مدرسة القديس يوسف وعبق الماضي

                                            

                     المهندس / أحمد فخري

     

      

    مدرسة القديس يوسف وعبق الماضي
هي مدرسة ابتدائية اهلية مختلطة تقع في شارع 52 ببغداد تأسست في الخمسينات من القرن المنصرم و تميزت بانها  تخرج الاوائل على العراق باغلب السنين لكون مستوى تدريسها عالي جداً. وهذه قصتي مع تلك المدرسة العظيمة.
في عام 1958 ادخلني اهلي بالروضة بمدرسة تدعى راهبات مريم ببغداد، هذه المدرسة لديها شهرة عالية كونها من المدارس الاكثر انضباطاً ومستوى التعليم فيها مرتفع جداً. كان سني وقتها 4 سنوات. وكالعادة، لم ترق لي المدرسة فالنوم في البيت اجمل حيث دفئ السرير وحضن الوالدة الحنون والانفلات التام من سيطرة الراهبات الشديدات. لذلك تعودت ان اقوم بصرف حافلة المدرسة اغلب الايام حينما تأتي لنقلي للمدرسة في الصباح الباكر واخبرهم باني غير آت بذلك اليوم وهكذا دواليك حتى مضت السنة ولم احضر سوى ربع المدة لكن الوضع كان يتغير في بعض الاحيان حينما يكون الوالد متواجداً بالدار فقوانينه صارمة وعقابه لا يحتمل لذلك كنت اذهب للروضة وامري الى الله (ورجلي فوق رقبتي). وبعد ان انتهى العام الدراسي قامت عائلتي بنقلي الى مدرسة جديدة تبعد فقط مئة متر عن دارنا بالكرادة الشرقية وتدعى مدرسة القديس يوسف الاهلية. وكما تعودت بالعام الماضي ففي اليوم الاول قررت ان اجلس بالدار وان ارفه عن نفسي وان امتنع عن الذهاب للمدرسة. الا ان والدتي اخبرتني بان الامور قد تغيرت بهذه المدرسة الجديدة، فالغياب منها مستحيل حتى لو كنت مريضاً وعلى فراش الموت. حاولت بشتى الطرق ان اتملص من الذهاب لكن وعوداً بالعقاب المخيف المرعب وضعني بحالة من الخوف المفرط لذلك قررت ان احترم نفسي واسير الى هذه المدرسة الجديدة التي رمتها الاقدار على طريقي كي اشقى واتعذب.
كانت للمدرسة مدخلان رئيسيان الاول من الجهة الشمالية وفيه بوابة كبيرة بامكانها ادخال الطلاب والسيارات بآن واحد وهذه البوابة تطل على ساحة الصغار. اما الباب الثاني من الجهة الجنوبية فهو باب صغير يطل على المطعم ثم الساحة الصغار(هكذا كنا نسميها لانها مرتبطة بالصفوف من التمهيدي وحتى الصف الثالث الابتدائي. الساحة الثانية (ساحة الكبار) كانت تشمل صفوف طلاب الصف الرابع والخامس والسادس الابتدائي. كان يفصل بين الساحتان بوابة حديدة لا يسمح فيها للطلاب المنتسبين لكلتا الساحتين العبور الى الساحة الثانية. وبالوسط كانت بناية وغرف الإدارة التي تطل على الساحتان.

      

         

كان اليوم الاول يوماً تشوبه المحاضرات الادارية إذ ان الراهبات والاساتذة قاموا بتوزيعنا على الصفوف والقوا علينا شرحاً مفصلاً عن نوع الدروس التي سنتلقاها والفعاليات التي سنقوم بها.
بالايام التي تلت، صار ذهابي الى المدرسة بانتظام كبير ووجدت ان المدرسة ليست ذلك البعبع المخيف الذي كنت اتخيله. لاني سرعان ما بدأت اعمل صداقات جديدة مع زملائي في الصف التمهيدي. اذكر ان اقرب صديق لي في ذلك الحين كان طفلاً يدعى معتز غريب جابر والده مهندس وهو صديق لوالدي، هم من الطائفة المندائية. لقد كنا اثنان لا يفترقان ابداً إذ كنا نلعب سوية ونأكل سوية حتى عندما يدق الجرس ونتوجه الى بيوتنا لتناول وجبة الغداء فانها تكون سوية ايضاً، فاما يأتي معتز معي لدارنا واما اذهب معه لدارهم ثم نعود بعد ذلك للمدرسة مسرعين من حيث اتينا خوفاً من التأخير المصحوب بالعقاب. كان معتز طفلاً لطيفاً جداً وكنت سعيداً لاني وجدت فيه الصديق الذي اتفاعل معه والعب معه بايام الاجازات وايام الاحاد. بقينا على هذا المنوال عاماً دراسياً كاملاً حتى اخبرتنا احدى الراهبات بان المدرسة ستقيم حفلاً كبيراً بمناسبة نهاية العام الدراسي وستستدعي فيه اولياء امور الطلاب لذلك سيقوم الطلاب باداء فعاليات كثيرة كالغناء ورفع العلم والاناشيد الوطنية ومسرحية تقدم على ركح المدرسة. قامت الراهبة كرستين (رحمها الله) المسؤولة عن صفنا باختيار الطلاب الذين تعينهم لاداء الفعاليات المختلفة. كان من نصيبي ان اكون الممثل الرئيسي في مسرحية بعنوان (الطبيب الماهر). والقصة كانت كالآتي: يسدل الستار وتظهر زميلتي (ايمان) وهي حاملة طفلتها الصغير وهي تغني لطفلتها اغنية قصيرة تعبر عن حنان الامومة. لكنها تكتشف ان الطفلة تبكي كثيراً لذلك يتلبسها القلق والبكاء، فيدخل على الركح صديقي معتز (الذي اخذ دور ابو الطفلة) فتشكو الام من مرض وعياء طفلتها. فيخبرها بانه سيقوم بالاتصال بطبيب العائلة كي يأتي لعلاج طفلتهم المريضة. يرفع سماعة الهاتف ويطلب الطبيب كي يأتي ويكشف على الطفلة. وبعد ان يضع سماعة الهاتف بقليل يدق جرس الباب ويدخل العبد لله حاملاً حقيبة صغيرة لابساً صدرية بيضاء، اسلم على الاب وعلى الام ثم اقوم بفحص الطفلة (دمية طبعاً) ثم ابدأ بالتفكير قليلاً ثم ابدأ بالكلام.
- لقد اصابت ابنتكم وعكة صحية بسيطة ستتعافى منها حالما تأخذ هذا الدواء ان شاء الله.
اقوم باخراج دواء من الحقيبة واعطيه للام فتقوم الام بشكري وتقول.
(شكراً لك ايها الطبيب الماهر)
مدة المسرحة لا تتجاوز 10 دقائق.
بعد انتهاء المسرحية وباقي الفعاليات من عزف لفرقة الموسيقى على آلة الكلارينا والتي كنت عضواً فيها كذلك. يقوم مدير المدرسة (الاستاذ حنا رحمه الله) بالقاء خطبة للحاضرين من اهالي الطلاب والمدعوين ثم يقرأ اسماء الطلاب الناجحين بتلك السنة.
في العام التالي اي حينما دخلت الصف الاول تغيرت الامور تماماً. فقد فقدت صديقي معتز لاني علمت من والدي ان هاجرت عائلته كلها الى امريكا. والحدث المهم الثاني هو اني بدأت اخرج من مرحلة الامية الى مرحلة النور لاننا بدأنا نتعلم الكتابة والقراءة لذا شكل ذلك تغيراً نوعياً في اللون الذي صرت ارى فيه العالم. بالاضافة الى القراءة والكتابة فقد أدخلنا الى درس يدعى (درس الدين). طبعاً درس الدين هو للديانة المسيحية بحكم ان المدرسة مسيحية. وهنا اعلمتنا الراهبة المسؤولة عن صفنا (المرحومة سنتتين) بان على الطلاب المسلمين والذين كان عددهم 5 من مجموع 30 بامكانهم الخروج الى الساحة اثناء درس الدين.
رجعت بذلك اليوم وانا فرحان جداً لانني ساحصل على 4 ايام بالاسبوع فيها حصة دين من مجموع 6 ايام. وهذا شيء جيد جداً يتمناه كل طفل ذو الستة اعوام، لكني حينما اخبرت عائلتي بهذا الموضوع رفضوا رفضاً قاطعاً واخبروني باني يتحتم عليَّ حضور درس الدين مع اخواني المسيحيين لان ذلك شرف عظيم وانهم يعبدون نفس الاله الذي نعبده، وبما انني اتلقى دروس الديانة الاسلامية بالبيت فهم لا يعتقدون ان هناك ضرر في ان اتلقى درس الدين المسيحي بالمدرسة بشكل متوازي طالما انه لا يتعارض مع مفاهيم ديني. وافقت على مضض لاني كنت قد هللت بوجود فراغ استطيع اللعب فيه مع باقي زملائي المسلمين اثناء درس الدين الا ان قرار العائلة كان قطعياً لا يقبل النقاش. رجعت في اليوم التالي واخبرت (الماسير) الراهبة برغبة عائلتي في حضوري لدرس الدين فتبسمت ورحبت بي كثيراً. كنت المسلم الوحيد في صفي ممن يحضرون درس الدين. وفي اول درس من دروس الدين قامت الراهبة بترتيل صلاة من الكتاب المقدس وطلبت منا ان نردد ورائها ففعلنا ذلك ثم قمنا بتكرار نفس الصلاة مراة عدة حتى لصقت الكلمات في ذاكرتنا. رجعت في ذلك اليوم والقيتها على مسامع عائلتي إذ قلت،
السلام عليك يا مريم يا ممتلئة نعمة الرب معك مباركة انتِ في النساء ومباركة ثمرة بطنك يسوع يا مريم القديسة يا والدة الله صلّي لاجلنا نحن الخطأة الآن وفي ساعة موتنا .
صفق لي اهلي بحرارة وهنؤوني لاني تعلمت الصلات المسيحية ما عدى اختي الكبيرة فقد اعترضت على عبارة (يا والدة الله) وقالت اننا نقدس السيد المسيح لكننا نعتبره رسول من عند الله وليس ابنه، فالتفتت والدتي وقالت، هذه ليست مشكلة ابداً، وبما ان ذلك يتعارض مع ديننا فكل ماعليك فعله يا ولدي هو ان تقول بسرك عندما تصل الى هذه النقطة بالذات (استغفر الله)  وبذلك تكون قد حافظت على دينك واحترمت دينهم.
في اليوم التالي عملت بوصية امي وبدأنا نرتل نفس الصلاة، وحينما بلغت المقطع (يا والدة الله) صرت اردد استغفر الله بسري. الا ان شفتاي كانت تتحرك فانتبهت الراهبة على حركات شفاهي. وعندما انتهى الدرس جائت عندي وسألتني عن الشيء الذي كنت اقوله بسري فاخبرتها بما دار بيني وبين عائلتي فابتسمت ومسحت على رأسي وقالت لا عليك، نحن سعداء بجلوسك بيننا. والشهادة لله لم نلاحظ يوماً اي نوع من التفرقة تمارس ضدنا من قبل الغالبية المسيحية طوال اعوامنا التي عشناها باحضان تلك المدرسة العظيمة.
في السنين التي تلت اصبحت جزءاً من تلك المدرسة كما اصبحت المدرسة جزءاً مني لأني تفاعلت معها بشكل تام واصبحنا اساتذة وطلاب وراهبات اسرة واحدة. صار كل واحد منا يتذكر الاسم الثلاثي لجميع طلاب صفه وذلك بسبب تكرار الاسم في بداية كل يوم.
توالت السنين وكنت من الطلاب المتفوقين بالمدرسة ولو ان هناك طلاب كانوا اكثر مني تفوقاً مثل ليث محمد باقر (حالياً طبيب اخصائي عضام ولديه مستشفى خاصة بالامارات) ومازن احمد الجنابي (حالياً طبيب وبروفسور اخصائي الامراض السرطانية بلندن) وهيثم جميل جمعة (حالياً طبيب اخصائي بالامراض البولية) وفارس فتحالله شاشا (حالياً صيدلي) وزيد فاضل الصفار (حالياً طبيب اخصائي جراحة قلب) ومنح فؤاد ترزي (حالياً مهندس مدني ولديه شركة انشائية بامريكا)  ومازن البير قليان (حالياً مهندس مدني ولديه شركة انشائية بامريكا) وليث مارتيل ديماركي (حالياً مهندس بترول ويعمل بالامارات).
كانت مدرستي تتبارى مع مدرسة مدام عادل ببغداد في تخريج الاوائل على العراق كل عام. لان المستوى التدريسي فيها كان عالياً جداً.
سمعت ان في السبعينات من القرن المنصرم قامت الحكومة العراقية بتحويل هذه المدرسة العريقة الى مدرسة حكومية إذ قامت بتغيير اسمها من مدرسة القديس يوسف الاهلية الى مدرسة المكاسب. مباشرةً بدأ مستواها بالانهيار حتى اصبحت من المدارس الحكومية العادية. سمعت انه توقف العمل فيها تماماً كمدرسة والآن استعملت كمأوى للاجئين من الموصل بعد دخول داعش. وهكذا انهارت احدى اكبر صروح العراق التعليمية.
في الختام اود ان احيي مدرسي ومدرسات ومدير ومعاوني واداريي وعمال المدرسة الذين عملوا على تعليمنا وتثقيفنا ورعايتنا.
احييك استاذ حنة (مدير المدرسة) احييك استاذ جورج (مدرس لغة عربية) احييك استاذ يلدا (مدرس حساب) احييك ماسير كرستين احييك ماسيرسنتتين احييك انسة عائدة (مدرسة الرياضة) احييك انسة جانيت احييك انسة فاتن احييك العم اسرائيل (فراش المدرسة) ورحم الله الاموات منكم فقد علمتمونا واحسنتم تعليمنا ورعايتنا.

 

 

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

622 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع