نوري السعيد والعنف السياسي في العراق

                                              

                    الدكتور مليح صالح شكر

 نوري السعيد والعنف السياسي في العراق

شاعت في السنوات الاخيرة ظاهرة دخول من لا دراية مباشرة لديه ، في أحداث كانت قد مرت في تاريخ العراق قبل سنوات عديدة .

يقول البعض ان الفوضى العامة التي أثارها الاحتلال الامريكي للعراق ، والاختلال ، الذي زعزع المجتمع والثقافة والسياسة هو الطريق الذي سارت فيه هذه المحاولات التي تفكر انها لوحدها تحتكر حقيقة احداث تاريخية سياسية كانت أم صحفية ، أو انها جزء من محاولات إلغاء احداث هامة من التاريخ العراقي وحصره بأنانية وضغينة وانتهازية بالثلاثين عاماً التي سبقت الاحتلال فقط.

والخلل الذي أنتج الفساد الحكومي بكل أنواعه ، وأسفر أيضاً عن فساد ذمم بعض ما خلفه الاحتلال من سياسيين وإداريين وكتبة، ولا ارغب ان أقول وكذلك ( صحفيين)!

ولا أعتقد أن المرء بحاجة للترويج لطرف ما لمجرد أنه يعارض تدخل طرف آخر منافس في شؤون بلاده الداخلية، ولاحظنا ذلك في تهافت البعض على مدح الرئيس التركي اردوغان ، والترويج للدولة العثمانية، والترحم على استبداد سلاطينهم.،

ولكي لا يفسر القارىء. قولي بشكل خاطىء ، أقول أن أستبداد الدولة العثمانية وسلاطينها لا يقل سوءً عن استبداد الدولة الفارسية وأمبراطوريها السابقين والحاليين .

وكلاهما فارس وآل عثمان له أطماع في العراق وتقاتلا تاريخيا على الاراضي العراقية .

########

كذلك تفيض شبكات التواصل الاجتماعي بمقالات ساذجة لتقديس هذا الشخص او ذاك لمجرد أن الموجود في سدة الحكم ببلاده لا قيمة له ، وأوصل البلاد والعباد الى الخراب .

يحصل مثل هذا الخراب في حالة العراق بعد سنوات الضيم والقتل والأقتتال والخطف والتزوير وسرقة المال العام والفساد الاداري والمالي والسياسي التي أعقبت أحتلال القوات الامريكية في نيسان عام ٢٠٠٣، وما أنتجه ذلك الاحتلال البغيض من سوء ادارة وطائفية وظلم وفساد وتشويه في جميع أركان البلاد التي اطاح الاحتلال بالدولة كلها ، وليس بالنظام السياسي الذي كان قائماً قبل نيسان ٢٠٠٣.

أصبح من تلطخت يداه بدماء العراقيين، شيوعيين وبعثيين وناصرين ومستقلين وسياسيين من جميع الاتجاهات ، بطلاً مغواراً ومناضلاً صنديداً . وراح البعض يعتبر ناظم كزار بريئاً من الدماء التي أسالها خلال هيمنته وبدعم مراجعه الحكومية والسياسية المطلق .

ليس هذا فقط، بل أن نوري السعيد أصبح مسكيناً (اغتالوه) يوم ١٥ تموز ١٩٥٨ بعد يوم واحد من قيام النظام الجمهوري الذي حملوه كل مساوىء السنوات التي اعقبت ذلك اليوم المجيد في تاريخ العراق.

وليس ذلك فقط، بل يتباكى هذا أو ذاك على مقتل الملك فيصل الثاني ويحملون ضباط الثورة المسؤولية دون ان يتطرقوا الى أن رعونة الوصي على العرش عبد الاله هي التي اوصلت العراق الى ما حدث آنذاك ، وهو المسؤول الاول والأخير لما آل إليه مصير فيصل وبقية العائلة.

التاريخ ليس مطية يركبها من يشاء ، ولن يغفر التاريخ للأمير الخال عبد الاله ولا لنوري (باشا) السعيد ما أقترفاه من مساوىء ومتاعب هي التي كانت الأسس التي بني العنف عليها فيما بعد.

والمصيبة أن بعض الكتابات تعتبر نوري السعيد قديساً ، دون ان تلتفت الى الجزء الأهم من حياته السياسية التي اعتمدت على التنكيل بأعدائه ، وبأعداء أسلوبه في ادارة الدولة ، حتى أتضح خطأ شعاره بأن ( دار السيد مأمونة)!

كانت الدولة العراقية قد نشأت تواً ، ووقعت عام ١٩٢٤ أول حادثة اغتيال سياسي في تاريخ العراق ، لم يكن نوري السعيد بعيداً عن الضلوع فيها .

عاد توفيق عبد القادر الخالدي إلى العراق بعد الحرب العالمية الأولى , وكان من دعاة أختيار شخص عراقي لحكم العراق , ورشح في أحاديثه طالب النقيب ليكون أول رئيس للجمهورية , إذ كانا هو والنقيب من دعاة قيام نظام جمهوري في العراق , لكن تلك الدعوة تعرضت للفشل حينما نفى الإنكليز طالب النقيب عام ١٩٢١ إلى خارج العراق وحاولوا إحتواء الخالدي بتعينه وزيراً للداخلية في وزارة عبد الرحمن النقيب الثانية للفترة من نيسان حتى آب ١٩٢٢ ، وعلى الرغم من ان الملك فيصل الاول لم يكنْ يكنُ وداً للخالدي بسبب علاقاته الوثيقة مع المندوب السامي هنري دوبس ، ودار الاعتماد البريطاني، وكلاهما لا يود الملك فيصل بل ان الملك كان منزعجاً من أصطحاب المندوب السامي للخالدي بسيارته في جولة ببغداد ويحضر ولائمه ، في مزرعته بالدورة ، ثم أصبح الخالدي وزيراً للعدلية في حكومة النقيب الثالثة التي تألفت يوم ٣٠ أيلول ١٩٢٢ وأستمرت حتى يوم ١٦ تشرين الثاني ١٩٢٢. وفي الوقت نفسه كان نوري السعيد هو الآخر يتخوف من تنامي نفوذ الخالدي وقلقه من ان يختار الإنكليز الخالدي حليفاً بدلاً منه .

                              

                             طالب النقيب

وبينما كانت انتخابات المجلس التأسيسي العراقي تجري في عهد وزارة جعفر العسكري الأولى المشكلة يوم ٢٦ تشرين ثاني ١٩٢٣ تم اغتيال الخالدي حينما كان عائداً إلى داره في محلة جديد حسن باشا مساء يوم الجمعة ٢٢ شباط ١٩٢٤ وأرداه الجاني بعدة عيارات نارية قتيلاً، وهرب ، وسجلت ضد مجهول! واتضح فيما بعد انه عبد الله سرية.
وقيل ان الملك قرر التخلص من الخالدي قبل استفحال خطر دعوته لأقامة النظام الجمهوري، برئاسة شخص عراقي ، واتـفق لذلك مع نوري السعيد وجعفر العسكري.
وإذا إنتقلنا الى السنوات القليلة الاولى بعد انتهاء الانتداب البريطاني في ٢ تشرين الاول ١٩٣٢، نجد أن العراق غرق في تمرد الاثوريين ،والمذبحة التي نفذها فيهم قائد عسكري سيقود بعد سنوات اول انقلاب عسكري ، وهو الفريق بكر صدقي.
كما تداول السياسيون ورجال الحكومة استخدام العشائر في جنوب العراق ضد بعضهم البعض الآخر. ففي بداية عهد الملك غازي ، تصارع كبار السياسيين ، رشيد عالي الكيلاني وحكمت سليمان ونوري السعيد وياسين الهاشمي وجميل المدفعي ، وأستغلوا بعض الاقطاعيين وشيوخ العشائر وأقحموهم في السياسة وزعزعة الاستقرار ، فتشكلت اربع وزارات خلال سنتين، حتى بدأت الأمور تستقر نسبياً بحكومة ياسين الهاشمي المشكلة في ١٧اذار عام ١٩٣٥ والتي اطاح بها أول أنقلاب عسكري في تاريخ العراق يوم ٣٠ تشرين الاول عام ١٩٣٦ وكان انقلاباً دامياً .
فقد أغتال صغار الضباط باوامر قائد الانقلاب الفريق بكر صدقي ، مؤسس الجيش العراقي وزير الدفاع حينئذ الفريق جعفر العسكري. وبعد حين دفع الفريق بكر صدقي حياته ثمناً لمغامرته العسكرية ، واطلق نائب العريف عبد الله التلعفري النار عليه في الموصل فقتله في الحال، ثم أقدم على إطلاق النار على قائد القوة الجوية وقتله هو آلآخر.
وفِي ١٨ كانون الثاني عام ١٩٤٠ ضرب العنف السياسي مرة أخرى أركان الدولة الفتية ، حينما داهم قاتل ، مكتب وزير المالية رستم حيدر وأطلق النار عليه وأصابه بجروح خطيرة نقل على أثرها إلى المستشفى، حيث فارق الحياة بعد أربعة أيام ، وقد تم اعتقال القاتل.
وحاول نوري السعيد استغلال الجريمة للنيل من خصومه ، فأتهمهم بالتحريض على القتل واعتقلت سلطاته الوزيرين السابقين صبيح نجيب وأبراهيم كمال والمحاميين المعروفين نجيب الراوي وشفيق السعيدي وغيرهم بتهمة التحريض على قتل الوزير.
وقام نوري السعيد بمقابلة القاتل مفوض الشرطة حسين فوزي توفيق في السجن وضغط عليه، ووعده بالتخفيف عنه إن أعترف بأن صبيح نجيب، وإبراهيم كمال قد حرضاه على قتل رستم حيدر.
أثار تصرف نوري السعيد هذا حفيظة العديد من رؤساء الوزارات والوزراء السابقين، بالإضافة إلى وزير الداخلية ناجي شوكت بعد أن أيقنوا أن رئيس الوزراء يرمي الى استخدام جريمة قتل الوزير رستم حيدر لتصفية عدد من خصومه السياسيين، وأشتكى ناجي السويدي، وجميل المدفعي، وتوفيق السويدي، وكلهم من رؤساء الوزارات السابقين لدى البلاط الملكي من تصرفات السعيد الذي واصل غيه بأحالةالمعتقلين إلى المجلس العرفي العسكري لمحاكمتهم بتهمة التحريض، إلا أن وزير الخارجية علي جودت الأيوبي ووزير المواصلات والأشغال جلال بابان عارضا ذلك مطالبين بإحالة القضية إلى محكمة مدنية، وهدد وزير العدلية محمود صبحي الدفتري بالاستقالة إذا ما مضى السعيد بخططه، وقد أيد موقف الوزير اثنان آخران من الوزراء، وبذلك فشلت مساعي نوري السعيد ولم ينجح في مكرهِ ، فأصبح من المتعذر عليه الاستمرار في الحكم فقدم استقالة حكومته في ١٨ شباط ١٩٤٠.
ويجمع المؤرخون والباحثون في تاريخ العراق من حملة شهادات الدكتوراه من الجامعات العراقية والمصرية والبريطانية والسوفيتية والأمريكية وغيرها على ان مصرع الملك غازي يوم الأربعاء ٤ نيسان ١٩٣٩ كان مؤامرة لعب فيها عبد الاله ونوري دوراً حاسماً.
وعلينا ان نتذكر ان الامير عبد الاله لم يكن في ذلك اليوم يحمل الجنسية العراقية بالرغم مع انه شقيق الملكة عالية زوجة الملك غازي ، بل بقي محافظاً على جنسيته الحجازية حتى أغروه بعرش العراق بعد مصرع الملك غازي، فقبل أن يتجنس بالجنسية العراقية!

      

                شهادة جنسية الوصي عبد الاله

وبهذه الوثيقة أصبح عبد الاله وفوراً الحاكم الأوحد للعراق بصفته وصياً على الملك الجديد، الطفل فيصل الثاني ، ورافق نوري السعيد في جميع إجراءاته وخطواته وسياساته اللاحقة حتى مصرعهما في تموز عام ١٩٥٨.

لم تمض سوى ٢٢ شهراً على تجنيسه،حتى جرت في العراق أحداث ما يعرف تاريخياً بثورة مايس ١٩٤١ حينما انتفض العراقيون وقيادات عسكرية وسياسية على النفوذ البريطاني البغيض، وهرب نوري بطائرة بريطانية الى مصر، بينما هرب عبد الاله الى بارجة بريطانية ترسو في شط العرب ثم انتقل الى شرقي الاردن.

وأجهضت القوات البريطانية الثورة أو الانتفاضة ، بالهجوم براً وجواً وبحراً على العراق فأحتلته للمرة الثانية في أواخر شهر مايس ١٩٤١ ، وهرب قادتها السياسيين والمدنيين الى ايران او الى أوروبا ومنهم من قضى عدة سنوات في المانيا، ولكن الذراع البريطانية وصلت للعديد منهم واستقدمتهم من ايران، وارسلت بعضهم الى منصات الإعدام شنقاً ، ونفت آخرين ومنهم صحفيين الى روديسيا ، بينما فتحت معسكراً للمعتقلين في ضواحي مدينة العمارة جنوبي العراق لآخرين .

    

الملك فيصل الثاني ويتبعه كظله خاله الامير عبد الاله ثم نوري السعيد

والادلة التاريخية كثيرة على إصرار الوصي عبد الاله، الذي أصبح عراقياً قبل ثلاث سنوات فقط على تعليق جثة العقيد الركن صلاح الدين الصّباغ احد قادة الانتفاضة امام بوابة وزارة الدفاع في باب المعظم نهاراً كاملاً لكي يخيف ضباط الجيش العراقي، وقيل أنه جاء الى صلاح الدين متشفياً قبل إعدامه.

وبعد ان وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها ، نصح دهاقنة الإنكليز البلاط الملكي العراقي ونوري السعيد بضرورة الليونة والانفتاح نوعاً ما على الحياة الحزبية ، فتشكلت الأحزاب حينئذ ، وبين أزمة وأخرى كان البلاط الملكي يدعو الى اجتماع وجهاء البلاد من السياسيين للتداول في سبل حل الأزمات.

ومرة اخرى، تؤكد الوثائق التاريخية ، ومذكرات شخصيات شاركت في تلك الاجتماعات ، منها مذكرات كامل الجادرحي ومحمد مهدي كبة ، ومقالات الصحف آنذاك ، أن الوصي على العرش عبد الاله كان يأتي الى بعض تلك الاجتماعات ثملاً ، ويتحدث بعصبية وتوتر !

فيما بعد ، شنت اجهزة الأمن العراقية غاراتها على الشخصيات القيادية في الحزب الشيوعي العراقي، السري ، فوصلت في ليلة ١٨ كانون الثاني ١٩٤٧ الى قائده يوسف سلمان يوسف ، فهد حسب كنيته الحزبية ، مع عدد من القياديين فحكم عليهم في ٦ حزيران ١٩٤٧ بالإعدام ، وأضطرت الحكومة للتراجع امام حملة عالمية ضد الإعدام فأبدلت الحكم في ١٣ تموز ١٩٤٧ الى السجن المؤبد.

وفي ٦ كانون الثاني ١٩٤٩ أصبح نوري السعيد رئيساً للوزراء مرة أخرى ، فأعلن حالة الطوارىء والاحكام العرفية تحت ذريعة الحرب في فلسطين ، وأبلغ مجلس النواب ان هدف حكومته هو ( تصفية الحساب مع الشيوعيين، وتكافح الشيوعية حتى نفسها الأخير في البلاد ).

واعاد السعيد محاكمة فهد ورفاقه , وحكمت عليهم المحكمة مرة أخرى بالأعدام ونفذ فجر يوم ١٤ شباط ١٩٤٩ سوية مع اعدام شيوعيين اخرين من اليهود ، وعلقت الجثث حتى اليوم التالي ١٥ شباط في ثلاث ساحات عامة في بغداد هي ساحة المتحف الحالية،وساحة الباب المعظم ، وساحة تمثال الرصافي الحالية.

وربما كانت المرة الاولى التي تستخدم فيها منائر المساجد كمواقع لإطلاق النار على المتظاهرين عندما اتخذت الشرطة في انتقاضة تشرين عام ١٩٥٢ منارة جامع حنان في الكرخ موقعاً عالياً لإطلاق النار على المتظاهرين على الجسر الذي اصبح اسمه فيما بعد جسر الشهداء .

وعندما جاء نوري السعيد وبقوة لرئاسة الحكومة عام ١٩٥٥ استخدم كل ما في جعبته من إجراءات قمع وتنكيل واستبداد والنفي ، ضد المعارضين والصحف والتجمعات والنقابات ، واستحدث نمطقاً جديدا في أهانة واذلال المعارضين له ولسياساته في إقامة حلف بغداد.

آنذاك فرضت مديرية التحقيقات الجنائية ( الأمن العامة) على كل معتقل سياسي شرط كتابة براءة لإطلاق سراحه، وارسلت الحكومة هذه البراءات من المعتقليين الشيوعيين الى بعض الصحف اليومية لنشرها مع صور أصحابها ، تشهيراً بهم .

وهذا النمط من الاٍرهاب الفكري بقي سائداً في العراق حتى عام ١٩٦٦ حينما كانت صحيفة( العرب) تنشر براءات المعتقلين البعثيين الاجبارية من العمل السياسي.

وأخيراً فإن ما تعرضت له العائلة المالكة يوم ١٤ تموز ١٩٥٨ كان نتيجة لرعونة خال الملك، عبد الاله .

    

نوري السعيد في اخر استعراض عسكري في العهد الملكي في ٦ كانون الثاني ١٩٥٨

وبعد ذلك لم يكن العنف والاقتتال الذي حدث وليد ظروفه الآنية، بل نتيجة تراكم إرث من العنف آسسه نوري السعيد والوصي عبد الاله .

   

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

835 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع