الدكتور مليح صالح شكر
شجعني مقال الدكتور رعد العنبكي عن السلطان عبد الحميد الثاني المنشور في الكاردينيا يوم الثلاثاء, 12 شباط 2013 على العودة الى ما يتضمنه أرشيفي الخاص من بعض المعلومات بشأن السلطان عبد الحميد، والتي اوردت بعضها في كتابي ( تاريخ الصحافة العراقية في العهدين الملكي والجمهوري) الصادر ببيروت عام 2010 عن الدار العربية للموسوعات.
وربما يجد القارىء الكثير من المعلومات المثيرة للجدل في حياة السلطان عبد الحميد وأدارته للدولة العثمانية والتي كان أقل ما قيل عنها أنها كانت إدارة إستبدادية. وقد تحدث الكثير من المؤرخين عن حياة السلطان وتصرفاته، ومنهم كُتاب وبحّاثة عراقيون معروفون، وأخترت من ناحيتي أن اكتب شيئاً عن أسلوب السلطان عبد الحميد في إدارة الصحافة.
ولإلقاء نظرة على أسلوب الدولة العثمانية في التعامل مع الصحافة، نرى أن الدكتور سنان سعيد يشرح مدى قلق السلطان عبد الحميد الثاني والذي تولى السلطنة عام 1876 من الصحافة، ويقول في بحث له (حرية الصحافة حتى 1917) المنشور ضمن السلسلة الاعلامية للدراسات في الصحافة العراقية، الصادر عام 1972 عن وزارة الاعلام ببغداد، أن عبد الحميد كان( يخشى على حكمه وحياته من خطر الصحافة)، وأصدر أوامره الى الصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، (بتكميم أفواه الصحافة، وغلق بعض الجرائد)، وفرض حكماً استبدادياً بتعطيله البرلمان (مجلس المبعوثان)، والدستور، (وشكل عام1877 هيئة رقابة جعلها تابعة لمديرية المطبوعات).
وفي البحث الذي أجريته خلال إعدادي لشهادة الدكتوراه في إنكلترا، إتضح لي أن مديرية المطبوعات هذه التي أشار إليها الدكتور سنان، هي مديرية المطبوعات الداخلية التي كانت إحدى دوائر وزارة الداخلية، سوية مع الإدارة العمومية للنفوس، ولعبت دوراً خطيراً خلال عهد السلطان عبد الحميد الذي اتسم بسفك الدماء. ومارست سلطات استبدادية واسعة النطاق على الصحف والصحفيين، وتولت الرقابة المسبقة على ما ينشر، ودست جواسيسها ومخبريها الذين يكتبون تقاريرهم التي كانت تسمى ( جرنال)، تصل أغلبها إلى السلطان شخصياً وشغلت حيزاً كبيراً من اهتمامه، بالرغم من عدم دقتها وإفتقارها للمصداقية.
ومن المثير أن سلطات ما يسمى بالانقلاب الدستوري عام 1908 عثرت في قصر يلدز على الآلاف من هذه التقارير قدرت حمولتها بحمولة عربة ( كارة)، وتضمنت أعمال ألف وأكثر من أولئك الجواسيس، تبين أن بعضها لم تكن له أية علاقة بالصحافة والصحفيين، بل تضمنت بلاغات الى مديرية المطبوعات، بعضها حول العلاقات الغرامية للسفير البريطاني! وهنالك معلومات ضافية أخرى بهذا الخصوص في كتاب باللغة الانكليزية
Findley , Carter V. Bureaucratic Reform in the Ottoman Empire, 1789-1922 , Princeton University Press , New Jersey
1980 , pp233-234 & 253-254
وعن طريق هذه المديرية كان قصر يلدز يرسل تعليماته إلى أصحاب الصحف، لأنها كانت الجهة الرسمية التي تراقب المواد الصحفية مسبقاً قبل طباعتها ونشرها، لمنع نشر التراجم عن الصحف الأجنبية، ولمنع استخدام الأسماء المستعارة في المقالات، وتملك المديرية قائمة بالممنوعات التي تشمل أنباء تعرض الملوك الأجانب للاغتيال، وأنباء السلطان المخلوع مراد باشا، والتضييق على المطبوعات الفكاهية لأن السلطان لا يحبها. وهو الأمر الذي أشار إليه بوضوح كلا من الدكتور سنان سعيد، و كارتر فندلي، وكذلك الصفحة رقم 200 من المصدر التالي:
Devereus, Robert, The First Ottoman Constitutional Period, Study of the Midhat Constitution and Parliament, Johns Hopkins Press, Baltimore, 1963, P.200
وكذلك في الصفحة السابعة من الجزء الثاني لكتاب: دي فيليب طرزي، تاريخ الصحافة العربية، المطبعة الأدبية، بيروت، وأعادت مكتبة المثنى ببغداد طباعته عام 1967.
وينسب كتاب :
Mears, Iliot Grinnell, Modern Turkey, The Macmillan Company, New York, 1924, pp 448-478
إلى الصحفي التركي أحمد أمين بك ، قوله أن من أكثر تعليمات ذلك السلطان المستبد، غرابة، هي أوامره بتشكيل لجنة رقابة، مهمتها الوحيدة هي التجسس على ( أول من يقرأ الصحف المحلية والأجنبية).
ولم تكن مديرية المطبوعات الداخلية تضم ما يكفي من الموظفين، فكل العاملين فيها هم، مديرها وخمسة مساعدين، وخمسة مميزين( مدققين) وأكثر من 12 مفتشاً يتولون رقابة الصحف والمطابع والمسارح، وقراءة المقالات قبل نشرها.
وأورد روفائيل بطي في الصفحات 138-139 لكتابه ( الصحافة في العراق) الصادر عن معهد الدراسات العربية بالقاهرة عام 1950 تعليمات الرقابة أيام السلطان عبدالحميد الثاني، ونسبها إلى كتاب باللغة التركية، وقال أنها تضمنت ما يلي:
1 / يجب قبل كل شيء تنوير الشعب عن صحة جلالة مولانا الملك الغالية.
2 / محظور على الصحف نشر أي شيء لم يقترن بمصادقة صاحب الدولة
وزير المعارف.
3 / محظور على الصحف نشر أبحاث طويلة مهما كان نوعها، أدبية كانت أم
فنية، بحيث لا يتسنى للصحيفة أو المجلة نشرها مرة واحدة، ولا يجوز
مطلقاً استعمال كلمة ( يتبع) أو غيرها من التعابير التي تدل على أن
للبحث صلة.
4 / لما كان ترك الفراغ أو وضع نقط متتابعة في المقال مما يسبب تقولات
وفرضيات لا طائل تحتها فلا يسمح باستعمال ذلك في المقال مطلقاً.
وفي هذه الظروف المظلمة تعذر على العراقيين إصدار الصحف والمجلات، وحين أتيحت لهم الفرصة، أو تراءى لهم ذلك بصدور التغييرات الدستورية العثمانية عام 1908، فصدرت الصحف، وأغلبها من الصحف الأدبية، لكنها لم تلبث أن تعرضت لذات الإجراءات القمعية التعسفية حين اتضح ان جمعية الاتحاد والترقي التي قادت الانقلاب الدستوري لم تكن بأحسن مما سبقها من حكم السلطان عبد الحميد، وكشفت عن أهدافها بأنه حركة طورانية تضم غلاة الداعين الى سياسة التتريك، ومحاربة العناصر غير التركية في الدولة العثمانية، فقتلت السلطات العثمانية الجديدة تلك الصحف الناشئة، وعطلت في عام 1912 صحفاً ومطبوعات عراقية لم يكن بعضها قد أصدر بعد عدده الأول، أو انها أصدرت عدداً واحداً فقط.
وأرّخ سنان سعيد وفندلي وأحمد أمين تفاصيل تفوق الاتحاديين في قمع الصحافة على السلطان الذي انقلبوا عليه، وأصبحت الرقابة على الصحف (أكثر قسوة من رقابة عهد عبد الحميد). وأدمجت في نيسان عام 1913 مديرية المطبوعات بوزارة الخارجية، بمديرية المطبوعات الداخلية، وأسندت لها مهمة تنفيذ أحكام قوانين المطبوعات والمطابع، وأنشأت لها فروع، سمي إحداها (مكتب الاستخبارات العمومية) الذي يتولى نشر الدعاية للحكومة، ونفي التقارير المعادية، التي تنشرها الصحف الأجنبية. وحمل الفرع الآخر اسم (مكتب التدقيقات) الذي انحصرت مهمته بتحليل الصحف المحلية والأجنبية على السواء، وأعداد تقارير بمضمونها تقدم الى الحكومة، وزادت القيود على المطبوعات، وتعرض الصحفيون لمحاولات الاغتيال في شوارع العاصمة العثمانية.
وطال القمع العثماني الاتحادي الصحفيين والكتاب والأدباء العراقيين، وتعرضوا للاعتقال والنفي في عام 1915 ، ومنهم عبد الحسين الأزري وإبراهيم صالح شكر وإبراهيم حلمي العمر وداود صليوة وعبد اللطيف ثنيان، بل أن الوالي جاويد باشا قام شخصياً بجلد إبراهيم حلمي العمر بسبب مقال كتبه العمر ضد الاتحاديين.
وبعد قيام الدولة العراقية، سمحت المادة 113 من القانون الأساسي العراقي(أول دستور) الذي صدر في 21 آذار 1925 لكل القوانين العثمانية المعمول بها عند صدور الدستور، بالبقاء حتى تسمح الظروف باستبدالها، ولذلك يستوجب البحث أن نتعرف على طبيعة القوانين والأنظمة العثمانية ذات الصلة بالمطبوعات والصحافة قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، ومنها سنوات حكم السلطان عبد الحميد الثاني.
وقبل أن تصدر أول صحيفة عراقية ( زوراء) عام 1869 بأربع سنوات، كانت الدولة العثمانية قد اكتشفت أن شؤون المطبوعات بحاجة للتنظيم، فأصدرت عام 1865 أول قانون عثماني للمطبوعات بقي نافذاً ثلاثة عشر عاماً حتى أوقف السلطان عبد الحميد الثاني عام 1878 العمل به، لصالح تعليمات تخول دائرة الرقابة فقط صلاحيات التعامل مع كل الأمور ذات الصلة بالصحف، والمطبوعات الأخرى.
وهكذا كانت (الزوراء) قد صدرت في ظل أول قانون عثماني للمطبوعات، لكن غالبية الباحثين في تاريخ الصحافة العراقية قد أهملوا تقصي آثاره، وفاتهم الاطلاع عليه، وكرسوا حديثهم على تعليمات دائرة الرقابة، وكأن تاريخ التشريع العثماني تجاه الصحافة قد بدأ مع تلك التعليمات، وكان بينهم المؤرخ عبد الرزاق الحسني، ورفائيل بطي، وفائق بطي، مع أن ( كنز الرغائب في منتخبات الجوانب) قد نشر عام 1878 نص قانون 1865.
وصدر القانون العثماني الأول في 1 كانون الثاني 1865، وتضمن الأحكام الهامة التالية:
- لا يطبع جرنال في الممالك العثمانية من دون إجازة من الدولة.
- على رعية الدولة أن يلتمسوا الإجازة من ناظر المعارف العمومية، وعلى الغرباء من ناظر الأمور الخارجية.
- المادة14: كل صاحب جرنال يطبع ما يغاير الآداب العمومية ومحاسن الأخلاق المليّة، ويحتقر الأديان والمذاهب الجارية، يغرم من ليرة واحدة إلى خمس وعشرين ليرة، أو يحبس من أسبوع إلى ثلاثة أشهر.
- المادة 15: كل صاحب جرنال يستعمل ألفاظاً وتعبيرات غير لائقة بمقام السلطنة السنية، أو بمقام مولانا المعظم، أو يتعرض لحكومته السنية، يغرم من خمس وعشرين ليرة إلى مائة ليرة، أو يحبس من نصف سنة إلى ثلاثة سنين.
-المدة 21 : من طبع ذماً في سفراء الدول الأجنبية ومرخصيها وسائر مأموريها المرسلين إلى الحضرة السنية، يغرم من ليرة إلى ثلاثين، أو يحبس من 8 أيام إلى 8 أشهر.
- المادة 26 : يمنع طبع الحوادث الكاذبة تعمداً وعن سوء نية وقصد، أو نقلها ودرجها، ومن فعل ذلك ، يغرم من عشر ليرات إلى خمسين ليرة، أو يحبس من شهر واحد إلى سنة تامة.
- المادة 31: المتضرر من مطبوعات الجرنالات ونحوها، له المحاكمة ابتداء ، أما القدح في الذات السلطانية والحكومة السنية ووكلاء الدولة العلية وفي الآداب العمومية ومحاسن الأخلاق ، فالدعوى عليه تقام من جانب الحكومة، وتحقير الأديان والمذاهب من طرف مأموري الأديان بموجب استدعاء الحكومة.
المادة 35 : هذه القوانين تعتبر دستوراً للعمل ابتداء من أول جنواري الإفرنجي سنة 1865.
وألزمت المادة الرابعة صاحب المطبوع(جرنال) الصادر في العاصمة، الأستانة، بإرسال نسخة من مطبوعه إلى مدير المطبوعات. أما من هو خارج العاصمة فيرسلها إلى الوالي.
وكذلك نص الدستور العثماني لعام 1877 في مادته الثانية عشر على أن (المطبوعات مطلقة في دائرة القانون) لكن تنفيذ هذا النص الدستوري ضاع في دهاليز البيروقراطية العثمانية، فشكلت لتنفيذها لجنة خاصة مهمتها إعداد قانون مطبوعات جديد يتلائم معها، وترأسها Server Pasha ومعه 11 عضواً ، وبعد شهرين من العمل رفعت دراستها الى الباب العالي الذي أحالها بدوره إلى البرلمان في 21 نيسان 1877، حيث درستها لجنة برلمانية من عشرة أعضاء، وناقشها البرلمان في 7 أيار بمشاركة ممثلي الولايات العثمانية وبينهم الحاج حسين من سوريا ويوسف زيا من فلسطين.
وأعترض النواب بشدة على بنود لائحة قانون المطبوعات الجديد، وأعتبروها بنوداً قاسية، حتى أن أحد نواب الأستانة أشار في مداخلته إلى أنها لائحة (لا تحمل سوى العقوبات)، وكان صادقاً في رأيه لأن 29 مادة من مجموع 35 مادة كانت مخصصة للعقوبات حصراً، وتعاملت المواد الست الباقية مع شروط صاحب المطبوع، ومديره.
ولأن السلطان عبد الحميد، كما تشير البحوث التاريخية لم يكن يحب الصحف الفكاهية، فقد تضمنت اللائحة مادة تمنع مثل هذه الصحف، حتى أن رئيس الوزراء (الصدر الأعظم) فرض قيوداً على نشر المطبوعات الفكاهية، وتسببت في إحدى المرات بحبس تيودور كاساب، صاحب مجلة( Hayal) الفكاهية لمدة ثلاث سنوات لأنه تجرأ على نشر كارتوناً يسخر فيه من مشروع القانون وحرية الصحافة، في وقت كان فيه البرلمان يناقش مشروع القانون الجديد للمطبوعات.
وقد رفض أعضاء البرلمان العثماني هذه المادة المقترحة لمنع الصحف الفكاهية، بالرغم من الدفاع المستميت عنها من قبل مدير المطبوعات، مجيد بيك، ومساعد ناظر الداخلية كوستاكي ، وأصروا أيضاً على إلغاء الكفالة المالية وخفض مدة العقوبات والغرامة المالية ، ثم أرسلوا اللائحة المعدلة إلى مجلس الأعيان ومن ثم الى الباب العالي.
ولأن الباب العالي كان يصر على ما في اللائحة قبل تعديلها في البرلمان فقد أحال التعديلات إلى لجنة حكومية جديدة، أوصت بما ترغب به الحكومة، وبعدم مصادقة السلطان عليها، وهو ما إرتاح له السلطان عبد الحميد، وطلب من سكرتيره الأول إبلاغ الصدر الأعظم بان على البرلمان إقرار اللائحة بصيغتها الأولى دون تعديل. حتى أن السلطان أشار إليها بنفسه في خطابه أمام دورة الانعقاد الثانية للبرلمان في كانون الأول 1877 ، وقال للنواب أنها ( يجب أن تسن)، فعادت اللائحة مرة أخرى الى البرلمان، لكنها لم تر النور لأن السلطان عبد الحميد أوقف في شباط 1878 العمل بالدستور وعطل البرلمان إلى أجل غير مسمى، وأتجه لممارسة الحكم الاستبدادي.
ويزعم سعيد باشا، الوزير الأعظم عام 1977 في مذكراته أنه ( حاول إقناع السلطان المصادقة على قانون المطبوعات كما عدله البرلمان، لكنه رفض)، دون أن يستذكر اللجنة الحكومية التي أوصت بعدم التصديق عليها، وهو الذي تولى منصب الصدر الأعظم تسع مرات، الثلاث الأولى منها بلقب رئيس الوزراء، في تشرين الأول 1879 وأيلول 1880 وتموز 1882 .
ويرى فيليب طرزي أن السلطان عبد الحميد الثاني كان لا يهتم بأمور الدولة بقدر اهتمامه بسلامته الشخصية والمحافظة على مركزه ، ولا يحب الصحف ، وأصدر ( أوامره بتقييد حريتها، وضيق عليها المراقبة حتى صارت جسماً بلا روح ، فما كانت تنشر سوى ما يطيب للسلطان من ألفاظ التفخيم والتعظيم والتمجيد في مدح عدالته رغم مظالمه واستبداده وسوء إدارته).حتى وصل به سوء الظن عام 1898 الى درجة ( وضع المطابع تحت إشراف الشرطة).
ونتيجة لتعطيل السلطان العمل بالدستور والقوانين الأخرى، وجدت الدولة العثمانية نفسها ، بحاجة إلى صيغة رسمية للسيطرة على إدارة شؤون المطبوعات، فأصدرت في 19 كانون الأول 1880 نظاماً للمطبوعات وتضمن الكثير من أحكام القانون المعطل مع تفاصيل دقيقة أخرى حول استبدال أسم المطبوع ومواعيد نشره ومحل طبعه، وتحديد المسؤولية في تحريك الدعوى القضائية ضد المطبوع ،ونصت مادته السابعة على أن صاحب المطبوع هو المسؤول الأول ، ومشتركة بينه وبين كاتب المقال إذا كان موقعاً بأسم كاتبه.
كما استبدل هذا النظام مصطلح( جرنال ) المعمول به منذ قانون 1865 الى مصطلح ( جريدة)، وتضمنت مواده من تسلسل 10 إلى 33 عقوبات بالغرامة المالية والحبس والتعطيل، وهي المواد السائدة في هذا النظام الذي يكاد أن يكون نظاماً للعقوبات وليس للمطبوعات.
وتحت قيود هذا النظام، لم تعد الصحف قادرة على استخدام حتى جملة( قاتل الملك) إطلاقاً ، ويحظر عليها الإشارة إلى (السلطان المخلوع مراد الخامس) بعد خلعه عام 1876، وهي السنة التي شهدت شهورها تولي ثلاثة سلاطين، حكم الدولة العثمانية وهم عبد العزيز الذي خلع عن العرش ومات منتحراً، ومراد الخامس الذي خلع بعد ثلاثة شهور من توليه، وفي 31 آب 1876 تولى السلطان عبد الحميد الثاني السلطنة وبقي فيها حتى جرى خلعه عام 1909.
وهكذا نسبت صحف الدولة العثمانية وفاة ملك وملكة صربيا عام 1903 الى( سوء الهضم) بينما الحقيقة أنهما ماتا قتلاً حين ألقى المتمردون بهما من النافذة بعد إطلاق النار عليهما، والحال نفسه مع الأميرة النمساوية، اليزابيث التي أماتتها الصحافة العثمانية ( بذات الرئة) وليس قتلاً، وغيرهم ممن مات (بالسكتة الدماغية) أو (الجمرة الخبيثة) وليس قتلاً أو مؤامرة ضدهم، مع تفاصيل أحداث أخرى أوردها الكتاب التالي:
Lewis, Bernard, The Emergence of Modern Turkey, Oxford University Press, 2nd Edition,1968,pp187-188.
ومن القصص الطريفة التي ينقلها لنا عبد الرحمن فوزي في كتابة ( الرقابة على المطبوعات في العراق ) الصادر عن وزارة الثقافة والاعلام، ببغداد عام 1981 ما يدلل به على غباء رجال الرقابة العثمانية، ويقول، أن ( رجل الكمرك) أيام السلطان عبد الحميد كان ممن يمارسون الرقابة، وأكتشف أحدهم ذات مرة عند تفتيشه لحقائب أحد الطلبة العائدين، كتاباً في الكيمياء، وتصفحه فوجد في صفحاته مصطلح ( H2O) وهو الرمز الكيماوي للماء، فأستشاط الرقيب غضباً، وصرخ في وجه الشاب العائد أنت (ضد الحكومة وضد السلطان) مما أدى إلى إصابة الطالب بالرعب لأن اختصاصه هو الكيمياء وليس السياسة، فرد الرقيب عليه (أني أعرف حيلكم ودسائسكم) فالمقصود ب(H 2 ) هو السلطان عبد الحميد الثاني، لأن الحرف الأول هو الحرف الأول من حميد، والرقم 2 يعني الثاني، أما الرقم O فيعني أن السلطان يساوى صفراً! وقرر منع دخول الكتاب لتعرضه ( للذات السلطانية العليا).
ولم تكتف دائرة الرقابة على المطبوعات في الدولة العثمانية بتلك القيود الصارمة، بل كانت تصدر التعليمات المتلاحقة بمنع استعمال كلمة(يتبع) للمقالات الطويلة،ومنع نشر الشكاوى، والأخبار ضد ملوك الدول الأجنبية،وبقي الحال على ما هو عليه دون تغيير حتى انقلاب عام 1909 وعزل السلطان عبد الحميد الثاني، والذي سماه المؤرخون ( الانقلاب الدستوري)، وحدث تغيير مؤقت لم تلبث جمعية الاتحاد والترقي بعده وأن عادت الى الأسلوب الحميدي الاستبدادي السابق في قمع الصحافة.
وأصدرت سلطات الانقلاب في البداية سلسلة من القوانين والأنظمة لتكون بديلة عن سابقتها، وأدخلت أحكاماً جديدة لنظام المطبوعات الصادر في 11 رجب 1327 هجرية، الموافق 29 تموز 1909 ميلادية ، وفسح بعضها المجال لكل من يرغب، بإصدار مطبوع ما دون الحاجة للحصول على الإجازة الرسمية، بل مجرد( إبلاغ نظارة الداخلية ) بتصريح موقع بأسم صاحب المطبوع وأسم مديره المسؤول في الأستانة، وإلى الولاة والمتصرفين في الولايات.أي أن نظام المطبوعات هذا قد ألغى شرط الإجازة المسبقة المعمول به في النظام الحميدي .
ومن المرجح أن هذه المادة هي التي أتاحت لعدد من العراقيين، ومنهم الوالد ، إبراهيم صالح شكر، فرصة إصدار صحف عراقية كثيرة في الفترة ما بين الانقلاب عام 1909 والحرب العالمية الأولى في 1914، لكن هذا التغيير الذي وصفه المؤرخ عبد الرزاق الحسني (بنسيم الحرية)، وغيره وصفها ( بالنهضة الفكرية والثقافية الواسعة) ، لم يستمر طويلاً فأنقلبت عليه السلطات العثمانية التي أصدرته، وهي جمعية الاتحاد والترقي التي تبنت سياسة طورانية تهدف الى تتريك كل ما هو غير تركي في ولايات الدولة العثمانية، وعادت الى استخدام شرط الإجازة لإصدار المطبوع، ومارست القمع والحبس والنفي والإبعاد لصحفيي وكتاب الولايات ، ومن بينهم عدد كبير من العراقيين.
وعدلت حكومة جمعية الاتحاد والترقي قانون المطبوعات لعام 1909 عدة مرات، ثلاثة منها في ثلاث سنوات متتالية، 9 آذار 1910 ،و2 آب 1911، وفي عام 1912 ، ثم تعديل رابع في آب 1914. وأحتفظ بين مقتنياتي التاريخية الخاصة، بنصوص هذه التعديلات كاملة ، ولذلك فأن دراستي لقوانين المطبوعات العثمانية بعد انقلاب عام 1909 تعتمد أساسـاً على هذا القانون والنظام اللذين أصدرتهما حكومة جمعية الاتحاد والترقي، ثم أنقلبت عليهما !
وتضمن نظام المطبوعات لعام 1909 ، 37 مادة رئيسية، ومادة مؤقتة واحدة، جاءت في أربعة فصول، تحت عناوين( كيفية النشر، والعقوبات، والقدح والإهانة، ومواد متفرقة). فألزمت المادتان الأولى والثانية جميع الصحف ، اليومية وغير اليومية، بأن يكون لها ( مديراً مسؤولاً عمره 21 عاماً على الأقل، ويعرف اللغة التي تكتب بها الجريدة) ، بينما ألغت المادة الثالثة شرط الحصول على الإجازة الحكومية لإصدار المطبوع ، ونصت على ما يلي :
( على كل من يريد نشر جريدة أو نشرة يومية أو غير يومية أن يرفع إلى نظارة
الداخلية تصريحا مخطوطاً موقعاً بأسمه وأسم المدير المسؤول في الأستانة،
وإلى الولاة والمتصرفين في الولايات، يتضمن عنوان المطبوع ،ومحل نشره
ونوعه وأوقات صدروه واللغة التي يصدر بها).
وهذه هي المرة الأولى التي يلغى فيها شرط الحصول على موافقة الحكومة لإصدار المطبوعات بعد أن كان قانون 1865 ينص على الحصول على موافقة نظارة المعارف العمومية، أي وزارة المعارف .
وفي الفصل الثاني من نظام 1909 جاءت أحكام العقوبات في 16 مادة، وتتضمن ما هو محظور نشره، وما هو مسموح به، فألزمت المادة الثامنة( إرسال نسختين من كل عدد) وفي يوم الطبع إلى أكبر مسؤول إداري ينتمي إلى نظارة الداخلية، وإلى المدعي العمومي ، وفرضت غرامة قدرها ( نصف ليرة عثمانية) على كل عدد لا يتم إرساله .
وحمّلت المادة الحادية عشر ، المدير المسؤول أولاً ، ثم صاحب المطبوع إذا كان أسمه منشوراً، وبعدهما صاحب المطبعة ، والبائع ( الموزع) ، مسؤولية ما تنشره الصحيفة، فيما حظرت المادتان الثالثة عشر والخامسة عشر،نشر القوانين والأنظمة قبل إعلانها الرسمي وجلسات المحاكم السرية، تحت طائلة عقوبة الغرامة المالية من ليرتين إلى عشر ليرات، وحجز الصحيفة عند الحاجة.
وتعاملت المواد من تسلسل 16 إلى 20 مع نشر المقالات المعادية للأديان ، وما يحرض على ارتكاب الجرائم، والتهديد للابتزاز المال، والمس بالكرامة والشرف، والأخبار المزورة والمحرفة، والرسوم المخلة بالآداب العامة ، وفرضت عقوبة الحبس من شهر إلى سنة ، أو الغرامة من 20 ليرة إلى مائة على المخالف لما يتعلق بالأديان ، واعتبار المحرض على الجريمة كمرتكب الجريمة نفسه ، وفي حالة عدم وقوع الجريمة بالرغم من التحريض، فيبدل العقاب إلى النفي المؤبد. وفي حالة الابتزاز المالي ، يعاقب المخالف بالحبس ما بين ثلاثة أشهر وثلاث سنين، والغرامة من عشر ليرات الى مائة، وعن نشر الأخبار المزورة بالحبس من ستة أشهر إلى سنة، وعن نشر الصور المخلة بالآداب العامة بالغرامة فقط من ليرتين إلى عشر ليرات.
وحافظت الحكومة بالمادة 23 من نظام 1909 على حقها في تعطيل المطبوع بعد محاكمة المدير المسؤول عن نشر أخبار التحريض على الجريمة، إذا ( ما اقتضت الراحة العمومية ذلك)، لكنها منحت المدير المسؤول حق طلب التعويض عن( الخسارة التي أصابته بسبب التعطيل). وقد غاب حق التعويض عن جميع قوانين المطبوعات العراقية التي صدرت بعد عام 1931 ، بل كانت تلك القوانين تسمح للمحكمة( بحجز التأمينات المالية) حتى يدفع الصحفي المحكوم الغرامة المالية المفروضة عليه.
ولم تستثن المادة 24 من نظام 1909 في أحكامها الجزائية أية وسيلة من وسائل النشر، بما في ذلك (الصور والمقالات والأوراق المخطوطة أو المطبوعة ، المباعة أو الموزعة في المحلات العمومية وأماكن الاجتماع، والجداول، والإعلانات التي تعرض على أنظار العموم).
وخصص الفصل الثالث، ست مواد ( للقدح والإهانة) ، ونصت المادة 25 منها على أن القدح هو كل( ما يعزى إلى شخص أو إلى هيئة ما من حادثة معروفة تمس بشرفه أو بسمعته) ، أما (الإهانة) فهي ( ما يعزى إليه بدون الاستشهاد بحادثة معروفة)، ووزعت المواد الخمس الأخرى حالات القدح والإهانة ، الموجهة إلى السلطان ، والملوك ورؤوساء الحكومات الأجنبية، وأسرة السلطان، وأعضاء مجلس الأعيان والنواب، والجيش والبحرية، وقناصل الدول الأجنبية ، والأهالي ، والوزراء ، وفرضت عقوبات تتراوح ما بين ثلاثة اشهر الى ثلاث سنين ،لإهانة السلطان، وشهر إلى سنة لإهانة الملوك الأجانب، و15 يوماً إلى ستة أشهر أو الغرامة من خمس ليرات إلى خمسين لإهانة أعضاء البرلمان والجيش والبحرية والقناصل الأجانب.
وفي تعديل عام 1912، حظر نظام المطبوعات على الصحف نشر كل ما يرسله لها،ضباط الجيش والبحرية والمتقاعدون منهم من آراء سياسية أو انتقاد السلطات العسكرية تحت طائلة عقوبة حبس المدير المسؤول الذي يتكتم على اسم وهوية الضابط الذي أرسل المقال .
ووردت سبع مواد متفرقة في الفصل الرابع تختص بطبيعة المحاكم التي تنظر في المخالفات الصحفية، وطريقة إقامة الدعوى، وهوية المجلات الأدبية والعلمية والمطبوعات الأجنبية. فحصرت بالمحاكم العادية صلاحية النظر في الدعاوى ، ولكن خولت المدعي العام المرافعات ذات الصلة بالقدح والإهانة ضد السلطان وأسرته، والإساءة للأديان، والتحريض على الجريمة ، ونشر الرسوم المخلة بالآداب ، وأن يثير المدعي العام بعد تلقيه مذكرة من وزارة الخارجية ، الدعاوى التي تتعلق بالملوك والقناصل الأجانب ، بينما تجري المحاكمات في قضايا إهانة النواب والهيئات الرسمية والجيش والبحرية وفقا لشكوى تحريرية توجه إلى وزارة العدلية ، من رؤوساء هذه الدوائر، ومن قادة الجيش . ومنع نظام 1909 إقامة الدعوى بعد مضي ثلاثة أشهر على تاريخ النشر ، كما منعت المادة 33 نشر حركات الجيش في البر والبحر إذا كانت الحرب وشيكة إلا بإذن خاص من الصدر الأعظم ، ومعاقبة المخالف بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين، أو بالغرامة من خمسين إلى 200 ليرة ، أو بكلتا العقوبتين معاً.
وأعتبرت المادة 34 المجلات الأدبية والعلمية، كل ( الكتب) ، وخولت المادة 35 مجلس الوزراء منع الصحف والمجلات الأجنبية من التوزيع في الدولة العثمانية، بينما ألغت المادة 36 قانون المطبوعات الصادر في 2 شعبان سنة 1281 هجرية، الموافق 4 كانون الثاني عام 1865 ميلادية، والذي سبق للسلطان عبد الحميد وأن عطل العمل به ، ومنح نظام المطبوعات لعام 1909 المعدل ، أصحاب الصحف والمجلات القائمة فترة شهر واحد لمراعاة أحكامه.
وخضع نظام 1909 وفي أوقات متقاربة جداً لعدة تعديلات، وكما يلي:
-القانون المؤقت في 16 فبراير 1328(1912)
- القانون المؤقت في 3 مارس 1328 ( 1912 أيضاً)
- القانون المؤقت في 9 مارت 1329 ( 1913)
- القانون المؤقت في 9 نوفمبر 1329( 1913 أيضاً)
- القانون المؤقت في 25 أغسطس 1330 (1914) .
وقد لجأت الحكومة الانقلابية العثمانية الى هذه التعديلات المتتابعة لأنها لم تكن تتحمل ما تكتبه صحف تلك الأيام ، فشددت القيود وبطريقة أدت إلى أحياء القيود الاستبدادية التي مارسها السلطان السابق عبد الحميد الثاني.
وعندما وجد بعض أعضاء مجلس المبعوثان بالأستانة أن تلك القيود قد خنقت الصحافة ، أثاروا التعديلات في مناقشات حادة شارك فيها نائب البصرة سليمان فيضي ، وقال ( أننا نقتل أذكى كتابنا ونخرس الأقلام ونسلب الناس حرية الكلام، ثم ندعي أننا نعيش في بلاد دستورية حرة ... فلماذا لا تشدد الحكومة هذا التشديد على المجرمين والقتلة بدلاً عن الكتاب القديرين وأرباب الأقلام الحرة) ، بينما قال نائب بغداد، الشاعر جميل صدقي الزهاوي أن أحكام نظام المطبوعات أصبحت ( ترمي إلى محاكمة الكتاب والمفكرين قبل المجرمين واللصوص)، كما يؤكد رفائيل بطي.
ويبدو أن تعديل 9 مارت 1329( 1913) كان أكثر التعديلات التي تركت آثارها على الصحافة العراقية لاحقاً ، واستخدمت الدولة العراقية أحكامه باستمرار والتي ألزمت صاحب المطبوع( أن يؤدي على وجه التأمين عن الجريدة والنشرة السياسية خمسمائة ليرة من الذهب في العاصمة، ومائة ليرة في الولايات ، وعن المجلات مائتي ليرة في العاصمة، وخمسين ليرة في الولايات) مع استثناء المطبوعات السياسية القائمة عند نفاذ هذا التعديل ، وبالتالي ألزم المطبوعات السياسية الجديدة فقط. كما ألزم التعديل المذكور أية صحيفة أن يكون لها ( مدير مسؤول مأذون من المكاتب العالية أو مجازاً بالدرس أو حائزاً الشهادة من المكاتب الإعدادية التي جعلت التدريس سبع سنوات)، وحظرت فقرة جديدة أدخلت على المادة الثالثة ، على أعضاء مجلس الأعيان والنواب وموظفي الدولة تولي منصب المدير المسؤول لأي مطبوع .
وفي التعديل في 3 آذار 1912 منح نظام المطبوعات ( حق التأليف ) لكل ما ينشر في الصحافة ( لصاحبه أو لورثته من بعده) .
مع تحيات: الدكتور مليح صالح شكر
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
1420 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع