أمام شباب وشابات العرب الكثير ليتعلموه

                                                                              

                      د. علي محمد فخرو

أمام شباب وشابات العرب الكثير ليتعلموه

يخطئ من يعتقد بأن مجتمعات الوطن العربي ستقبل صاغرة أو متعبة بالأوضاع الحالية المزرية التي وصلت اليها، بعد أحداث وفواجع الحراكات الجماهيرية العربية الكبيرة التي اجتاحت الأرض العربية عبر الثماني سنوات الماضية. هذا قول يتناقض مع تاريخ المسيرة الانسانية ومع المنطق ومع رياح التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية والتواصلية الكبرى التي تهب على العالم كله.

وبالطبع فإن فترات علق الجراح وتضميدها تتصف عادة بالهدوء الخادع، لكن ما يحمله المستقبل لا يمكن الا أن يحمل في أحشائه ما يصحح الحاضر. ولذلك فان مظاهرات الجياع والعاطلين عن العمل والمهمشين التي جابت شوارع العديد من عواصم العرب وأريافها ما هي الا النسائم التي تشير الى عواصف الأفق البعيد.
ولأن شباب وشابات الأمة العربية هم الذين سيصنعون ذلك المستقبل فان الحاجة ماسة لأن يذكروا بأهمية دراسة ووعي مسيرات بعض الأنساق السياسية والفكرية التي صنعت عالم اليوم. في مقدمة هذه الأنساق النسق الذي صنعته الايديولوجية الليبرالية عبر مسيرتها خلال القرنين الماضيين. لقد ولدت تلك الايديولوجية من رحم الحداثة، التي بدورها ولدت من رحم الثورتين الفرنسية والأميركية اللتين رفعتا شعارات تغييرات راديكالية اجتماعية وسياسية. لكن الليبراليين أصابهم الذعر من امكانية حدوث فوضى وصراعات دموية. ولذلك قرروا أن تكون ايديولوجيتهم وسطية، بين الراديكالية اليسارية واليمينية المحافظة. في قلب تلك الوسطية كان شعار الاصلاح التدريجي وعدم اختصار الوقت. وقدم الليبراليون صفقة متوازنة تقوم على تقليص امتيازات الطبقة المحافظة القديمة، ولكن دون اجتثاثها، وعلى تحسين أوضاع الطبقات العاملة والفقيرة من خلال السماح بتواجد تنظيماتها المدافعة عن حقوقها من جهة، ومن خلال القبول بدولة الرعاية الاجتماعية في حقول التعليم والصحة والاسكان والبطالة. ومن جهة ثانية.
وبالرغم من قيام الثورات الاشتراكية هنا أو هناك، وبالرغم من محاولة الانتقال الى النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي السابق، الا أن النسق الليبرالي في الحكم والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية ظل هو السائد والثابت عبر قرنين كاملين. من هنا ساد المجتمعات الغربية الهدوء والسلم الأهلي بصورة عامة. لكن الليبرالية انقلبت على نفسها عندما انتقلت من أصولها الكلاسيكية الى صورتها الجديدة: الليبرالية الجديدة العولمية البالغة التوحش والاستقطاب، بل وحتى المعادية لبعض جوانب الديموقراطية. لقد تم كل ذلك خلال الثلاثين سنة الماضية، بعد أن ادعى الليبراليون من أمثال السيدة المتوفاة، مارجريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، وأمثال المتوفى رونالد ريجان، الرئيس الأميركي السابق، بأن العمال والفقراء قد بالغوا في مطالبهم وأنهم بنقاباتهم القوية المنظمة يعرقلون الاقتصاد الرأسمالي الانتاجي.
اليوم يجري الحديث عن نهاية الليبرالية، بعد أن فشلت في تحقيق وعودها من خلال الاصلاحات البطيئة وقيام دولة الرفاهية الاجتماعية. فالاصلاحات تتراجع ودولة الرعاية الاجتماعية يجرى بناء حيادها الكاذب من خلال تخليها عن مسؤولياتها الاجتماعية ومن خلال هيمنة متطلبات حرية الأسواق التجارية على كل تصرفاتها.
أي أن الليبرالية أصبحت، بقصد أو بدون قصد، تعادي الديموقراطية الشاملة العادلة، التي تشمل السياسة والاقتصاد، والتي تصر على التوزيع العادل للثروة ولا تكتفي بوجود انتخابات وبرلمانات فقط.
ما الهدف من سرد تفاصيل تلك المسيرة على شباب وشابات الأمة العربية؟ الهدف هو تحذيرهم من الأهداف الخفية وراء الناقدين والشامتين لما جرى في الأرض العربية وذلك بقصد اقناع الناس بالتخلي عن شعارات الحرية والكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية، التي نادت بها حناجر الملايين من شعوب الأمة العربية، واستبدالها بشعارات غامضة تبطئ، بل وتعيق، انتقال المجتمعات العربية من أوضاعها المتخلفة الدموية الحالية، ومن علاقاتها الاجتماعية التسلطية الاستغلالية السابقة، الى أنظمة ديموقراطية تقوم على أسس الحرية والكرامة والمساواة والعدالة والمواطنة الحقة.
سيكثر الحديث عن العقلانية والسلم الأهلي ومخاطر الفوضى وجهالة الغوغاء، وتدمير فرص الاستثمارات الخارجية وحركة السياحة... الخ. ولكن سيجري القفز فوق قيم العدالة في توزيع الثروة والسلطة والجاه، وفجيعة الاستباحة الاستعمارية والصهيونية لكل الأرض العربية، وتصدع التضامن العربي، وتجديد الثقافة العربية والفقه الاسلامي، وغيرها الكثير الكثير.
للشباب العربي عبرة في مسيرة الأخطاء والخطايا للبرالية الكلاسيكية الغربية، التي لا تزال تنقل تلك المجتمعات من أزمة الى أزمة، ومعها مجتمعات العالم كله.
واذا كنا قد فصلنا مسيرة الأيديولوجية الليبرالية فلأنها النسق المطلوب في عصرنا. لكن هناك دروساً وعبراً في مسيرة الايديولوجيات الكبرى الأخرى. وهي الأخرى، تحتاج الى أن يؤخذ ويترك منها. مسيرة هذا العالم التاريخية مليئة بالوعود والأحلام الكاذبة. والذين يريدون أن يتصدوا للمستقبل من شباب وشابات هذه الأمة عليهم دراسة ذلك التاريخ، اذ حتى الآن ظلت تلك الأحلام والوعود وراء ألف قناع وقناع، والنتيجة هي عالمنا المريض التائه المأزوم الذي نراه أمامنا.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

682 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع