قصة قصيرة / بحضرة فرانز كافكا

                                            

                    سيف شمس الدين الالوسي

قصة قصيرة / بحضرة فرانز كافكا

تقدمت بخطى مرتجفة يؤمها الوله والرهبة من رؤية عظيم نائم على وسادة من تراب ملتحفاً الثرى، تساءلت كيف لي أن اكون بحضرته دون السقوط في زنزانة محاكمته ؟ فقلت :
--- ليكن الأمر كما هو ولأقف أمامه بصمت دون حراك حتى يأذن لي بالكلام.
دخلت مقبرة اليهود في براغ 3، وسألت القيّم عليها أين قبره ؟ فأجابي دون أن يقول عن أي قبر تبحث، لقد عرف مسبقاً إني أقصده دون الآف القبور التي تحيط به.
--- هناك أمامك مباشرة بنهاية قطاع 21، تجده هناك.
لقد أوشكت الوصول اليه وكلما اِقتربت كلما تسارعت ضربات قلبي حتى أصبحت شبيهة بطبول المعارك. يا له من مشهد لم أكن اتوقعه في يوم ما، عندما كنت اَقرأ مسخه ومحاكمته كنت جالساً حينها أمام ناعور قريتي التي بالكاد لم يسمع عنها أحد.
اِنتفض القبر حالما طال صمتي ورجفت أوراق الأشجار وطارت العصافير وكأن جيشاً قد دخل غابة منسية لا تطالها أقدام بشر حتى عمت السكينة فيها. سمعت خشخشة صوت تخرج من بين ذرات الثرى وكأن هذا الصوت لم يعتد على الكلام منذ زمن سحيق حتى باتت أوتاره صدئة ومتهالكة. أعلن قائلا :
--- من دلك علي ؟ وكيف عرفتي ؟
--- وهل هناك شخص لا يعرفك ؟ الجميع يقصدوك ويقرؤوك، كنت منسياً لكن بعد الحرب الثانية ظهرت كنجم قطبي حتى أصبحت قبلة الأديب.
--- ومن أين طريقك ؟
--- طريقي ! طريقي أطول من طريق الحرير وأكثر إقفاراً من طريق البخور. أنا من أرض لعنت أبنائها ونفتهم خارج سورها ومن تمسك بها بلعته دون رحمة.
--- تقصد من أرض الثورات والحضارات، من نفس الأرض التي نفت جدنا ولفضته بعيداً.
--- خرجت من أرض مُسِخت الى غول بشع يريد إلتهامنا. عن أرض قد ضاقت بأبنائها، جئتك من قرية لا حياة فيها، لكني عرفتك منذ صغري، لو لم يقتلك ذلك السل اللعين لوجدت إسمك كيف أصبح.
--- لو لم يقتلني ذلك السل لقُتِلتُ حرقاً.
--- أنظر ! هناك حشرة متدلية على شاهدة قبرك .
--- دعها، هي ما زالت منذ قرن من الزمن.
--- هذا مسخك الذي خلقته ؟
--- هذه الدنيا التي انجبتنا وأحرقتنا.
--- أما زلت تكتب ؟
--- لا، فضلت الصمت عليها.
--- ألم تقل لنا يوما : أن الكتابة كالفأس الحاد تشق البحر المتجمد داخلنا لتغرز بذور الحياة ؟
--- حتى هذه قد وصلت ألى قريتك الصغيرة ؟
--- الحشرة المتدلية على شاهدة قبرك هي التي أوصلت إلينا كل ما قلته. إنظر إنه متدلياً على شاهدة قبرك ؟
--- دعه ! هو هنا منذ أن وضعوا تلك الصخة فوق رأسي.
--- لماذا خلقته ؟
--- كان لا بد من ذلك، فالحياة أشبه بتنين قد ينفث ناره ليحرق الجميع.
--- سأرحل لكن لن أعود لقريتي، سأكون منفياً عن تلك الأرض التي لم ترغب أن أعيش عليها.
--- عش أينما تريد فالثرى بكل مكان، لكن كل ما عليك هو أن تطفئ كلما وجدت محرقة مستعرة، فما زال الكثير منها، فلتكن هذه رسالتك.
--- الوداع.
براغ / التشيك

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

456 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع