يامحلى النصر بعون الله ..

                                                 

                                      سلام توفيق

هذا الموضوع هو الجزء الثالث والاخير من القصة
17 كانون الثاني تاريخ لايمكن ان انساه... ج1
لقد غدر الغادرون ... ج2

http://www.karemlash4u.com/vb/showthread.php?t=176843

نهضت صباحا وانا الذي لم انم الا سويعات قليلة بسبب اصوات القصف المستمر... كانت ملابسي العسكرية قد نشغت الى حد ما ...

ارتديتها على عجل وغادرت الفندق بعد ان دفعت عدد من الدنانير...في الطريق الى مراب السماوة كان بائع ساندويجات بيض وعدد من الجنود حوله ...شققت طريقي بينهم وحصلت على واحدة دفعت ثمنها وبسرعة اتجهت الى حيث تصطف الباصات نحو بغداد...لم اجد لها اثرا...كان هناك باص واحد متجه للناصرية...اقنعني (السكن) او صبي السائق ان اصعد معهم الى الناصرية فمن هنا لن اجد باصا يقلني الى بغداد... حال وصولنا الى المدينة انزلنا السائق بعيدا عن المراب الرئيسي بسبب قصف الجسور وانقطاع الطرق... قرب احد الجسور كانت حفرة بعمق 4-5 امتار وبنفس القطر احدثتها احدى قنابل العدو التي اخطئت الجسر بامتار قليلة...ولكنها عادت فاصابته اصابة قاتلة واستشهد عشرات من مستخدمي الجسر عسكر ومدنيين... تم نصب جسر خشبي صغير لعبور النهر لايتجاوز عرضه متر واحد وطوله حوالي 50-70 متر وكان هناك منتسب من الانضباط العسكري في كل جهة يحث السابلة على العبور ركضا وكان يهتز بقوة من اثر تزاحم الناس على استخدامه ...بعد عبوري بدقائق سمعت انهم ضربوه ايضا واستشهد وغرق عدد من السابلة...
كان مراب الناصرية قد ضرب ايضا واضطرت الباصات الى تحميل الركاب من مقتربات الجسر...مفاجاة هناك التقيت علي وهو شاب صغير لايتجاوز عمره 18 سنة وهو مطوع على صنف الطبابة نسب الى سريتنا ... اقبل علي مسرعا وكانه وجد ضالته...ابلغني بانه يود ايضا الذهاب لاهله في مدينة صدام -انذاك- ولكن لم يبقى معه الا دينار وبضعة دراهم... احرجني الموقف لان ماتبقى معي يوصلني بالكاد الى الموصل . ..فقلت له اصعد لايهم ساقرضك بضعة دنانير...وسانزل في الاسكندرية عند بيت شقيقتي لاقتراض مبلغ يوصلني الى الموصل...رفض علي فكرة نزولي لانني قد لا اجدهم هناك فمئات العوائل تركت المتطقة وهربت كونها هدف حيوي لطائرات العدو بوجود منشات التصنيع العسكري هناك...صعدنا في باص الى مدينة الكوت ...كانت قد نالت نصيبها من القصف والقتل...مراب المدينة تحول الى بركة من دماء الشهداء الذين سقطوا نتيجة قصف الطائرات الامريكية... عبرنا الى الجهة الاخرى بزورق لايتسع ل4 اشخاص في الحالات الاعتيادية لكننا كنا 10 !!!!
كان يتمايل كما الريشة في مهب الريح ووصلنا بقدرة الجبار العظيم... حصلنا على باص حشر فيه ضعف عدد مايستوعبه ونمنا في ممراته ... المهم ان نصل الى بغداد احياء ...
هناك كانت اللوحة لاتختلف عن سابقتها من حيث الدمار والموت...وصلنا ونحن لم يبقى معنا درهم واحد...طلب مني علي ان اذهب معه الى البيت ليعيد لي ما اقرضته له وفوقها بضعة دنانير تكفيني لاصل للبيت...استوقفنا تاكسي وقلنا له سندفع عندما نصل الى البيت ...كان عراقيا شهما وافق دون تردد ورفض اخذ الاجرة الا بعد ان توسلنا به ... رفضت ان استريح او ابيت عند بيت علي ...كان والداه العجوزان طيبان جدا واعطوني 5 دنانير ثم اعطتني والدته بعض الطعام ودعوا لي بسلامة الوصول
كان الوقت ليلا وبعد معاناة وصلت للموصل ومن ثم الى البيت حيث بقيت عدة ايام ...حتى وجدت الظروف تجبرني على العودة وهذه كانت معاناة مضافة لن اتطرق لها وسابداء معكم من وقت وصولي الى منطقة البصية
حال وصولي ارسل النقيب جواد امر السرية بطلبي وبداء بسيل من الشتائم والاهانات بسبب تركي الخدمة وهددني بانه سيحيلني الى انضباط الفرقة ثم الى المحكمة ثم ... الخ ...كان ملازم اول سالم من اهالي الموصل حاضرا ...ما ان انتهى امر السرية من محاضرته حتى بادرته بهجوم اعنف وافهمته بتركنا في الصحراء دون ان يسال عنا احد ثلاثة ايام ...وان عليه ان يرسل معي (ربعه) الهاربين وقلت له بالحرف الواحد هل تظنني مواليد 70 (كانت تلك المواليد مستجدة في الخدمة يومها) حتى تخيفني ...اذا اردت ادخالي الهروب فانا عائد الى البيت فالهروب هو هو اسبوعا كان ام شهرين...ولكني ايضا سامر على مقر الفرقة لاعطي لاستخبارات الفرقة اسماء الجنود الهاربين والذين تغطي عليهم ...في امان الله
تركته وكنت انوي فعلا ان اعود للبيت ولكن طبعا لن امر على مقر الفرقة لان نصفهم كان دخل الهروب ايضا !!! وتاهت الامور عليهم...لحقني ملازم اول سالم وهو يحاول اقناعي بالبقاء وهو يقسم ان امر السرية لم يدخلني الغياب اصلا...وجاءني بولص فاخبرني بانه لم يغيب ايضا فقنعت بالبقاء...
كانت الايام التالية صعبة جدا حيث لاتصلنا الارزاق ولا المياه الا بشق الانفس... حتى سيارات الحوانيت لم يكن فيها الا بعض التبغ والتمر الخايس... كنا 3 جنود تعييننا هو كوب رز جاف واحد لكل 24 ساعة نستلمها من امر السرية...نسينا الشاي المحلى بالسكر فكنا نمضغ التمر مع الشاي المر.. حتى عندما ضرب مذخر الفرقة وتطايرت اكياس الطحين واختلطت حباته مع حبات الرمل كنا نذهب لنحضر بعض الطحين لعمل الخبز ولكم ان تتصورا كيف كنا نهضمه ونبتلعه مع حبات الرمل. جائنا يوما ضابط توجيه كبير اجتمع معنا فطلب منه احد الجنود ان يوفروا لنا شايا وصمون وتتن واقسم باننا سندافع حتى الموت رغم اننا لانملك الا قليل من العتاد والجبهة التي تمسكها سريتنا كسر جناح فرقتي مشاة 26 و45 طويلة جدا وتحتاج الى كتيبة على الاقل...فكان جوابه توجيهيا لايغني ولايسمن ...ادركت حينها اننا في جيب مهلك ونهايتنا الماساوية مسالة وقت ليس الا...
كنا نتابع الاخبار المتضاربة حول موافقة العراق على الانسحاب تارة ونفيه تارة اخرى ثم تولد لنا شعور بان الهجوم البري ات لامحالة ... القشة التي قصمت ظهر البعير ذلك اليوم والذي يصادف تاريخه مثل اليوم تماما 23-2-1990 اي قبل 23 عاما بالضبط هو طلب امر السرية مني ان اشغل دبابتي واقوم بالمرور على جميع دبابات السرية المتفرقة على امتداد كيلومترات كونها لاتعمل الا بالسحب...وكان طلبا تعجيزيا ومعناه الموت المحقق لانني لن افلت من طائرات التحالف التي تتسيد الجو...فرفضت بشدة فعاد الى التهديد وهنا لم اتمالك نفسي فاجبته بما يستحق وقلت له انا ذاهب وانت تعرف انني انتظر الراتب فقط بعد ايام قليلة ولكن الان طز بالراتب في امان الله...
انطلقت الى الطريق النيسمي باتجاه تل اللحم- الناصرية ...لحقني هو وملازم اول سالم وهما يهددان تارة ويتوسلان تارة اخرى فلم التفت واصلت طريقي ...كانت الامطار حولت الارض الى طينية لزجة ...جمعت بعض الصمون المتساقط على الارض من احدى عجلات الايفا المقصوفة ونزعت ماحوله من الطين وحشيت جيوب قمصلتي العسكرية بما تيسر لي منه... مشيت ساعات وساعات اخرى اتنقل من عجلة الى اخرى ...وصلت الى الناصرية صعدت في باص متجها الى البيت كان صوت الرئيس صدام حسين ملعلعا في الراديو وهو يعد الشعب بالنصر مذيلا خطاباته بمقولته الشهيرة (يامحلى النصر بعون الله) !!! كنت اضحك في سري هل هو يتحدث عنا ام عن جيش اخر غير مرئي ..كيف ستنتصر على جيش جرار مجهز باحدث المعدات وجنوده مدللون وتصلهم الارزاق والماء وكل مايشتهونه ..في المقابل 11 دبابة مرمية في جبهة تمتد 50 كيلومترا وهي لاتعمل وليس فيها عتاد كاف وجنودها نصفهم هاربون والباقون منهكون بلا امل .. انها حرب غير متكافئة والشروع بها والسير باتجاهها هو منتهى الغرور والغباء ..وكنت اتسائل كم من الوحدات حالها كان مثلنا وربما اسوء..
وصلت الى البيت ..وفي صبيحة يوم 26 شباط اي بعد ثلاثة ايام تحديدا .كنت استمع للراديو وهو يعلن عن.شروع العدو بالهجوم البري على قطعاتنا وكان قاطعنا المهلهل هو الثغرة الاولى والاكثر ضعفا التي استغلتها قوات التحالف ولا اعرف مصير من تبقى من زملائي بما فيهم الضابطان الذين ذكرتهم ..ولكني اعرف ان زميلي بولص وحازم من الموصل كانا ايضا قد تركا السرية قبل وقوع الهجوم البري ونجيا بحياتهما والتقيتهم لاحقا
ولازلت الذكريات عالقة في ذهني كانني عايشتها بالامس فقط ..

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

715 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع