مقال استهلالي الانسان ذلك المجهول ام ذلك المعلوم / ١

                                                   

                          القس لوسيان جميل

  مقال استهلالي الانسان ذلك المجهول ام ذلك المعلوم /١

   

من المعروف ان عبارة الانسان ذلك المجهول Lhomme cet inconnu قد شاعت بين المفكرين الذين تكلموا عن الانسان. غير ان العالم الفرنسي الكسيس كارل، والحائز على جائزة نوبل، هو اول من استخدم عبارة الانسان ذلك المجهول، عنوانا لكتاب، كان قد طبعه في العام 1935، وهو كتاب اراد له مؤلفه ان يكون كتابا علميا،على الرغم من مسحة الفلسفة فيه، كما تذكر عنه مقالة على الويكي بيديا. 

كثرة المتكلمين عن الانسان: أما المؤلف الكسيس كارل، فلم يشكو كما يبدو، من قلة من تكلم عن الانسان، ولكنه شكا من كثرتهم، حيث يقول بأن هذه الكثرة من المفكرين الذين تكلموا عن الانسان، عملت على ان يلقب هذا الكائن المتميز بـ / الانسان ذلك المجهول، وذلك بسبب تشابك افكار من تكلم عن الانسان وتقاطعها احيانا كثيرة وتعقيدها.
ومن هنا نرى الكسيس كارل متفائلا، من حيث قدرة المفكرين والعلماء على معرفة الانسان وتحويله من انسان مجهول الى انسان معلوم، اذا اتبعوا الطريق العلمي، حيث لا تكون المسألة بالكثرة بل بالعمق، هذا العمق الذي لا يحققه انسان واحد، وإنما تحققه اجيال، بعد تحول تركيزنا العلمي، من علوم الطبيعة الى علوم الانسان.
اين الخطأ: وفي الحقيقة اذا كان الكسيس كارل قد اطلق على الانسان لقب ذلك المجهول، فذاك لا يعني انه كان يؤمن، هو نفسه، بأن الانسان سوف يبقى في نظره وفي نظر غيره من العلماء، مجهولا وعصيا على البحث العلمي، الى الأبد. فعلى الرغم من معرفة الكسيس كارل بطبيعة الانسان الفريدة المعقدة، الا انه في الواقع، يرى في المتكلمين عن الانسان، سببا كبيرا لبقاء الانسان مجهولا، ومنهم جميع المتأثرين بتعليم الكنيسة التقليدي، والذين لم تستطع حتى الثورة الفرنسية والحضارة الغربية والعالمية التأثير عليهم او التخفيف من معارضتهم الا قليلا.
فالإنسان، كما نستشف ذلك من اقوال الكسيس، ليس مجهولا لكل الناس بشكل مطلق، وخاصة ليس مجهولا للعلماء الذين يحاولون معرفة سره، وإنما هو مجهول لدى الكنيسة ولدى من يتبعها ويماثلها في فكرها السلفي المحافظ، كما انه مجهول لدى الغوغاء، ولاسيما الغوغاء السياسية، من بعض اشباه المتعلمين، الذين يتطفلون على الشؤون اللاهوتية، معتمدين على كلام سفسطائي مؤدلج لا يمكن للحقيقة ان تظهر من خلاله، ولاسيما اذا احسوا، ان اللاهوت العلمي الأنثروبولوجي يتعارض مع مصالحهم ومطامعهم ومع خياراتهم السياسية والاجتماعية غير المشروعة احيانا كثيرة.
رؤيتنا الشخصية: وعليه، وعلى الرغم مما يقوله الكسيس كارل، ربما بموازاته ايضا، نرى ان الانسان سيبقى مجهولا لدى الباحثين عن طبيعته، ربما ليس من حيث كينونته، ولكن من حيث عمق ابعاده غير المتناهية كلها، وتعقيدها العجيب المدهش. فنعم يستطيع العلم، من الناحية المبدئية، ان يعرف الانسان جيدا، ولاسيما اذا ما استطاع ان يرفع عن كاهله اللاهوت الكنسي الاونطولوجي الغيبي المعروف، غير ان هذا العلم نفسه، يطلب من العلماء الاختصاصيين، كثيرا من الوقت والصبر والمثابرة وحرية البحث، لكي يصلوا الى بعض الحقائق العلمية عن الانسان وعن طبيعته.
ومع ذلك، فنحن نًقدِر ونحترم العلماء الملتزمين بالعلم وحده، لأن هؤلاء العلماء يعرفون بتواضع، مقدار انجازاتهم ومقدار ما تبقى عليهم انجازه، في مجال الانسان، ولاسيما ان هؤلاء العلماء لا يكتفون بمعرفة الانسان هنا الآن، ولكنهم يتطلعون الى ان يعرفوا انسان الماضي، والحالة التي سيكون عليها انسان المستقبل. اما السلاطين الكنسيين والمدنيين فلا يهتمون بشيء، لأنهم حقا لم يعد لأغلبهم ما يقولونه لنا، في الأمور اللاهوتية، وما ينتج عنها من حياة انسانية.
احوال العلوم والعلماء: اما اليوم فيبقى على العلماء ان يكتفوا بما تقدمه لهم العلوم، سواء كانت هذه العلوم متوفرة الآن، ام ما زالت على شكل افكار ونظريات علمية. غير اننا نرى ان من يعمل في المجال الفلسفي او الأنثروبولوجي او الديني، ان يلتزم بحزم، بما تم التصديق عليه كعلم ثابت، او قريبا من ذلك، مثل ما حصل مع نظرية التطور الداروينية، التي حاول اعداؤها ( الكنيسة وغيرها ) التملص منها، بحجة ان العلماء لم يجدوا ما يسمى الحلقة المفقودة.
وفي الحقيقة ان قراءة المسيحية وقراءة كتبها المقدسة، القراءة الصحيحة والسليمة، حتى لا نتكلم عن غيرها، صارت قراءة اسهل مما يتصور السلفيون بكثير، حتى ان التنصل من هذه القراءة العلمية الأنثروبولوجية يمكن ان يعد خطيئة ضد الروح القدس، التي يتكلم عنها الانجيل.
ما هو مطلوب من العلماء: ولكن ما للعلماء وما للكنيسة ! ولهذا نقول ان خيرَ ما يعمله العلماء في ايامنا هو ان يأخذوا موقفا صحيحا من العقائد، ومن المعتقدات والفلسفـات التي تستند الى المعتقدات الغيبية والأساطير والقصص الشبيهة بالتاريخ، والتي كان لها مـا يبررها، في الأزمنة الغابرة، مع تأكيدنا على امكانية تحويل كثير من الفلسفات الى علوم انثروبولوجية، وهو الأمر الذي يحاول كاتب هذه الصفحات ان يقوم به، خدمة للمعرفة الانسانية الجيدة.
شروط فهم الاتجاه العلمي في المسيحية: ويقينا يمكننا فهم حقائق الانسان فهما صحيحا، اذا قدرنا ان نميز بنيويا بين مبنى النصوص الأدبية ( الانشائية ) وبين معناها المستتر والذي يحتاج الى شيء من التأويل Interprétation او التأوين ( التحيين ) Adjournamento لكي لا يحصل عندهم ما يسمى بالمخالفة او المفارقة الزمنية Anachronisme هذه المفارقة التي تحدث عندما يحكم احدهم على حدث او على فكر حضاري يعود الى ما قبل الف سنة مثلا، بعين المقياس وكأنه حدث اليوم. وبما اننا نكتب لنظهر حقيقة الانسان، فان مثل هذه الفقرات تظهر حقيقة القدرات الانسانية المعرفية، وقصور هذه القدرات ايضا.
تحول الى علوم الانسان: هذا، وفي رأينا المتواضع، نرى ان تقوم الجهات التي كانت ملتزمة بالعقائد، وبالتالي بكثير من المعتقدات الغيبية، ان تبادر اكثر من غيرها، بالتحول الجريء الى علوم الانسان، هذه العلوم التي هي اقدر على فهم حقيقة الانسان وحقيقة الهه من المعتقدات، حتى وان لم يتفق جميع العلماء، على كل الأمور الاجتماعية والنفسية والحياتية.
وهنا يجب ان نعلم بأن المبنى الظاهري لأي نص ولأي خطاب، لا يخدم المعنى المستتر ويكشف عنه فقط، ولكنه يشير اليه ايضا، كما تفعل الرموز، ومنها اسرارنا المسيحية والتي تسمى اسرارا بسبب وجود المعنى الذي هو خفي فيها، ويحتاج لمن، او لما يجعله ظاهرا ومعلوما.
وهكذا يساهم مبنى النص ومعناه المرتبطان مع بعضهما ارتباطا بنيويا، مساهمة بنيوية في معرفة حقيقة النص، وبالتالي حقيقة الكتب المقدسة وحقيقة الانسان، مع اننا لا ننفي وجود مشاكل معرفية اثناء عملية اظهار معاني الكلمة ومعاني النصوص الانسانية والنصوص المقدسة. لكننا نرى ان هذه المشاكل لا تذكر مقابل المشاكل التي يواجهها جميع المؤمنين مع العقائد الدينية ومع نصوص الكتاب المقدس، التي يقرؤها السلفيون قراءة حرفية قاتلة للإيمان. علما بأننا قد وضعنا في مكان ما من هذا الكتاب ما يتكلم بإسهاب عن بنيوية الكلمة. فحياة الانسان كلها ظاهرة علينا ان نكتشف معنى الأشياء فيها، من خلال مبنى اية منظومة من منظومات انساننا وعالمنا وكوننا.
دعوة الى المباهلة: وهنا ادعو الجهات السلفية كلها، بصغيرها وكبيرها الى شيء من المباهلة. . . استغفر الله ! لقد نسيت كلام يسوع القائل: لا تجرب الرب الهك. ولهذا لا ادعو احدا الى المباهلة، كما نجدها في العهد القديم، وكما نسمع عنها عند بعض فئات الشعب المسيحي، لكن ادعو كل من يشاء من المسيحيين فقط، الى حوار اظهار الحقائق، الذي سيكون نوعا من الجدال، هذا الجدال الذي لا يكون مشروعا الا اذا التزم الطرفان ببعض القواعد المنطقية، ويكفوا عن استخدام كلمة ايمان التكفيرية، لأن هذه الكلمة تفسد كل شيء.
قصة طريفة ومختصرة: في احد الأيام كنت فـي زيارة عند احد الأصدقاء. وكانت عائلة الصديق هذا كلها مجتمعة. وقد صادف اننا كنا نتكلم عن التوبة الجماعية وعن محاسنها الكثيرة. فلما انتهيت من الكلام رفعت ام الصديق صوتها بقولها: ابونا لا تتعب نفسك! فأنا لن اصدق بما تقوله، حتى يقول لنا ذلك سيدنا البابا! في حينهـا ابتسمت قليلا وسكتُ، وأنا اقول في سري: ولكن من اين آتي لك بسيدنا البابا، ليقول لك ذلك. او من اين آت لك بفرمان من سيدنا البابا لكي اقرؤه على مسامعك؟!
هذا، وبما ان كثيرين في مناطقنا هم على هذه الشاكلة، فانا شخصيا، لا اقبل حوارا مع شخص ليس له العلم الكافي ليكون محاورا او مجادلا مشروعا، كما لا اقبل حوارا مع احد لا يكون مؤدبا في طريقة حواره، ويلجأ الى الكلام الملتبس والتكفيري، ويستخدم الكلام الملتبس والمبني على انصاف الحقائق في حواره، او الى اسلوب الاتهامـات الباطلـة والسخيفـة، او الى اسلوب التهكم، وأسلوب الطعن ببعض خيارات من يحاورهم، مع ان هذا التافه قد لا يملك واحدا من عشرة مما يملكه محاوره، او بالأحرى من يجادله.
التكفير سمة بشرية دفاعية: اما غايتنا من كل هذا الكلام، فلا تقتصر فقط على معرفة افضل للإنسان، ولكنها تهدف ايضا الى اقناع السلطات الكنسية بأن تعمل على انهاء كل اساليب التكفير والتزمت من الكنيسة، وتتنازل عن بعض، او ربمـا عن كثير من السلطات، التي تتمتع بها اعتباطيا. فنحن بالحقيقة لم نعد في القرون الوسطى، كي يكون للرئيس الكنسي الكلمة الأخيرة في كل المسائل، من التي تخص الكنيسة او لا تخصها.
مشكلة معقدة: فما يحصل اذن هو ان كثيرين من اشباه المتعلمين، يبقون اسرى الاسلوب الحضاري البدائي الانطولوجي الحرفي، هذا الاسلوب الذي فرضه رجال الدين على الناس باسم الايمان، والذي يستسهل قراءة الكتب المقدسة قراءة حرفية. فالقارئ السلفي يقرأ النصوص المقدسة، وكل نص ادبي آخر، فيه ظاهر النص ( مبناه ) وفيه معناه المستتر الذي يحتاج بعض المجهود والوقت للوصول اليه.
وعليه لا نتعجب اذا ما كان السطحيون متمسكين بقراءتهم الحرفية التي لا تريد ان تعترف بأي تأويل وبأي تأوين، بحجة ان النصوص المسرودة مقتبسة من الكتب المقدسة، هذا الكتاب الذي اذا ما قُرِأ قراءة سطحية وحرفية يتحول الى كارثة معرفية وحوارية، لأن الكتب المقدسة كتبت بيد اناس مؤمنين وكانوا قريبين جدا من الأحداث المأساوية التي حدثت ليسوع. هذا، مع تأكيدنا على ان هؤلاء الكتبة قد كتبوا ما كتبوه بأسلوب خاص بتلك الفترة الزمنية، ولذلك نقول بأن لا عصمة" لمبنى " الكلمة التبشيرية التي كتبوها، وكل العصمة والاحترام لمعنى ما كتبوا، مع تقديرنا للمبنى ايضا، ولكن دون ان يرقى هذا التقدير الى درجة القدسية.
فضلا عن ذلك: فضلا عن ذلك كله، نجد اشباه المتعلمين، الذين يمكن عدهم من بين الأميين، من وجهة نظر علمية محددة، نجدهم غير مبالين، حتى بالأساليب الأدبية لكل كاتب، وكأنما الكاتب مجرد الة كاتبة، يكتب ما يمليه عليه الله، بشكل حرفي، مبنى ومعنى. وهكذا توقفُ الكنيسة اي تحليل علمي، على حساب الحقيقة العلمية الواضحة، الأمر الذي يؤدي الى تحويل الاسلوب الأدبي القصصي، الى تاريخ موضوعي ومجريات واقعية، كما تبقى كثير من الرؤى الحضارية البدائية الساذجة مفروضة على القارئ، وكأنها حقائق ابدية لا تتغير. وتبقى بالنهاية صورة الله نفسه ويسوع ابن مريم الملقب بالمسيح، صورة مبنية على الانحراف Déviation عن المعنى المقصود، عند كتابة الكاتب نصه المقدس.
الايمان والانتماء: وعليه فإننا نرى ان المجتمع البشري يعاني من الاحكام المستندة الى التقاليد الغيبية، ومن الحالة التي فيها يتحول الايمان الحقيقي الى انتماء، اكثر مما يعاني ويتضرر من الحقيقة العلمية المعلنة للملأ. والناس هؤلاء يتضررون من الفتاوى المقيدة للعلم والرافضة له، اكثر مما يتضررون مـن التغيير، سواء كانت مطالب هذا التغيير مفاجئة، ام كانت قديمة جدا وتدريجية. فاستنادا الى الكتاب المقدس ( هنا هو انجيل يوحنا )، واستئناسا بنص من انجيل يوحنا ايضا، وكذلك استئناسا بعلوم الانسان، والتي تقول كلها ان الحق يحرر الانسان، مما وممن يكبله، ولاسيمـا من الطبقات الاجتماعية الرافضة للتجديد والتأويل والتأوين، نرى ان تتشدد الكنيسة الرسمية في التأكيد على الفهم الحقيقي العلمي للكتاب المقدس، لكي تستطيع هذه الكنيسة ان تساعد المؤمنين على القراءة العلمية على قراءة كتبهم المقدسة، دون حذر وخوف. فالإنسان بالحقيقة يختنق من جهله لحقيقة الأمور اكثر منن معرفته بخفايا الواقع، مهما كان جديدا على الانسان.
اخفاء الحقيقة اكثر ضررا من كشفها: ولذلك نرى ان اي اخفاء للحقيقة باسم التقاليد وقدسية الكتب المقدسة، ومراعاة البسطاء، انما يعيق تقدم المؤمن الانساني الاجتماعـي والروحـي، و حتى السياسي ايضا. فإذا كان الحق يحررنا، فان ما يخالف الحق يكبلنا بسلاسل يصعب علينا فكها وتكسيرها، كما يعني ان الباطل ( المناهض للحق ) يستعبدنا، بشتى انواع الاستعباد الاجتماعية والسياسية والنفسية والحضارية والجسدية والدينية والكنسية وغيرها، الأمر الذي يجعلنا نتمسك بالقراءة الأنثروبولوجية البنيوية لنصوص الكتاب المقدس، عوضا عن القراءة الانطولوجية القاموسية الحرفية؟
اضرار اخفاء الحقيقة: ويقينا ان اخفاء الحقائق عن المؤمنين يسبب لهؤلاء المؤمنين، او حتى اذا كانوا مجرد منتمين، ضررا كبيرا، على اكثر من صعيد. فكاتب هذا المقال قسيس ويعرف كم يصيب الشعب البسيط من ضرر نفسي وقلق وخوف في ساعات الموت الرهيبة. اما في بحر الأيام الأخرى فيعرف كاتب المقال ايضا كم يصيب ايمان المؤمنين، من ضرر، بسبب تركيز التبشير المسيحي التقليدي على العقاب والثواب، في العالم الأخر، وحتى في هذا العالم. فمثل هذا التبشير والخطاب، يتحول الى خوف ورعدة والى وسواس قاتل، في احيان كثيرة.
هذا، وبديهي، في هذه الحالة ان يفقد الايمان المسيحي حقيقته الانسانية الأنثروبولوجية العظيمة والمقدسة، عندما يتحول الايمان الى تجارة مع الله، دون ان يحقق هذا الايمان الحقيقي غاياته الحقيقية، الا وهي توجيه حياة الانسان الى اكتساب كمال الفضائل الانسانية الروحية، والبلوغ بها ومعها الى اعظم قدر يستطيع الانسان ان يصل اليه. وهكذا يكون كل انسان، مؤمنا كان ام غير مؤمن، مرحلة انسانية متقدمة، كثيرا ام قليلا، عن مرحلة آبائه، هؤلاء الآباء الذين عملوا هم ايضا دورهم الانساني والروحي.
وعي المثقفين: هذا، ومما تجب الاشارة اليه، هو ان كثرة من الطبقـات المثقفة والواعية، بدأت تعرف ان الحياة الأخرى هي مجرد خيال المآتى ولا تؤثر بهم بشيء. فإذا كلمت احدهم عن العالم الأخر يقول لك: انا علماني ولا اؤمن بهذا العالم ولا اخاف منه، لأنه غير موجود. اما نحن فنقول لهؤلاء كلهم: من حقكم إن لاتؤمنوا بالعالم الآخر، ولكن هل وجدتم لأنفسكم ما هو بديل لعالم الآخر، بحيث تكونون انسانيين في تصرفاتكم، ولا تسمحوا لأنفسكم إن تشاركوا وتشجعوا الحروب العدوانية التي يدمر فيها الانسان اخاه الانسان، هذا الأخ الذي يحولونه الى عدو يجب التخلص منه، حتى لو كان هذا الذي يعدونه عدوا من الأطفال والنساء ومن الرجال غير المسلحين، كما رأينا ذلك في حروب كثيرة لم نكن نحن بعيدين عنها.
نتيجة الكلام اعلاه: اما هذا الكلام اعلاه، فيجعلنا نفضل فلسفيا وعلميا وراعويا، ان يقع البشر التقليديون والبسطاء في الدهشة والتشكك والحيرة، مما يقعون فريسة السلفية التي تحرمهم من معرفة الحقيقة، اي من معرفة الله ومعرفة ارادته، بحجة دفاعها عن الايمان، هذا الايمان الذي هو دفاع عن التقاليد ودفاع عن الامتيازات، ودفاع عن الكسل ايضا، اكثر مما هو دفاع عن الايمان، بمعناه الذاتي Subjectif والعائد الى المشاعر اكثر من عودته الى العقل الموضوعي. فهل هناك يا ترى اية امكانية لجمع الايمان مع قتلة الجنس البشري الحاصل في ايامنا هذه؟ هذا سؤال نوجه الى من يريد إن يختبأ تحت عباءة العلمانية والالحاد وال لا ادرية.
ويقينا، ومن الثابت، ان فضيلة الايمان ليس لها شغل بالأمور الموضوعية، وما يراد تثبيته من الأمور الموضوعية باسم الايمان، ليس سوى واحد من اثنين: فإما هو اساطير ومعتقدات موضوعية باطلة، او هو قصص وأمور شبيهة بالتاريخ Para historique يراد لها ان تحتل موقع التاريخ Histoire. ويبقى صحيحا ان الأمور الموضوعيـة تقع تحـت حكـم العقل، في حين تقع الأمور الذاتية والوجدانية تحت حكم المشاعر، وحكم الايمان في حالات خاصة.
اما ان تدخل امور موضوعية Objective تحت سلطان الايمان، فتلك لعمري مغالطة رهيبة مدمرة لحقيقة الايمان، ولمن يعش على هكذا ايمان يستلب الانسان استلابا ما بعده استلاب. فوجود الجنة والنار مثلا قضية موضوعية تخص العقل الذي يحكم في وجود ام عدم وجود الجنة وجهنم في العالم الأخر. فإذا استطاع العقل ان يثبت هذا الوجود اثباتا ملموسا ففي هذه الحالة تنتفي الحاجة الى الايمان.
اما ان تأتي الكنيسة وتفرض وجود العالم الأخر بدون برهان عقلي، فان ذلك يؤدي الى تفشي روح الأساطير بين المسيحيين، ولاسيما ان هذه الكنيسة نفسها لا تستطيع الاجابة على اسئلة كثيرة بخصوص هذا الوجود، ومنها خلود النفس المزعوم من دون اي برهان، في حين ان برهان السلطة غير مقبول بتاتا، حتى وان كانت سلطة الكتاب المقدس، او سلطة الآباء القديسين، لأن هذه السلطات تحتاج الى من يعطيها شرعية الحكم على الأمور الموضوعية.
وهكذا في كل المسائل الأخرى والكثيرة. وذلك لسبب بسيط هو ان مبنى النص الكتابي ليس فقط غير معصوم، لكنـه مبنى يتحول الـى اسطورة اذا تمت قراءته قراءة حرفية. علما بأن ما نقوله عن نصوص الكتاب المقدس نقوله ايضا عن نصوص ومبنى العقائد ونصوص التعليم الرسمي للكنيسة.
تبطيل مبررات السلفية الدينية: هذا في حين يمكن تبطيل مبررات السلفية الدينية على شكل اسئلة تُظهر استحالة تحويل القصة الدينية، او اية قصة أخرى، الى تاريخ. او تحويل اية فكرة حضارية بدائية الى واقع معاصر، ومن ذلك تحويل الأمور المتناقضة مع العلم الى حدث واقعي، مثل كثير من الأحداث المتناقضة مع العلوم الثابتة، سواء كان هذا الأمر المستحيل قصة يحولها السلفيون الى تاريخ، او كان امرا متناقضا مع العلوم الثابتة، ومنها علوم الحياة والعلوم الاجتماعية والتاريخية.
وفي الحقيقة يعج العهد القديم بأمثالها، ولا يخلوا منها العهد الجديد، في حين يمكن اعطاء جواب انثروبولوجي معقول ومفهوم عن كل المسائل التي لم يعد ممكنا قبولها بحرفيتها، ولاسيمـا اذا استطعنا ان نميز تمييزا بنيويا جيدا بين مبنى الكلمـة، او مبنى عبارة محددة، او مبنى النص المقدس وبين معناه، حيث يكون المبنى هو الظاهر للعيان، في حين ان المعنى الحقيقي لأي نص،خفيا ومستترا ويحتاج الى علوم مناسبة للوصول اليه، بعد سحب موضوع الجدال، او موضوع النقاش، من دائرة الانطولوجيا الى دائرة الأنثروبولوجية، اي بإيجاد المعنى الحقيقي للنصوص موضوع الجدال المذكور اعلاه والمختلف عليها بين السلفية والمجددين، او بالأحرى بين الذين يقرؤون كتبهم قراءة علمية والذين يقرؤون كتبهم وعقائدهم قراءة حرفية، سواء كانت فلسفية ام كانت نصوصا من الكتاب المقدس.
الفتاوى الرافضة للتجديد: فالفتاوى الرافضة للتجديد قد تكون دفاعا عن الذات او عن مصلحة قومية شوفينية حزبية او فئوية، او يكون دفاعا عن امتيازات معينة، من تلك التي تتمتع بها بعض او جميع فئات رجال الدين، او يكون دفاعـا عن مجتمع يراه السلفيون يفلت من بين ايديهم، في حين لا يخدم تزمت السلفيين الايمان بشيء، ولا يحصدون غير التهكم والإعراض عنهم وعن تعليمهم.
وعليه فان الكاتب هنا، يحب ان يُعيدَ قراءه، الى ايام التبشير الأولى بالمسيحية، حيث يخبرنا كتاب اعمال الرسل عن مظاهرات غوغائية قام بها سكان مدينة افسس الوثنية، احتاجا على التبشير بيسوع المسيح في مدينتهم افسس، حيث كان المتظاهرون يصرخون ويهتفون: عظيمة هي الهتنا Déesse ارطيميس.
دفاعا عن الوضع القائم: اما تلك المظاهرات فلم تأت دفاعا عن ايمانهم الوطني، بل كانت دفاعا عن الوضع القائم، ودفاعا عن مصلحة، حيث يبدو ان الدين الجديد، كان قد اثر على مصلحة الصائغين الذين كانوا يعملون تماثيل ذهبية صغيرة تمثل الالهة ارطيميس، ويبيعونها للناس ويعيشون من هذه التجـارة، الأمر الذي جعل تجارة تماثيل الالهة تبور وتتضرر كثيرا. فالمصلحة هنا تأتي مزدوجة مع نفسية السلفي التقليدية في كل شيء، ومن ذلك في المسائل الدينية، فضلا عن التعصب الأعمى للدين او للطائفة الدينية او للقومية او لبعض الأمور الاجتماعية التي يدافع عنها التقليديون الذين لا يرون انفسهم في التحولات الاجتماعية الجديدة، مثل مسألة الأزياء، ولاسيما ازياء النساء، ومثل كثير من الممارسات الدينية التي قبلها السلفيون دون اي تساؤل.
عندنا في العراق والدول العربية: والجدير بالذكر ان المثل اعلاه كنا قد اخذناه من اليونان القديمة، وتحديدا من مدينة افسس. اما عندنا في العراق، فقد اشتهر مثل قديم جدا، يقول: انهم لا يبكون على الحسين، ولكنهم يبكون على الهريسة. ومن هنا يخشى الكاتب ان لا يكون بكاء معظم المسيحيين، ولاسيما من المسيسين منهم، بكاء على الايمان المسيحي الضائع، بسبب دخول المنهجيات العلمية الى مجتمعاتهم، اكثر ممـا يكون بكاؤهـم وعربدتهم الغوغائية، على هريسة من نوع آخر تماما، لا نريد ان ندخل في تفاصيلها.
نوعان من الهريسة: ومهما يكن، فإننا نعرف نوعين من الهريسة عندنا هما: هريسة الشعب البسيط وهريسة امراء الكنيسة، السادة الأساقفة، مع بعض القسس، من الذين لا يودون التنازل عن اماراتهم وإقطاعياتهم الدينية والطائفية. اما بكاء السياسيين المسيحيين الكبار فكان ولا زال بكاء على النفوذ السياسي بشكل خاص. ومعذرة لكل من لا تهمه الهريسة من اي نوع كانت.
صفة ليست قدرا: لقد أكدنا على صفة الانسان الغامضة والمستترة، في الفقرة اعلاه، ولاسيما فيما يخص مبنى النصوص الكتابية وغير الكتابية، اي في نصوص الكتابات الانسانية، اما في هذه الفقرة فنؤكد على ان صفة المجهول ليست قدرا مطلقا وأبديا موضوعا على المفكرين. ذلك ان الانسان المفكر، سيعرف اشياء كثيرة عن نفسه، بما يكفيه ليقول انني عرفت حقيقة الانسان، بأغلب ابعاده المهمة، تاركا للفلسفة مهمة تنوير الأبعاد الأخيرة الجوهرية عند الانسان، بعد ان تكون العلوم قد اعطت للبشرية كل ما كان بمستطاعها ان تعطيه.
علما ان جميع الفلسفات، وغالبية الأمور اللاهوتية لا تشذ عن قاعدة تمييزنا بين مبنى النصوص ومعانيها، ومنها النصوص اللاهوتية والإيمانية والعقائدية وغيرها، حيث ان الايمان يكون محمولا على ما نسميه اللاهوت التعبيري والعفوي البسيط، هذا اللاهوت العفوي البسيط الذي قد لا يخضع للصواب والخطأ، ولكنه يمكـن ان يخضع لصفتي الجودة والرداءة اللتين تتحملان درجات متعددة من القوة والضعف.
معرفتنا بالإنسان تبقى نسبية: هذا. ومما لا شك فيه، هو ان العلماء والمفكريـن، وحتى الفلاسفة، لن يعرفوا حقيقة الانسان النهائية، ومن اول نظرة، كما يقال احيانا في الحب البشري، وذلك بخلاف ما كان يدعي، او يقول به فلاسفة الوجود الانطلوجيون، والفلاسفة الماديون،من خلال مدارسهم السلوكية، ويقول به الكنسيون، على حد سواء، من الذين لم يعد لأغلبهم مدرسة لاهوتية ومنهجية قويمة وواضحـة، يسيرون عليهـا، باستثناء التقاليد التي اكل عليها الدهر وشرب، ولاسيما عندنا في كنائس المشرق.
غير ان فكر العلماء سيتحرر بالتدريج وببطء شديد، من كثير من المحرمات ( تابوهات ) القادمة الينا من المعتقدات القديمة الغيبية، ومن الأساطير التي تنتمي، هي الأخرى، الى حضارة المعتقدات الغيبية، ومن تعسف الأديان التي تجاوزت اختصاصاتها الوجدانيـة المقدسة، لتبت في شؤون العلوم الموضوعية والحضارية، وحتى السياسية، دون ان تكون مؤهلة لذلك.
سلطة الأساقفة المزعومة: وهكذا يجب ان تنتهي، والى الأبد، تلك السلطة اللاهوتية والإنسانية المزعومة، التي يدعيها الأساقفة والبطاركة، في شرقنا، اما في الغرب فان الشعوب قد اخذت حقها بيدها، ولم تعد تلتفت لأي قانون كنسي تعسفي، في حين ان اغلب هذه الشعوب لا زالت تحترم ما يأتي منن الكنيسة حاملا تطلعات الشعوب. ففي الحقيقة، لم تعد الكتب المقدسة، كما يفهما البعض في حرفيتها، كتبا يمكن العودة اليها من اجل توطيد سلطة هؤلاء الأساقفة، ولاسيما عندما تكون سلطتهم فردية ولا تحمل قدرا كافيا من المجمعية Collégialité، سواء كان ذلك في المجامع الخاصة بالأساقفة، او كانت تأتي المجمعية من تدخل العلمانيين المؤمنين، ليس فقط بالانتماء، ولكن بالحق والحقيقة ايضا، علما بأن الشجرة تعرف من ثمارها، وان الذهب الخالص يميزه الصائغ الخبير، من الذهب المغشوش.
اما الايمان: اما الايمان فلا يعرف حقيقته الا المؤمن، واللاهوتي الجيد، وليس من يدعي ان الكنيسة اعطت بيده الحكم على الحقائق الايمانية، في حين ان الكنيسة لم تعطِ لأحد من القسس والأساقفة ومن العلمانيين، سوى ان يعيشوا هم اولا بحسب هذا الايمان، ثم يوصلوه الى الآخرين بالطرق المناسبة، وليس ان يحكموا على ايمان الآخرين، من خلال آرائهم اللاهوتية وبعض ممارساتهم الدينية. اما في ما يخص العقائد، يمكننا ان نقول بأنها ربما كانت، جنبا الى جنب مع كثير من نصوص الكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد، ولاسيما سفر التكوين من العهد القديم، بمثابة حجر عثرة للاهوتيين الذين لم يكن بإمكانهم بعد ان يتحملوا هذا الكم الهائل من النصوص المتناقضة مع العلم، الأمر الذي جعلهم يفتشون عن منهجيات لاهوتية وكتابية توفق بين العلم والإيمان. علما ان النصوص الكتابيــة والعقائد قد افادت اللاهوتيين في المعرفة الدقيقة لنصوص الكتب المقدسة ولنصوص العقائد.
اوجه ضرر المنهج العقائدي: غير ان السلطة الكنسية التي تكلمنا عنها اعلاه، قد اضرت بالحقائق اللاهوتية والإيمانية مضرة كبيرة، وأضرت بالمسيحية والمسيحيين ايضا. فهذه السلطة عملت على تفشي فكر المعتقدات والأساطير في الحياة المسيحية، عوضا عن روح الايمان، هذا الايمان الذي يوجه حياة الانسان، بشكل ايجابي وحياتي نحو اهداف انسانية عميقة، تكون المشاعر والإرادة فيها، اكثر فاعلية من العقل، ويكون ما اسميناه في كتابينا: وجه الله وكيف نتكلم عن الله اليوم، باللاهوت العفوي البسيط، الذي هو لغة تعبيرية عن فعل الايمان، قيمتها الحقيقية تكمن في نقل البشارة الانجيلية باللغة المناسبة التي تساعد الانسان على تقبل البشارة التي تؤثر في المشاعر، وليس في العقل، بشكل افضل.
تأثير السلطة الكنسية: غير ان السلطة الكنسية فضلت التمسك بحرفية العقائد، الى الدرجة التي صارت هذه العقائد مجرد طلاسم غير مفهومة ومسببة لانحرافات ايمانية عميقة، حتى ضاعت البشارة المسيحية في مبنى العقائد، بعد ان اصرت السلطة الكنسية على التمسك بمبنى العقائد دون النظر الى المعنى الذي من اجله بنيت العقائد.
ولهذا نرى حياة اغلب المسيحيين صارت معتمدة خصوصا على الدوغمائية ( العقائدية ) وعلى بعض الشرائع وعلى بعض الطقوس الجامدة، وكذلك على السلطة الكنسية، كما تمارس في الغرب والشرق، وان كان الغرب في كثير من كنائسه قد تحرر نسبيا من السلطة العمياء التعسفية القديمة، بينما بقيت هذه السلطة في الشرق لا زالت شبيهة بالسلطة التي كانت تمارس فـي القرون الوسطى تقريبـا، او كانت تمارس في كنائسنا المشرقية، فيما مضى من الأزمنة، وكأنمـا الرئيس " ايقونة " مقدسة بعيدة عن الأمور الانسانية الاعتيادية.
اما الخاسر الرئيسي من نمط السلطة القرن اوسطية هو الشعب البسيط، الذي لا يلبث ان يتحول الى شعب مزدوج الولاء، شعب له الهان ودينان وانتماءان: المدني والديني. وبما انه شعب انتهازي نستطيع ان نقول عنه انه يضيع المشيتين، بحيث يصبح هذا الشعب شعبا لا يملك اصلا اي انتماء ولا اي دين حقيقي معمق ولا يدين بأي اله، الا بصورة كلامية Verbale لا تفيد احدا.
للمقال بقية ...

    

    

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1048 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع