الموصل بعد التحرير - الحلقة (٢١): تدمير التراث وتخريبه

                                                  

                      أ.د.سمير بشير حديد

الموصل بعد التحرير - الحلقة (٢١): تدمير التراث وتخريبه

التراث هو الوعاء الذي يستوعب تاريخ الأمة، وهو صمام أمانها، يشكل الهوية، ويرسخ الثقافة، ويحقق الذات، ويعبر عن المجد والاصالة والعزة والإباء. والموصل غنية بآثارها، عريقة بتراثها ومساجدها وكنائسها، صنعت لها تاريخا حضاريا ضاربا في عمق الوطن والزمن وعبر التاريخ. فالمحافظة على هذا التراث عبر الأجيال المتعاقبة هو واجب وطني وانساني يقع على عاتق الدولة وعلى كل من يحب وطنه ويخلص له.

 مع الأسف الشديد ومنذ أن سيطر داعش على مدينة الموصل في 10 يونيو عام 2014م وهو يحاول من خلال بث أفكاره البالية والبعيدة عن الإسلام وذرائعه الوهمية وبدعه محو حضارة وادي الرافدين بعد أن أقدم على تفجير وهدم المعابد والكنائس والمساجد وبيوت الله ومراقد الأنبياء والمتاحف والنصب والقطع الأثرية التي تعود لآلاف السنين، ولم يسلم منهم حتى المقابر! بهذه المناسبة كتب الأستاذ الدكتور أحمد الحسو، مقالا عن هذا الحدث المصاب الجلل بتاريخ 27/7/2014، انقله إلى حضرتكم مع تصرف بسيط، قال فيه: ((لقد فجر المسلحون الطارئون على مدينتنا العزيزة آثارنا ومواضع ذكرياتنا وذكريات آبائنا واجدادنا وانتزعوا منا فعلا قلوبنا واذكوا احزاننا في محاولة لإلغاء ذاكرتنا التاريخية.... لم نكن نتخيل يوما ان يغيب جامع النبي يونس عن المشهد الموصلي ويحرم المسلمون من صلاة الجمعة وصلاة التراويح فيه في شهر رمضان الذي صادف مع الحدث الجلل، وان تأتي عليه يد الهدم والتفجير وان يكون النصيب ذاته لجامع النبي شيت وجامع قضيب البان وجامع النبي جرجيس ومقام يحيى ابي القاسم وحسينية في حي گوگجلي شرقي الموصل وقبر الشاعر الموصلي الشهير وبقية الرموز التراثية، مثل نصب الموسيقار الشهير ملا عثمان الموصلي والسواس ... ويضيف قائلا: ولم نكن نتخيل ان تؤول كنيسة مطرانية السريان الكاثوليك في الموصل والتي يبلغ عمرها أكثر من 1800 سنة الى اعمال التخريب وقد كانت رمزا للإخاء المسيحي الاسلامي منذ نشأتها وعبر عقود واجيال.

وقد انعكس هذا الأسى الذي يطبق على قلوب الموصليين داخل المدينة وخارجها في تصريحات وعبارات مؤلمة كتبها موصليون وعراقيون على مواقع متعددة وصل بعضها الى بيت الموصل ومنها ما جاء على لسان موصلي مغترب مكلوم وهو السيد محمود، حيث قال: انها كارثة بكل المقاييس. انها بقدر هدم الكعبة في مكة لمن يؤمن، وبقدر ازالة برج ايفيل في باريس لمن لا يؤمن! ... للأسف لا اجيد شخصيا سوى البكاء والولولة بعد معاناة التغرب ما يقارب الاربعين سنة. صدقوني ما اتذكره من مدينتي هو كل تلك المعالم التي ازيلت الان! يا لها من كارثة، ويا له من ألم....))

في بداية احتلال داعش للموصل لم يُظهروا نياتهم المبيَّتة على الآثار التاريخية والمباني الدينية القديمة، وبدؤا بالجوامع وجردوها من العديد مما فيها، على سبيل المثال:

1- منعوا منعا باتا تعليق لوحات وزخارف تحوي الآيات القرآنية أو الكتابات داخل الجوامع أو حتى على جدرانها. وقد أزيلت تلك الآيات والزخارف (معظمها خطوط نادرة لخطاطين ونحاتين قدماء مشهورين).

2- منعوا الصلاة في الجوامع التي فيها قبور.

3- أزالوا كلمة (شهيد) الموجودة في أسماء بعض الجوامع (وهي كثيرة بالموصل).

4- كانوا يعترضون على وجود محراب في الجوامع ويقولون : (هذه بدعة).

فلقد دمرت آثار مدينتنا وكنوزها التاريخية وتراثها التي تعود إلى آلاف السنين، ولم يبقى شيء إلا تعرض للدمار والتخريب.

وقد شاهدنا على شاشات التلفاز كيف يحملون بيدهم المعاول والمطارق ومعدات الهدم الكهربائية والجرافات وسيارات الشحن الثقيلة، ويكسرون آثار نينوى في الحضر والنمرود وغيرها.  

نقدم في أدناه عرضا موجزا لأهم المواقع التي تعرضت للتدمير من قبل داعش وحسب عمرها التاريخي:

أولا: آثار الحضارات العراقية القديمة: فقد دمرت داعش معبد نابو الذي يبلغ عمره 2800 سنة في موقع نمرود الأثري كما دمرت معبد إله الحكمة والكتابة في بلاد الرافدين. وقامت جرافات داعش بإزالة بوابتي مشكي ونركال الأثريتين لمدينة نينوى القديمة في الموصل وقاموا بإزالة الملامح البشرية لثور مجنح كبير، ثم عاودت استكمال تدمير الأثار التي دمروها جزئيا من قبل. وقاموا أيضا بتدمير آثار مملكة الحضر التي نشأت في القرن الثاني الميلادي. ودمروا سور نينوى الأثري الذي يقع قرب جامعة الموصل ويعد كنزا تراثيا ويضم مكتبة آشور بانيبال الشهيرة وهدموه مع الثور المجنح الموجود فيه.

ويعود تاريخ سور نينوى إلى 3000 سنة ويعدّ أعجوبة هندسية دفاعية مقامة من الآجر الطيني الطبيعي إلى جانب الأبراج الدفاعية المختلفة والمشيدة من الحجارة الصلبة، التي جعلتها من أشهر وأبرز عواصم العالم في العهود القديمة، والتي تحدثت عنه الكتب المقدسة السابقة بالكثير من الدهشة والانبهار. وكان سور نينوى التاريخي قد بني في عصر الإمبراطورية الآشورية ليحيط بالعاصمة نينوى الواقعة شرق مدينة الموصل الحالية، ويمتد بشكل مستطيل، وهو مبني من حجر الحلان الأسمر، تتخلله أبراج حجرية وله خمس عشرة بوابة للدخول والخروج من وإلى المدينة، وكانت الأبواب محصنة بشكل جيد، وقد اكتشف العلماء خمس بوابات هي بوابـة ماشـكي، بوابة نركال، بوابة أدد، بوابة شمش وبوابة هلسي، وهذه الأبواب يربطها سور نينوى المطمور في معظم أجزائه. إن عملية هدم سور نينوى وبوابته تخفي وراءها عملية نهب للنفائس الأثرية. وقد أكد شهود عيان أن تنظيم داعش قام بنقل القطع المهمة من السور قبل هدمه إلى مواقع تابعة للتنظيم في نينوى. كما دمر الدواعش بعد سيطرتهم على مدينة الموصل ما يقرب من 100 قطعة أثرية، كما قاموا بنقل عددا من القطع الأثرية تضم وثائق نادرة تعود للحضارات البابلية والسومرية والعباسية وتم تهريب محتوياتها عبر سوريا الى خارج العراق لبيعها والمتاجرة بها لتحصد مبالغ طائلة.

ثانيا: الكنائس: قام الدواعش بتدمير الكنائس، وغالبيتها كنائس تراثية، كان يزورها الزوار من أوربا وأمريكا ومختلف أرجاء العالم، مثل: كنيسة مطرانية السريان الكاثوليك في منطقة الميدان في الموصل والتي يبلغ عمرها أكثر من 1800 سنة، ودير الآباء الدومنيكان وحرق مكتبته في منطقة الساعة، ودير ماركوركيس في الحي العربي، وكنيسية القديسة بربارة في كرمليس شرقي الموصل، ودير مار بهنام الذي اسس في اواخر المئة الرابعة للميلاد. كما قاموا بإسقاط تمثال سيدتنا مريم العذراء من على كنيسة الطاهرة قرب المستشفى ونزع الصليب من على الكنائس.

ثالثا: الجوامع: قام الدواعش بتفجير نحو 50 جامعا ومسجدا في مدينة الموصل بحجة وجود قبور فيها وعدم جواز الصلاة فيها، وأهم هذه الجوامع: جامع النبي يونس، وجامع النبي شيت، وجامع النبي جرجيس، وجامع الخضر، وجامع علي الهادي بمنطقة راس الجادة في الساحل الايمن والمعروف باسم قضيب البان، وحسينية في حي گوگجلي شرقي الموصل و...الخ. ودمروا أيضا مقام الإمام يحيى أبو القاسم ابن الحسن ابن الإمام علي بن ابي طالب (رضي الله عنه) في حي الشفاء والذي يعدُّ من النفائس الاثرية الشاخصة والعديد من المواقع الأثرية الأخرى. يعد جامع النبي يونس (على نبينا وعليه السلام) من مساجد العراق التاريخية الأثرية، يقع على السفح الغربي من تل التوبة ويعود تاريخ بناءه قبل حوالي 1300 عام.

لهذا الجامع خصوصية خاصة، فمن التقاليد التي كان يحرص عليها أهل الموصل وسكان شمال العراق إلى الأمس القريب هي الصلاة في جامع النبي يونس في أول جمعة بعد رجوعهم من الحج أو العمرة.

وللنبي يونس (عليه السلام) خصوصية خاصة في القرآن الكريم: فالسورة العاشرة من القرآن الكريم تحمل أسم يونس، كما أن اسم النبي يونس (عليه السلام) مذكور في القرآن الكريم مرتين بهذا الاسم فضلا عن كنيته بذي النون. أما المكان المشيد عليه الجامع فاسمه "تل التوبة" وهو تل له خصوصية خاصة وكان الناس منذ القدم يأتون إلى هذا التل يتباركون به عند القحط أو انحباس المطر لأنه التل الذي وقف عليه قوم يونس وأعلنوا توبتهم، وهم القوم الوحيدون الذين متَّعهم الله تعالى إلى حين، قال تعالى (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ) (يونس:98).

فهل يُعقل أن توضع تلك الكميات الهائلة من المتفجرات على ذلك المكان المقدس وتُفجَّر ويُخرَب الجامع بالكامل بتلك الطريقة التي أبكت معظم أهل الموصل والعراق والمسلمين في أرجاء المعمورة؟ قال تعالى "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ" البقرة (114).

 

رابعا: المناطق الأثرية:

كما دمر الدواعش المناطق الأثرية كقلعة باشطابيا الأثرية التي بناها الخليفة الأموي محمد بن مروان سنة 80 هـ/669 م ، وقلعة " تلعفر" عبر تفخيخها ونسف معظم أبراج أسوارها القديمة، فضلا عن نبشها بحثا عن الآثار الموجودة في الموقع ونهبها

خامسا: القبور: ولم تسلم حتى القبور من عبثهم فذهبوا إلى المقابر الموجودة في الموصل وأزالوا جميع الشواخص الموجودة فيها، وقاموا أيضا بتدمير قبور شخصيات موصلية معروفة جيدا مثل قبر الشاعر الشهير أبي تمام الطائي وقبر المؤرخ الإسلامي الشهير ابن الأثير الجزري ونصب الملا عثمان الموصلي. وقام عناصر من داعش بنبش قبر "علي الصغير" تحت المنارة الحدباء.

وبهذه المناسبة أروي لكم واقعة حدثت معي شخصيا: بتاريخ ١٠ أكتوبر من عام ٢٠١٤م، اتصل بي أحد أبناء عمومتنا (مشكورا) يقول: بلغنا من قبل داعش برفع القبور في مقبرة أم التسعة المجاورة لمسجد أم التسعة في محلة حمام المنقوشة والتي يفصلها عن المسجد جدار، أو نسف المسجد والمقبرة وتحويلها إلى ركام. وحيث أن مسجد أم التسعة ومقبرتها من اهم معالم محلة حمام المنقوشة. فالمقبرة مدفون بها كبار آل الحديد (منهم والدي وجدي) وآل ملو علو والسناجرة، إضافة إلى العديد من علماء الدين ومنهم الشيخ اسحاق السنجري صاحب الطريقة البدوية والشيخ عبد الرزاق محمد شيت خليفة الشيخ خضر ابن حورية ابن السيد سلطان الرشيدلي البرزنجي توفي سنة 1372هـ واخذ الإجازة العلمية والطريقة القادرية من الحسن الحبار سنة 1288هـ وأنشأ تكيته سنة 1291هـ. وقد زار مقبرة أم التسعة (مقبرة الست شاه زنان) احدى زوجات سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنه حسب ما مكتوب على باب المسجد الذي جدد كذا مرة آخرها عام 1309 هـ، وكانت مقرا للتكية البدوية. ولما لمسجد أم التسعة أثر كبير على سكان العائلة والمنطقة، فقد قررنا بتاريخ ١٤/١٠/٢٠١٤م نقل رفاة جميع المدفونين سواء من أقاربي أو غير أقاربي لأن غالبيتهم غير معروفين، وتبرعت مناصفة أنا شخصيا وابن عمتي رجل الاعمال صلاح ابراهيم حديد، تحمل نفقات الحفر والنقل والدفن في مقبرة بيت حديد خارج المدينة ووضعهم بقبر جماعي لتعذر تشخيص العديد من رفاة الموتى.

 سادسا: المباني والعمارات: وقام عناصر من الدواعش بتدمير العديد من المباني والعمارات من أجل سرقة مواد البناء. فهناك عمارات سكنية غير مكتملة البناء في الجانب الشرقي من جامعة الموصل مؤلفة من عدة طوابق قاموا بتدميرها من أجل سرقة الحديد الموجود في صبتها. أما من الجهة الشمالية للجامعة، ومقابل باب الزراعة للجامعة فهناك حائط طويل من البلوك قاموا بتهديمه وسرقة البلوك الموجود فيه.

أخلص إلى القول: لم يسلم من بطش داعش وظلمهم لا إنسان ولا حيوان ولا آثار ولا تاريخ ولا مباني ولا جوامع ولا كنائس ولا حتى القبور لم تسلم. وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ. سورة ابراهيم (42) .... صدق الله العظيم

ومن هنا اناشد الحكومة العراقية ووزارة السياحة والاثار العراقية الى:

١- مطالبة دول العالم ومنظمة اليونسكو العالمية والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وبالتعاون مع الإنتربول الدولي، لاعادة جميع الاثار العراقية المفقودة والمسروقة والمتاجر بها إلى موطنها الأصلي العراق باعتبارها إرثا حضاريا وثقافيا.

٢- تخصيص موازنة مالية لاعادة ترميم الاثار المدمرة وبصورة خاصة التي أشرنا اليها في مقالنا هذا.

٣- القيام بدور وطني لترميم ما يمكن ترميمه والاسهام بعملية احياء التراث المهدم وتجميع قطعه قطعة قطعة بطرق فنية علمية  يعرفها الخبراء بشؤون الاثار.

٤- دعوة جميع علماء الاثار والمختصين في هذا المجال لعقد مؤتمر في بغداد واستضافة علماء اثار معروفين على مستوى العالم لمناقشة أنجع السبل لاعادة ترميم الاثار المدمرة.

الاستاذ الدكتور سمير بشير حديد

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1002 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع