بلاغة الحدث الفني في مقطوعة جاز صوفي معاصر

                                                                                         

                        مثنى مكي محمد

بلاغة الحدث الفني في مقطوعة جاز صوفي معاصر

ما الذي يجعل للرسالة الاعلامية المتلفزة التأثير الأقوى على انسان العصر الحديث؟ وكيف تتفاعل انظمة التواصل المختلفة مع بعضها البعض لتوصل رسالةً ما, او لتمرر فكرة تداعب عقل وأحاسيس المتلقي؟ ألم يكن هناك زمن احتل فيه الكتاب والدرس الشفاهي هذه المكانة؟ ألا يمثل الفن والأدب قوى ناعمة لها القدرة على التأثير على الآخر واقناعه بفكرةٍ ما عوضاً عن الوسائل التقليدية المتمثلة باستخدام القوة والعنف والتهديد و الدعاية المباشرة؟ يناقش هذا المقال بلاغة الحدث الفني في احدى حلقات برنامج (صاحبة السعادة).

يشير المعنى العام لمصطلح (بلاغة) Rhetoric الى القدرة على انتاج خطابٍ فعالٍ ومؤثرٍ بقصد التأثير على حكم أو مشاعر المتلقي. وهو بذلك ذي صلة بكل ما له علاقة بالجمالِ أو بقوةِ الاسلوب. فالبلاغة معنيةٌ بالعناصرِ الأساسيةِ للخطاب وهي: الابتكار، والترتيب، والاسلوب، والذاكرة، والتوصيل.
أنشد الشيخ المصري ايهاب يونس في احدى حلقات برنامج (صاحبة السعادة) قصيدةً دينية بعنوان (يا مالكاً قدري) بمصاحبة فرقة (كايرو ستيبس) الموسيقية Cairo Steps وهي فرقة مشتركة تتألف من 15 عازفاً اوروبياً وعربياً. والرابط التالي يحيل القارئ الى الحدث قيد الدراسة:
https://www.youtube.com/watch?v=NehcnL-D7d0

ان الملمح الاكثر تميزاً في الحدث الفني المذكور هو توظيف نظام الثنائيات الضدية Binary Opposition

https://en.wikipedia.org/wiki/Binary_opposition

المتمثل بسوق مفاهيم مضادة لبعضها، وهي من المبادئ المهمة للمدرسة البنيوية التي تقول بمركزية المفهوم في اللغة والفكر كمنظم للفلسفة والثقافة. ومما لا شك فيه ان العلاقة بين ثنائيات ضدية مثل: الدين- الفن، و الذكر- الانثى، و الشرق- الغرب، و الاسلام- المسيحية، و الحضور- الغياب، مما نراه جلياً في الحدث الفني المذكور، ليست متنافرة بقدر ما هي تكميلية يكمل بعضها بعضاً. ومثل هذا التكامل أمرٌ أكده فرديناند دوسوسير في معرض تأسيسه لمفهوم الثنائيات الضدية، اذ لا يمكن ادراك احدها من غير معرفة نقيضه. 

لقد سعت ما بعد الحداثة الى تفكيك مفهوم الثنائيات الضدية. فبدلاً من أن يُبرِز الحدث هذه الثنائيات عمل على أرجحتها ما بين حضورٍ وغياب، فتبدو تارةً ذائبةً ازاء بعضها، وقد اختفى الحد الفاصل بينها او كاد. وتبدو بارزةً بحضورها تارةً اخرى. فبدءاً، وُظِفًت مقطوعة "جنوسين- الحركة الاولى" Gnossienne- No. 1 للموسيقار الألماني (اريك ساتي) Erik Satie كاطارٍ نغمي يحتضن الانشودة الصوفية، وامتزجت معها أنغام العود العربي لباسم درويش، ونرى مطاوعة الآلات الغربية للنص الشعري العربي.
وللصوت تأثير معروف على المتلقي، فالقيم الصوتية، سواءاً الموجودة في الفاظِ اللغة (القصيدة) أو النغم الموسيقي، تؤثر بمزاج السامع وحالته النفسية. فالتأريخ يخبرنا أن الفارابي، الفيلسوف والعالم والموسيقي العربي، (873?-950) عزف على العود يوماً في مجلسٍ فأضحك الحاضرين تارةً وأبكاهم تارةً ثم تركهم نياماً تارةً اخرى. ويحكي الشاعر الانكليزي جون كيتس في قصيدته "اغنية للعندليب"
https://www.poetryfoundation.org/poems/44479/ode-to-a-nightingale

عن حالة الذهول والانتشاء التي مر بها وهو يستمع لعندليبٍ مغرد يصوره وهو يطير بعيداً تاركاً سامعه مذهولاً ما بين يقظةٍ وحلم. كما ان للابتهالات الدينية ذبذبات صوتية مؤثرة يضاف اليها القيم الدلالية للمفردات اللغوية، وهو تضافر قد ينتج عنه ما يصطلح عليه عند المنشدين بـ "الحالة" (محمد عوض. عباقرة الإنشاد الديني. الجيزة: وكالة الصحافة العربية. 2017) . ولا ننسى أن ممارسي اليوغا يصاحبون تأملهم نطقهم للفظة "أووم" اعتقاداً منهم أن الذبذبات الصوتية للكلمة ستُحدث ما ينشدوه من حالة صفاءٍ روحي.

كما نشاهد ملامح للحركة النسوية Feminism. فنرى النسوة العازفات على آلة الكمان جنباً الى جنب مع الرجال. وهو أمر لافت للنظر في عمل صوفي النزعة. أما التعاون الفني بحد ذاته بين أفرادٍ ينتمون ثقافياً للعالم الغربي مع غيرهم من الشرق فهو تجلٍ لما بعد الكولونيالية وملمح من ملامح العولمة، اذ يلتقي الشرق والغرب، المستعمِر والمستعمَر في خطابٍ روحاني. وقد أبرز الاخراج الفني حالة تمركز اللوغو logocentrism

https://en.wikipedia.org/wiki/Logocentrism

لترجح كفة العنصر الشرقي، على الأقل في القسم الأخير من الحدث المشترك ثقافياً. وفي هذا الاطار فان عبارة ميشيل فوكو أن "السيميائية هي طريقة لتجنب عنف التأريخ وشخصيته الدموية القاتلة عن طريق اختزاله الى الشكل الافلاطوني الهادئ المتمثل باللغة والحوار" توفرُ مفتاحاً لقراءة ما بعد كولونيالية للواقعة الفنية المذكورة. 

كتب كلمات القصيدة المغناة الشاعر المصري الراحل كمال عمار (1932- 2005) المتحدر من خلفية أزهرية والذي نشط في الاذاعة والتلفزيون المصري:
يا مالكاً قدري..... وقدركَ ليسَ يدركهُ سواكَ
ان جئتُ بابكَ عاجزاً انا لست املكُ الا ذاكَ
يا خالقى حبى لذاتكَ..... ليس يعلمهُ سواكَ
وإذا احتجبتَ جلالةً...... فبعينِ حبى كم اراكَ
فارحم من الأشواقِ قلباً كم يحنُ الى لقاكَ.
والقصيدة ذات نزعةٍ صوفية، تعبر عن مشاعر ضعف المخلوق وضآلته أمام عظمة الخالق، وعن الحب الآلهي. ولعل البيت: " وإذا احتجبتَ جلالةً...... فبعينِ حبى كم اراكَ" يحمل من الاستعارة ما يزيد عن معنى احتجاب الخالق ورؤيته ببصيرة المخلوق اذا ما تذكرنا أن المنشد نفسه بصير. انًّ موسيقى الجاز المصاحبة قد ارتبطت اصلاُ بالعازفين السود. اذ عُرف عن الجاز في مراحل تشكلهِ كطورٍ موسيقي امتزاجهُ بالألحان الكنسية. مما جعل المزج بين نص شعري عربي صوفي و معزوفة غربية مسيحية عمرها اكثر من 100 عام متسقاً في أبعاده الفيزياوية- الثقافية- التأريخية.
وقد تمت مطاوعة الآلات الموسيقية الغربية (وهي البيانو والكمان والغيتار والساكسفون) لتلائم الايقاع الشرقي وكلمات القصيدة العربية، وكذلك مطاوعة الآلات الشرقية (وهي العود والدودووك (آلة أرمنية) والرق والدف) لتتناغم مع االغربية منها في عزف المقطوعة الألمانية.
ان هذه الحوارية بين ثنائيات ضدية انما هي محاولة للبحث عن الروحانية في اطار دنيوي ما بعد حداثي لطالما شهد ارتفاع أصوات مناوئه. فنحن أمام حيز ثقافي تتفاعل فيه الضديات من دون أن تختلط، فتحضر العناصر تارة وتتوارى تارةً اخرى أو تمتزج لتنتج في النهاية تأثيراً متسامياً transcendental عند المتلقي يعبر حدود الثقافة الواحدة واللون الفني الواحد ويركز على حالة صوفية روحية لا ترتبط بمنظومة فكرية دون اخرى انما تخاطب الانسان الكوني كمخلوق يبحث عن المعنى. فيتحول الفن الى أداة للتسامي عن الدنيوي بالدنيوي نفسه.
ولصمت المنشد الذي استغرق ما يقارب الأربع دقائق من اصل تسعة دقائق ونصف في بداية الحدث ابراز للقيمة الفنية للمقطوعة الموسيقية الغربية مما يحدث حالة من التوازن الثقافي، ازاء أداء المنشد لقصيدة عربية دينية في الدقائق اللاحقة.
ان الواقعة الفنية هذه تحتضن أنظمة تواصلية متعددة ومختلفة، منها السمعي والبصري واللغوي والسيميائي، تتفاعل فيما بينها لتؤثر في المتلقي فتحدث حالةً روحية و تجربةً متكاملة لا تخلو من استفزاز ثقافي ممتع. فثنايا العمل تحمل شفرات ثقافية codesمتنوعة، يداعب كل منها حساً ويثير ردود فعل قد تتباين من متلقٍ لآخر بحسب مشربه الثقافي، وبحسب اطلاع هذا المتلقي ووعيه ونجاحه بفهم الاحالات المضمرة. و قد لا يقف عدم ادراك هذه الشفرات حائلاً أمام تفاعله، فيبلغ كل متلقٍ درجةً تتناسب مع حصيلته الثقافية وذائقته الفنية واستعداده الروحي.
مثنى مكي محمد
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

705 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع