآخرون جازفوا بحياتهم، الجميع يعلم أنها مهمة وطنية عالية، لينينغراد عاصمة الثورة العمالية الأولى في العالم تحت القصف، الفاشست يريدون إبادتها، وها هي تنهض من بيم الركام وترد إنسانياً بفن جميل راق لا يعلو عليه صوت القنابل والمدفعية والقصف، الكل حضروا بأنضباط تام، دبروا الملابس الرسمية للفرقة العازفة بأساليب غريبة، المهم أن يخرجوا على المسرح يما يليق بالمدينة البطلة، وقفوا يحيون الجمهور بأدب جم وتواضع، الراديو ينقل وقائع الحفل ومكبرات الصوت تذيع في الساحات والميادين لمن لم يحضر وقائع سمفونية لينينغراد انشودة صمود الشعب البطل .

الجندي في خندقه، سائق الحافلة، الشعب لم يكن يريد الانصراف الكل يستمع إلى الروعة المذهلة الثلج يغطي كل شيئ إلا القلوب العامرة بحب الوطن .. يجن جنون الفاشست ينهالون بالقصف على المدينة الاسطورة، ولكن العزف يتواصل ليتصاعد التصميم للمدافعين وتلوح الهزيمة للمعتدين، ولست أبالغ بالقول أن هذه السمفونية كانت من عوامل صمود لينينغراد.

عندما أنتهى الفلم في التلفاز كنت خارج الزمن ولا أدري ما أفعل، كنت مرتدياً معطفي أريد الخروج ومفتاح السيارة بيدي، ومازلت مرتدياً المعطف والمفتاح بيدي وفكري يحلق في سموات بعيدة وعالية.

هنا الفرق بين أن تشاهد فلماً تنسى أسمه في اليوم التالي، وبين أن تشاهد فلماً عام 1980 ويبقى في ذاكرتك 38 عاماً ما زالت أحداثه ماثلة أمامي.

فيما بعد، حين درست في أوريا وتعرفت على الكلاسيكيات، وأشبعت نهمي الموسيقي قرأت كلاماً كبيراً ونصاً مدهشاً " يعد ديمتري شوستاكوفيتش جنباً إلى جنب مع سترافينسكي أعظم المؤلفين السوفييت في القرن العشرين، وتعتبر سمفونياته الخمس عشرة، ومعزوفاته الخمس عشرة للوتريات بين أفضل ما ألفه بني البشر من الموسيقى في القرن العشرين ".

رابط الاستماع لسمفونية لينينغراد

https://www.youtube.com/watch?v=vRHZu5xoIe0

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

746 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع