الصابئة او المندائيون

                                                 

                      الاستاذ فؤاد يوسف قزانجي


الصابئة او المندائيون

يوحنا المعمدان (4 ق.م.- 26م.تقريبا)، المسمى لدى الصابئة والمسلمين :( يحيى) ، هو يوحنا ابن الكاهن اليهودي زكريا وزوجته اليصابات . وكان الملاك جبرائيل قد بشر زكريا بميلاد ابنه . وقد ولد يوحنا قبل ولادة يسوع المسيح بستة اشهر. عندما شب اصبح يوحنا ناسكا يقضي معظم اوقاته في الصوم والصلاة والتامل ، وعد قديسا او نبيا . قال عنه يسوع المسيح : ”الحق اقول لكم لم يقم بين المولودين من النساء ،اعظم من يوحنا المعمدان “ .
وبعد اكتشاف وثائق ومخطوطات كهوف قمران في عام 1948، رجح بعض الباحثين المسيحيين ان يوحنا كان كبير طائفة الاسينيين شبه اليهودية ، وان البرية التي كان يدعو فيها الناس الى التوبة هي برية قمران ،حيث كان للاسينيين دير خاص بهم ، ولعله اول دير عرفناه في التاريخ يختص بالمتنسكين اوالرهبان الذين كرسوا حياتهم للله . (1)
كان الاسينيون طائفة متبتلة نشأت حوالي 130 ق م واختفت اخبارها بعد عام 40 م. وعرف عن الاسينيين انهم يكرهون القتال واعمال التجارة، وانهم يمارسون الزراعة والاعمال اليدوية، ولم يكونوا يمارسوا  شعائر العبادة في اور- شاليم (القد س ) ولا يقبلون اضحيات الحيوانات لانهم يعتقدون انها عادة وثنية. وكان ابرز تقاليدهم الدينية الاغتسال الطقسي بالماء*، والتعبد للله والايمان بالنبي موسى وشريعته الاولى وتكريم الملائكة .(2)
كان النبي يوحنا قد سمى نفسه السابق ،وقد تعمد السيد المسيح على يديه في نهر الاردن . ويبدو انه كان شخصية مؤثرة في المجتمع اليهودي بحيث ان الملك هيرودتس قد غضب لتنديده بزواج الاقارب، وذلك لرغبته في الزواج من امرأة اخيه . كان يوحنا في دعوته يمثل النقاء الروحي والمثل الاخلاقية العالية. وقد التقى بالسيد المسيح وامن به لانه صار يقول:"توبوا لانه اقترب ملكوت السماء ،فان هو الذي قيل باشعياء النبي القائل : صوت صارخ في البرية ،اصنعوا سبله مستقيمة."
وراى يوحنا ان كثيرا من كتبة اليهود وكهنتهم من الفريسيين وبعض الصدوقيين فد قدموا اليه طالبين معموديته فقال لهم :"يااولاد الافاعي ،مالي اراكم تهربوا من الغضب الاتي،اصنعوا ثمارا
تليق بالتوبة. لاتفكروا بانفسكم وحسب بل قولوا : لنا ابراهام او ابراهيم ابا، لان كل شجرة لاتثمر تقطع وترمى بالنار. انا اعمدكم بماء التوبة ولكن الذي ياتي بعدي هو اقوى مني." وكان يوحنا يقصد بذلك السيد يسوع المسيح .(3)
اما يوحنا فقد امسكه ملك اليهود (هيرودتس) الذي كان يحكم اليهود تحت سلطة الرومان، واوثقه
وطرحه في السجن من اجل هيروديا امراة اخيه التي كان يحبها .عندما حان عيد ميلاد الملك ، رقصت ابنة هيروديا وكانت تدعى سالومي ،امام الملك ، فاعجب برقصها وافتتن بها ووعد بقسم
امام علية القوم، انه مهما طلبت سالومي يعطيها . واشارت اليها امها ان تطلب رأس يوحنا مقدما على طبق . فتردد هيرودتس في البداية ، لكنه اخيرا وافق على تنفيذ رغبة سالومي، وامر بقطع راس يوحنا.
بعد ذلك حضر تلاميذ يوحنا وطلبوا جثته ليدفنوه فسلمت اليهم . وذهبوا بجسد يوحنا المعمدان او النبي يحيى الى دمشق حيث دفن قرب بقايا معبد قديم . وفي  القرن  السادس  بنى بقربه المسيحيون اكبر كنيسة في دمشق والحقوا مدفن يوحنا بالكنيسة ، وبعد قرن تقريبا جاء احد الخلفاء الامويين ، وحينما شاهد تلك الكنيسة الرائعة ومكانتها ،اصر على تحويلها الى جامع، فهدمها ، وبنى مكانها الجامع الاموي ، ولحسن الحظ بقي مدفن يوحنا المعمدان في جانب من الجامع .
ويرجح ان اصول الصابئة المندائيين تعود الى طائفة المغتسلة الذين هاجروا اولا الى دمشق ، حيث دفنوا نبيهم يوحنا ،الذي تحول اسمه عند توسع الاسلام الى يحيى في اوائل القرن السابع للميلاد بعد استيلاء المسلمين على بيت المقدس اوفلسطين و ثم على سورية .
(اما الصابئة المندائيون فانهم يذكرون انهم يتبعون تعاليم ادم، ولديهم كتاب (كنزا ربا) باعتباره مصحف ادم ، غير ان تقادم العهد على الرسول الاول للدين الصابئي  فقد جاء النبي (يهيى) اي يحيى  ليخلص الدين من المذاهب الدخيلة ، ولم يكن يهيى رسولا بل نبيا موحدا خاصا بهم .)(4 ) ويذكر ان مصحف كنزا ربا قد ترجم لا ول مرة  من الارامية الى العربية في عام 2001 وقد انكب على ترجمته وتفسير مغالقه الدكتور فوزي قوزي عضو المجمع العلمي العراقي واستاذ الارامية في قسم اللغة  السريانية  بجامعة بغداد ، واشرف على رصانة لغته العربية الشاعر االعراقي المتميزعبد الرزاق عبد الواحد .
تفسيرات صابئية :
نجد في الرواية الصابئية التي يرويها الملاك (هيبل زيوا) الذي نزل الى العالم كاشفا كيفية ولادة
يحيى والمسجلة في كتابهم المسمى (اد راشا اد يهيى ) اي تعاليم يحيى والذي يدعى بالسفر المقدس الثاني ، ويتضمن حيا ة يحيى من بدأ ولادته العجيبة وتربيته في الجنة ثم نزوله الى الارض ليبلغ رسالته الى الناس حتى تاريخ وفاته ومن ثم صعوده الى السماء.
يلاحظ ان ترتيب نص هذا السفر المندائي قد جاء مماثلا لترتيب الانجيل المقدس . واليك جانبا من حياة يحيى كما جاء في الرواية المندائية التي سجلت على لسان الروحاني (هيبل زيوا) الذي اوصى اولا بكتاب (الكنزا )العائد الى ابينا آدم ثم روى قصة حياة يحيى على النحو التالي:
 " في ذلك العهد يولد ابن يدعى (يهيى بن ابو صادأ ) وياتي من ابيه في شيخوخته ، ويكون عمر امه (انشوي ) مائة سنة حينما تحبل به وتلده في  (هرمها ). واما يهيى فسوف ينشا في اورشليم حيث يكون الايمان في صدره وسوف يطوف الاردن، ويعمد الناس ،وسوف ياتي مشيها (المسيح ) ويتقدم بتواضع ليصطبغ (ليتعمد) وينتفع بحكمته ،لكن مشيها الخ . غير انه في اليوم الذي يتمم يهيى مهمته ، اتي اليه واظهر له حينما يكون ابن 3 سنوات ويوم واحد لآكلمه عن العماد واشرح له النعمة الالهية ! وفي آخر الامر استل روحه من جسده وارفعه بالطهارة والنقاء الى (المي دنهورا ) واعمده في الماء المنعش ، ماء الاردن الزلال والبسه لباس المجد واضع على مفرقه التاج النير ، واسمعه انشودة القلب الطاهر تلك الانشودة التي تشبه الاغنية التي يغنيها ملوك النور ويسبحون بها (ملكا دنهورا) الى دهر الداهرين."
 
ويبدو لنا وبحسب دراسة المصادر المندائية الموثوقة ان النبي يحيى لم يمت بالطريقة التي روتها المصادر التاريخية التي نعرفها ،انما المعتقد لديهم انه مات موتا طبيعيا وهو فتى حينما نزل اليه من السماء (مند ادهي) الذي هو بمثابة ابيه  ولمس يده فسقط جسده في الحال ميتا ولحقت روحه بروح مندادهي  متجهين نحو السماء (5) .
وبحسب اعتقاد الصابئة ،ان نبيهم يسمى ايضا (مندا) وتقوم فلسفته الدينية على ثنوية الصراع بين العالم العلوي و العالم السفلي اي ان النور في مجابهة الظلمات. اذ ان روح الانسان منبثقة عن النور بينما جسده هو وليد الظلمات. وهو هدف حقد العالم السفلي واداة هذا الحقد في آن واحد. وان الروح في عرفهم ملتصقة بالجسد تتوق الى الموت المحرر. وهي في حال قبلت بالحقيقة المنزلة وبما يترتب عليها من تبعات اخلاقية ، اوفي حال تمت فروض الدين مع التقوى، فسوف تواصل صعودها تدريجيا بعد الموت نحو (قصر النور) اي ما يطلق عليه الجنة . وفلسفة علماء الدين من الصابئة هذه ، تشير الى تاثير بعض مفاهيم الديانة المانوية على الديانة الصابئية عند ظهور ديانة ماني في العراق في العصر الفارسي-المسيحي بين القرن الاول والقرن السابع للميلاد .
ان ابرز الكتب المند ائية هي كما قلنا (كنزا ربا )، وهو الذي يجمع المعتقدات الدينية والكونية للدين وفيه تركيز على شخصية يهيا . والكتاب الثاني لدى الصابئة هو (سدرا د-يهيا) او سفر يحيى ، الذي يعتقد ان هذا الكتاب وجد بعد استشهاد يوحنا ،اي في القرن الاول للميلاد ،  اذ انه ملحق للسفر الاول ، ويضاف الى ذلك مجموعة من النصوص الطقسية امثال (سدرا د نشمابا) اى سفر النفوس او  الارواح .(6)
 يعتقد الباحث ان الصابئة المندائيين ،الذين كانوا من اصول ارامية ويتكلمون الارامية التي  كانت قد انتشرت في بيث-ارام (سوريا ) وفي  (فلسطين) حتى القرن الاول للميلاد ،قد هاجروا الى دمشق بعد مقتل  نبيهم يوحنا على يد ملك اليهود ، ونقل اتباعه جثمانه الى دامشقي او دامشق حيث دفن نبيهم في وسط دمشق في ارض كانت معبدا قديما . وبعد غزو الرومان الى سوريا ، انتقل معظم  الصابئة الى مدينة حران ،عاصمة  مملكة اورهوي  الارامية بين 120 قبل الميلاد- 216 للميلاد ، اما حران فقد كانت احدى المدن التجارية المعروفة منذ القدم ، اقيمت على الارجح  في زمن الملك الكبير سركون الاكدي ومعناها بالاكدية الطريق .
 ويبدوا ان الصابئة قد هاجروا بعد ذلك ، الى جنوب العراق قرب منطقة الاهوار ومجاري الانهار وخاصة قرب هور الشنافية في مدينة العمارة ، لآن التغسيل في النهر من اهم تقاليدهم. ود ليلنا على ذلك ان جميع الكتب المقدسة المندائية مكتوبة باللغة الارامية الشرقية . وحجتنا الاخرى انهم اختاروا ارضا لللاستقرار بها هي منطقة تحف بالجداول والبحيرات التي يسميها العراقيون بالاهوار ، لكي يتم اداء اهم طقوسهم التي تعتمد على التغطيس في الماء ، الذي اتخذه المسيحيون علامة على التعميد  اي انتقال الطفل المتعمد  من خطيئة ادم الى احضان المسيح وبدون خطيئة  ادم .
 ولذلك نجد ان معظم اصول المندائيين العراقيين من مدينة العمارة  في جنوب العراق وهناك بضعة الاف منهم  مازالوا يعيشون في سوريا ولبنان ، ومنهم اولئك الصابئة الحرانيون الذين برز نخبة منهم مع  جمع من السريان  في علوم الفلك وفي الرياضيات والميكانيكا ابان نشوء الثقافة السريانية وتطورها خاصة بين  القرنين الثاني و السابع  للميلاد . ومن ابرز تلك الشخصيات المندائية : عائلة ال قرة الحرانية منهم  العالم ثابت بن قرة . وهناك بعد ذلك ابو اسحق الصابي وزير الطائع وكذلك المطيع، وابراهيم بن هلال الاديب الذائع الصيت الذي تولى ديوان الرسائل والمظالم سنة  960 م . ويؤيد هذا الرأي، ما كتب في موسوعة ويكبيديا عن الصابئة :اذ تذكر ” يرجح كثير من الباحثين ان الصابئة شعب ارامي عراقي قديم حيث ان لغتهم ارامية شرقية .”
 هناك رأي اخر يذكر انهم من بقايا الشعب الارامي الذي سكن العراق القديم جنوب بابل . و ان الصابئة عاشوا على ضفاف الانهر في وادي الرافدين لعبادة : مار ادريوتا اي السيد  الرب، واتخذوا من جهة الشمال قبلة (اباتر) ، والتي كان قد دعاها السومريون (نيبورو) لوجود عالم النور (الجنة) “ ؟. اما  طقس التعميد  فيعتبر من اهم اركان الديانة المندائية ،..ويجرى هذا الطقس في ايام الاحاد؟ والاعياد وعند الولادة (كما في المسيحية) واحيانا عند الزواج (7) ، وان الصلاة (براخا) التي يلتزم بها رجال الدين ثلاث مرات ،والتي تسبق الصلاة، اهمها طقس قصير يجري قرب مجرى ماء الذي يدعى (الرشامة) اي الرسامة وهو تعبير سرياني ذو اصل ارامي .
 يقع عيدهم الرئيسي في نهاية اذار ويمتد حتى نيسان ، كما هو الحال بالنسبة الى الاقوام القديمة في بلاد الرافدين والمسمى عيد الاكيتو الذي مارسه البابليون والاشوريون ،كما اقتبسه منهم الفرس والاكراد في اعيادهم الرئيسية .
اما العيد الثاني (دهواريا) فيقع بداية السنة المندائية في شهر تموز! الذي كان من الاشهر المقدسة في العراق القديم ، تقديسا للاله دموزي او تموز، ويعقبه عيد (شوشيان) وهو واقع في  يوم واحد الذي يدعوا فيه الصابئة الى حلول السلام على الارض، وهو بمثابة عيد ميلاد النبي يوحنا  الذي سمي على الارجح  بالنبي يحيى من قبل المسلمين .
ان الصابئة في الوقت الحاضر في موطنهم العراق لا يتجاوزون  في اعتقادي المائة الف ، بعد ان عمل الاضطهاد للاقليات دوره في العراق منذ عام  2003 .

 احد الباحثين وهو  صباح مال الله : يرى ان المندائيين هم من اصول عراقية قديمة قد يعودوا الى عصر ابراهام الاب الروحي للانبياء اي الى نهاية القرن 21 قبل الميلاد بحسب ما حدده الباحثون المختصون في العهد القديم (التوراة) ، وهو امر لايزال خاضع للجدل التاريخي ، ثم يمضي في القول فيذكر :
 ( ان الصابئة قد امنوا بالاله الواحد الذي اشار اليه ابراهام ، الذي كان يسمى (لوكال-ديمير-آن-كي-آن ) اي ملك الهة ماهوفوق وما هو تحت . ويعني ذلك رب السماوات والارض . وقد آمن الصابئة المندائيون بتعاليمه واحتفظوا بصحفه ومارسوا طقوس التعميد؟ وقد عرفوا فيما بعد باسم ناصورايي او كوشطا اي حراس العهد الذين اسسوا دور عبادة تسمى بيوت النور والحكمة ،اي كوشونمال او بيت مندا ويعني بيت المعرفة ) . (8)
ويذكر ان الصابئة هم الرواد الاول في صناعة الفضة في العراق والمشرق وكذلك النقش على الحلي الفضية والذهبية .

المصادر
1-عبودي،هنري. معجم الحضارات السامية .طرابلس:جروس برس ،ط2 ، 1991
(ص 80)
2- فغالي ، الخوري بولس. المحيط الجامع .بيروت: 2003 (ص 99)
3- انجيل الرسول لوقا (الاصحاح 8-40)
4- الرومي، شهاب الدين ياقوت .معجم البلدان. (المجلد 2 ص 308
5- الحسني، عبد الرزاق .الصا بئون في حاضرهم وماضيهم.ط7 /1982 (ص 73-74)  
(6)عبودي، هنري.معجم الحضارات السامية. المصدر السابق.ص 814-815
7- موسوعة ويكبيديا تحت عنوان الصابئة.
8-مال الله ، صباح . لندن . اينانا. كم

*-لذ لك تجد من طقوسهم العماد والتطهير بالماء الجاري ( مشبوثا )  والذي استنه يوحنا  المعمدان .

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

811 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع