من حكايات جدتي ..الحكاية الرابعة

                                  

                      بدري نوئيل يوسف

        

ولاية بطيخ :

كثير من الباحثين يعتقدون ان الحكايات الشعبية محاولة لاستبدال فشل الانسان في تلبية حاجات معينة لم يقدر على تحقيقها، لكن الحكايات الشعبية واضحة في سياقها وتستهدف في طياتها معان في ظل منهج فلسفي تبرز بعبر وفضائل الأخلاق والسلوك الإنساني، وتنقل الاتِّعاظُ والاعتبارُ بما مضَى عبر الزمن للأجيال القادمة، تحمل في ثناياها  افكار ووسائل الرقي بالعقل الانساني، وتعالج قضايا واقعية حقيقية بأسلوب سردي قصصي ممتع بمختلف انواع الحكايات الشعبية منها دينية أو فلسفية أو سياسية أو اجتماعية أو حتى اقتصادية تتخذ اساليب كأسلوب التهكم والسخرية والفكاهة الهادفة لا لمجرد إضحاك المستمع أو القراء أو تدعو للمحبة والسلام بين شعوب الأرض الواحدة وطهارة القلوب بين البشر .
 لا تخلو أية ثقافة من قصص ضرب الامثال لأنها تعبير شعبي، وتتسم الأمثال بسرعة انتشارها وتداولها من جيل إلى جيل، وتعكس مشاعر الشعوب على اختلاف طبقاتها وانتماءاتها، ونجدها تعكس وتصور افكار وعادات وتقاليد ومعتقدات من حياة الشعوب، في دلالة إنسانية شاملة وفي صورة حية تنقل من لغة إلى أخرى عبر الأزمنة والأمكنة، فهي بذلك عصارة حكمة الشعوب وذاكرتها بالإضافة إلى إيجاز نصها وجمال لفظها وكثافة معانيها لأنها من أبرز عناصر الثقافة الشعبية، فهي مرآة لطبيعة الناس ومعتقداتهم، وتعكس المواقف المختلفة، بل تتجاوز ذلك أحياناً لتقدم لهم انموذجاً يُقتدى به في مواقف عديد لتغلغلها في معظم جوانب حياتهم اليوميه.
ونشأت الأمثال الشعبية ليست وليدة الساعة، بل لكل مثل شعبي حكاية تشكل أنموذج عيش، وتماثل مع التجربة التي احاطت بمن ضرب به المثل ،الذي يتداول بشكل واسع من دون معرفة أصوله أو معانيه عن طريق إسناده إلى موقف من المواقف التي قد تتشابه مع معنى هذا المثل و لكن ما هي قصة هذا المثل و ما السر وراء تداوله إلى حد هذا اليوم.
حكاية جدتي هذه الليلة قصة مثل شعبي عراقي، مع التحفظ على مضمون حكاية المثل فالناس تداوله في عهود من الحكم مرت على البلاد (ولاية البطيخ) عبارة تعني الانفلات بأنواعه سياسي، مالي، ثقافي، وظهور شخصيات لم يكن لها رصيد وطني أو شعبي جلست على الكراسي وتعطي التبريرات والقوة للصوص وقطاعي الطرق وتؤسس ثقافة الرشوة ( الخاوة) في نسق خطير، وظاهرة الفساد الاداري متداولة بين لصوص السلطة وتشير الى مستوى اخلاقي متدن في صفوف السلطة أيام زمان .
مثل ولاية البطيخ لهُ حكاية شعبية وهي ان بطيخ اسم لرجل كان شيخ قبيلة في منطقة العزيزية لواء الكوت (واسط حاليا)، كان في أيام العثمانيين يأخذ خاوة (اتاوة) (الرشوة) اي الضربه او الرسوم من كل من يجتاز تلك المناطق التي تعتبر مناطق نفوذه من المارة ولا يحاسبه احد من الدرك العثماني وهذه المنطقة  سماها الناس بعد ذلك بولاية بطيخ، ومشى هذا المثل في أنه دلالة على الفوضى وعدم وجود قانون يحكم البلاد والعباد .
والبطيخ فاكهة لذيذة وهي من الفواكه المحببة والتسمية بطيخ هي قادمة او متعلقة (بالرگي) وليس البطيخ كما نسميه نحن العراقيون اي البطيخ هنا بالمثل يقصد بها (الرگي) .
حكاية المثل الشعبي المعروف ولاية البطيخ ،كان يا ما كان وعلى الله التكلان ، يحكى ان في أيام زمان، أن رجل فقير معدم قصد بلدة للعمل وعندما وصل طرف البلدة وجد مزرعة للبطيخ فرغب أن يبتاع بطيخة سأل صاحب المزرعة عن القيمة فقال له: إن الحمل الواحد بدرهم واحد فقال له: لكني لستُ بحاجة لحمل لأنه يزيد عن حاجتي كثيرا بل أريد بطيخة واحدة آكلها أعطاه بطيخة واحدة ولم يأخذ ثمنها لأنه وجده رجل غريب وفقير معدم وأراد ان يكرمه كعادة الفلاحين بعدما أكل البطيخة شكر الفلاحَ لصنيعه وسار في طريقه الى البلدة .
في اليوم الثاني من وصوله البلدة أراد أن يشتري بطيخة فقصد أحد البقالين ليشتري منه بطيخة وسأله عن سعر البطيخة الواحدة أجابه البائع: إن سعر البطيخة الواحدة درهم واحد تعجب الرجل ودهش من سعر البقال وظنه يمزح معه لأنه فقير ورث الثياب، قصد بقالا ثانيا فتأكد أن سعر البطيخة درهم وسأل الجميع وكان الجواب درهم واحد أخذ يفكر كيف ان الحمل بدرهم وفي البلد البطيخة الواحدة بدرهم ؟ اشتغل مدة أسبوع وأدخر بعض الدراهم وذهب للمزرعة وأشترى حملا من البطيخ ليجلبه للبلدة كي يبيعه بهذا السعر الباهظ ويربح هذا الربح الذي لم يحلم به من قبل ودفعه الطمع ليشتري حملا ثانيا ولم يبق معه سوى أجرة حمار كان قد استأجره وتوجه الى البلدة وهو يحلم بالأرباح والآمال الجسام، ابتعد الفقير عن المزرعة مسافة قصيرة إلا وأعترضه قطاع الطرق الذين لا يرحمون ولم يخلوا سبيله إلا بعد أن اخذوا منه حملا وتركوا له الآخر ولما واصل سيره مسافة قليلة أوقفه جباة الاستهلاك ولما لم يكن يملك مالا ليخلوا سبيله أضطر أن يذعن لإنصاف هؤلاء غير المنصفين فأخذوا منه نصف الحمل الثاني وقبل أن يدخل البلدة لاقى في طريقه جباة الحكومة فأخذوا منه باقي البطيخ ولم يتركوا له غير بطيخة واحدة فتأكد أن بقال البلدة كان منصفا حين طلب منه درهم واحد عن قيمة البطيخة الواحدة .
اضطرب الفقير البائس وفقد رشده وصوابه بعد أن تيقن أن لا رحمة ولا شفقة في هذه المدينة وأن معاملاتها مبنية على الفوضى وأن القوي فيها يأكل الضعيف، حيث لا رادع ولا زاجر ولا قانون فقرر من ساعته أن يكون أجسر منهم فذهب الى المقبرة وأستل الخنجر وجلس في باب المقبرة لا يسمح لأحد ان يدفن موتاه إلا بعد ان يدفع الخاوة وعندما علمت به السلطات وشاع خبره في المدينة ألقت الشرطة القبض عليه وساقته للمحكمة فقص قصته أمام الحاكم من أولها لآخرها فعفا عنه الحاكم وأصبح الناس يتداولون عبارة (ولاية بطيخ)
واليوم الناس يتداولون عبارة (ولاية بطيخ) لأنه يعكس فكرة الواقع الذي نجده صورة جلية مشابه للقصة الشعبية ونرى حكاياتنا التراثية تحاول أن تكون بديلًا يعوض الفساد والتشرد والجوع ووقوف الناس ساكنين بلا حراك أمام ملمات الزمان.
نلتقي الاسبوع القادم في حكاية جديدة

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

876 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع