تغير السلوك في انتظار تغيرالظروف

                                                 

                        د.علي محمد فخرو

تغير السلوك في انتظار تغير الظروف

في كل عام يكثر الحديث وتكثر الكتابات عما يحيط بشهر رمضان من ممارسات وسلوكيات وفهم خطأ، لكن الأزمنة والقرون تتوالى دون أي تغيير أو تعديل أو تجاوز في ممارسات وسلوكيات المجتمعات والبشر. يظل الزمن واقفاً، وتستعصي العادات على المنطق وعلى دروس التقدم الحضاري.

يبدأ ذلك المشهد بالاختلاف حول بداية الشهر: أيعتمد على رؤية الهلال أم يستفاد من حسابات العلوم الفلكية المعتمدة على العلم ومنطق الحساب الصارم ودقة أجهزة المراقبة من الأرض وخارج الأرض؟ ويتسابق الفقهاء في تحديد هذا اليوم أو ذاك وهم الذين أغلبيتهم الساحقة لا تعرف شيئاً عن علوم الفلك بالغة التطور.
ثم يأتي فهم الانسان المسلم العادي لموضوع الصيام برمته: أهو مناسبة هدوء روحي وصفاء نفس أم هو مناسبة صخب فولكلوري في المطاعم والشوارع والمجالس حتى ساعات الصباح الباكرة؟ أهو تذكير للانسان بما يفعله الجوع بالفقراء والمعوزين والأخوة في الانسانية، أم هو مناسبة للتخمة والابتذال في التبذير وعدم اغلاق الفم طيلة الليل؟ أأمسيات هذا الشهر هي لاقتراب أكثر من خالق الكون من خلال العبادة الواعية المستوعبة للمقاصد الالهية من هذا الخلق ومن خلال بناء الارادة الواعية لتصحيح الضعف الانساني وشهوات الجسد والنفس والعقل أم أنها أمسيات لرؤية مسلسلات تلفزيونية بالغة السوء في مستوياتها الثقافية والفنية الرفيعة وللانبهار بسيل من الاعلانات الصاخبة الكاذبة المتلاعبة بالذوق وبالسلوك وبالذهن؟
ثم ماذا عن انتهازية تلاوة القرآن خلال رمضان بسرعات جنونية، دون فهم ولا تمعن، وليس قراءته بهدوء واستيعاب ووعي، ثم اهماله جانباً بقية السنة؟ أضف الى ذلك الألوف من الأسئلة التفصيلية العبثية التي يسألها الناس عما يخدش الصيام بما يظهر الى اي مدى تنقلب هذه المناسبة الى مخاوف لا مبرر لها والى رعب متزمت متخلف.
وفي المحصلة يشعر الانسان بأن الوعي الجمعي لمعاني وأهداف هذا الشهر في المجتمعات الاسلامية يبتره عن باقي الشهور. لكأن الشعور ببؤس الآخرين ومساعدة الجياع والقيام بالشعائر الدينية الحقة الصادقة ليس ضرورياً للانسان المسلم الا في شهر الصيام، وبعدها يعود الانسان الى حياة وممارسات وسلوكيات آسنة.
التعامل مع رمضان، الذي يعيد نفسه سنة بعد سنة وقرناً بعد قرن، هو مماثل للتعامل مع مواضيع السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة في بلاد العرب. انه مغالبة لتطور الأزمنة وتبدل الظروف واكتشافات المعرفة والعلوم.
نحن أمام ظاهرة متجذرة، عصية على الرغم من أن أسبابها الكثيرة قد درست باستفاضة منذ منتصف القرن التاسع عشر، وعلى الرغم من أن مكامن الخلل قد اشير اليها في ألوف الكتب، وعلى الرغم من أن الحلول المعقولة قد اقترحت، بل وإنها نجحت في كثير من المجتمعات الأخرى وأصبحت تجارب انسانية ماثلة أمامنا.
لا يمكن أن يكون الخلل في الدين، فهو دين عقلاني، يرفض أن يبقى الناس على دين آبائهم دون تفكر ومراجعة وتجديد، ويحث على اعمار الحياة وحمل المسؤولية نحو الأرض ومن عليها، ويثور على الظلم والاستغلال الأناني الجشع.
لايمكن أن يكون الخلل في العقل العربي، فقد أثبتت الدراسات الكثيرة أنه عقل نقدي وجدلي يمارس النظرة الشمولية، وله ارث فكري تاريخي يشهد على ذلك.
اذن، فالقضية تكمن في مكان آخر: انها تكمن في النشأة الأسرية، وفي التعليم المتخلف، وفي الاستبداد المدمر للشخصية السوية، وفي تكالب الاحن والمحن الخارجية على مقدراته وحريته وكرامته الانسانية، وفي فقهاء الدين المتزمتين المتخلفين في قراءاتهم للنصوص الدينية، وفي الاقتصاد الريعي الذي جعل من الناس رعايا مقلدين بدلاً من كونهم مواطنين أحرار مستقلين وفاعلين.
وحتى عندما ينجح الانسان العربي في أن يثور على كل ذلك وينتقل الى نظام جديد ليعيد له توازنه وشعوره بالكرامة وقدرته على الاستقلالية في الفكر، تتكالب عليه قوى الشر لتمنعه. وخير مثال هو ما حدث في تونس. فما أن نجح المواطنون في تونس في الخروج من أوضاعهم السيئة السابقة حتى تكالب على مجتمعهم ارهابيون مرتبطون بالاستخبارات والمصالح الخارجية والداخلية ليدمروا السياحة ويطردوا الاستثمارات ويمنعوا بالتالي النمو الاقتصادي في ذلك البلد. انها حلقة في سلسلة من الحقارات والمؤامرات التي لا تريد للانسان العربي أن يخرج من حالات التخلف الحضاري التي يعيشها.
يسأل الانسان نفسه: هل هذا الانسان العربي، الذي ما ان يخرج من محنة الا ويدخل في محنة أخرى، سيكون لديه الوقت والجهد ليفكر في تعديل مسارات سلوكياته وعاداته، كما هو الحال بالنسبة لشهر رمضان؟ ان المجتمعات البشرية قد تغيرت اما من خلال ثورات جذرية عاتية أو من خلال سلام مجتمعي طويل الأمد.
بالنسبة للانسان العربي لم تمر مجتمعاته في اي من الحالتين، ولذا يبقى واقفاً متعباً أمام تحرك الأزمنة.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1224 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع