د. طلعت الخضيري
صديق العائله جاكوب
في مساء اليوم الذي فقد به كورنوليوس قطعه البصله الأولى ، أتت روزا وأخبرته أن والدها قد ندم على ما فعل ، وأنه سيسمح له بالمستقبل زرع ما يشاء من ورده التولب ، ثم أضافت:
- حضر صديق والدي جاكوب كعادته مساء كل يوم ، وقص والدي مافعله معك ، وأنه دمر قطعه البصله ، وكان من المستغرب أن يثور السيد جاكوب ، ويتهم والدي بالحقاره والقسوه وأن جريمته تعادل القتل وصاح ( لقد دمرت تلك القطعه ، يا إلاهي ياإلاهي ).
- إذا إن هذا السيد جاكوب رجل طيب ، ويحب الزهور.
وأضافت روزا - ولقد سألني إذا كانت هناك قطع أخرى للبصله.
- هل سألك ذلك؟
- وسأله والدي إذا كان يعتقد أن هناك أخرى ، ليقوم هو بالتحري عن مكانها.
ولم يجبه الرجل ، وإنما سألني عن إنفعالك عند وقوع الحادث ، فأخبره والدي أنك جن جنونك لفقدك تلك القطعه ، ثم أضاف والدي :
- إنني أتعجب لجنون هذا الشاب لفقده قطعه صغيره من التوليب ، بينما بإمكانه الآن شراء مائه بصله بفلوران واحد .
ثم أخبرته روزا أنها قد تورطت عندما قالت (من الممكن أن تكون لتلك البصله خاصيه مميزه) مما أثار فضول السيد جاكوب ولمح بعينيه بريق غريب من الهياج.
ثم قال بلهجه معسوله:
إذا يا صغيرتي روزا ، إنك تضنين أن لتلك البصله خاصيه مميزه ؟
وقد تداركت خطئي فأضفت - وكيف لي أن أعلم خواص تلك الورود؟ إنني أعتقد أن ثوره السجين ، هي كثوره الطفل الذي يفقد لعبته الوحيده التي يملكها.
ثم استرسلت روزا بالقول - وأضاف أبي( إنني أتعجب ، كيف تم له الحصول على تلك القطعه ). أما أنا فقد هممت بالخروج من الغرفه ،لأتفادى الجواب على أسئله أخرى من الزائر ، ولكني سمعت ، وأنا خارجه من الغرفه ، ألسيد جاكوب وهو يقول لأبي - إن من السهل ألتأكد من ذلك بتفتيش ثياب السجين لعل لديه قطع أخرى.
وأجاب والدي - نعم الرأي ، سأفتشه للبحث عن قطع أخرى للبصله.
وعلق السيد جاكوب - حسنا ما ستفعله ،وتذكر أن بصله التوليب تحتوي عادتا على ثلاث قطع ، ويمكنك أن تأمره بترك الغرفه لبعض الوقت ، وسأقوم أنا بتفتيشها خلال غيابه.
وعلق كورنيليوس - إذا إنه رجل حقير ذلك السيد جاكوب.
وأجابته روزا - نعم وإنني خائفه من هذاالرجل.
ثم بدا الشحوب والرعب على وجه الشاب ، وأردف قائلا : تذكرت إنك قد أخبرتيني بتتبعه لك عندما كنت تعملين في الحديقه ، إنه لم يكن يتتبعك يا روزا ، إنه كان يتتبع البصله. نعم لم تكوني أنت حبيبته ، بل بصله ورده التوليب السوداء ، وأنه هنا للبحث عن تلك البصله.
- قد يكون صحيحا ما تظنه .
- هل تريدين أن تتأكدي من ما قلته لك؟
- وكيف ذلك؟
- إذهبي غدا إلى الحديقه ، بعد أن يكون جاكوب قد علم بذلك ، ثم تضاهري هناك بزرع البصله ، وانتظري ما ذا سيحدث بعد ذلك.
- وماذا سنفعل بعد ذلك ؟
- لكل حادث حديث ، سنرى ما سنفعله بعد أن نرى ما سيفعله ذلك العدو.
وتأوهت روزا ثم قالت بحزن - إنك تحب قطع بصلتك كثيرا ، يا سيدي كورنوليوس.
- في الحقيقه ، بعدأن أتلف والدك قطعه التوليب ، وأنا أشعر وكأنني قد فقدت جزء من كياني.
-هل تريد ياسيدي أن تقبل ما عرضه والدي، وهو أن أجلب لك بصلات من التوليب تتسلى بها.
وبعد برهه من التفكير أجاب الشاب - كلا ياروزا، دعينا نفكر فقط بنجاح تجربتنا ، والحصول على ما نبغيه , ستزرعين غدا القطعه الثانيه من التوليب ، أما القطعه الثالثه ، فستحتفظين بها في مكان آمن في دولاب ملابسك ، وتحافظين عليها مهما حصل ، حتى لو دكت السماء القلعه بكاملها ، يجب أن تدافعي عن تلك القطعه الثالثه ، كما تدافع الأم عن رضيعها ، وكما يدافع البخيل عن قطعه الذهب التي يحتفظ بها ، وكما يحافظ الجريح على آخر قطره من دمه وهو ينزف ذلك الدم.
وقالت روزا وبحزن ظاهر - إطمئن يا سيدي إن رغباتك هي أمر لي ، سأفعل كل ما طلبته مني.
أما السجين فقد بدت الكآبه والحزن على وجهه ثم أضاف - إذا وجدت ، يا أعز الناس إلى قلبي ، أن والدك قد يسبب لك ألما من جراء مساعدتك لي ، فأنا أتوسل إليك أن لا تعودي لتريني ، إنني أتقبل ذلك في سبيل سعادتك.
وأجهشت روزا بالبكاء ثم همست - إن أسفي هو حبك الوحيد لورده التوليب ، ويجب علي أن أتقبل ذلك.
ثم ولت هاربه.
قضى كورنيليوس ليله حزينه مؤلمه ، راودته خلالها أحلام مرعبه ، ولأول مره لم يفكر بوردته ، بل بذلك الوجه الجميل ، وجدائل الشعر الذهبيه ، وتلك ألعينان الزرقاء، ألتان تشبهان زرقه السماءالصافيه ، نعم إن حب روزا طغى لأول مره في حياته على الحب الآخر ، وأصابه اليأس عندما خطرت له فكره سوداء ، وهي أنه سيفقد حبيبته ، أ ولأول مره لم يعد يفكر بورده التوليب السوداء.
ألغيره من الورده
إن المسكينه روزا ، وقد انفردت بنفسها في غرفتها ، لم تكن تعلم ما كانت تتنازعه من أفكار في تلك الليله ، وحسب ما قالها له عن وردته ، من المؤكد أنه كان يحلم بها دون أن يبالي بروزا ، وبما أنه لم يكن هناك من يخبرها بالحقيقه ، فلم تعد روزا تفكر ، بل كانت تذرف الدموع. وهي تفكر أن هناك شرخا كبيرا بين وضعها ، وهي الشابه البسيطه، إبنه السجان , التي لم يتح لها الحظ ألتعلم التعلم ، وذلك الشاب الجميل ، الذي كان من الأثرياء قبل سجنه ، وقد تعود له الثروه يوما ما ، وهو الطبيب والعالم ، ومن الطبقه البرجوازيه أي المتوسطه الحال ، إذا لا تكافؤ بينهما ،وليس لها الحق أن تحلم بحب متبادل ، ويجب أن تدعه يغرم ويحلم بالورده السوداء دون غيرها , وقررت أن تترك الشاب ، وأن لا تعود لزيارته بعد الآن ، وأن تنصرف لتعلم القرائه والكتابه التي بدأتها معه , وهذا ما طبقته بعد ذلك ، وانصرفت بشغف ومواظبه لتعلم الكتابه والقرائه ، من الصفحه الثانيه للكتاب المقدس ‘ أما الصفحه الأولى ، فنذكر القارىء ، أنها كانت الصفحه التي كتب عليها كورنيل فان وايت من سجنه في لاهاي قبل مقتله ، تلك الرساله إلى كورنوليوس ، والتي لم يقرأها كورنوليوس ، و لف بها قطع البصله الثلاث وأخفاها في ملابسه عند إلقاء القبض عليه ، والتي لا تزال موجوده ومهمله عند روزا ، وهكذا أخذت ألفتاه تتقدم في تعلم الكتابه والقرائه.
ولنعود مجددا لغرفه الشاب ، فقد استيقظ في صباح اليوم التالي للقائهما ، لا يفكر إلا بحبه الجديد أي حب روزا ، أما الورده فقد فقدت بريقها في ذهنه ، وإن ظلت عزيزيه لديه ، وظل يفكرطول يومه هل ستأتي حبيبته ذلك المساء , وانتظر إلى أن سمع ساعه السجن وهي تعلن الساعه التاسعه مساء ، ثم العاشره ، دون أن يسمع صوت أقدام روزا وهي تصعد ألسلم ، أو حفيف ثوبها خلف باب الغرفه. وانتظر أياما ثلاثه على هذه الشاكله ، حاول خلالها إستدراج أبيها لمعرفه أحوالها ، بسؤاله بصوره غير مباشره ، إذا كان أحدا في القلعه يعاني من المرض ، مما أثار شكوك الأب أن السجين يحاول التودد إليه ومجاملته بغيه الفرار من السجن ، لذا يستوجب أن يشدد مراقبته له ، أما الشاب فبعد أن فقد الأمل برؤيه حبيبته ، أصابه اليأس ولم يعد يهتم بتناول غذاءه ، وبقى السجان يراقب أحواله ، ويدعه راقدا بدون حراك ، مستلقيا على سريره ، شاحب الوجه هزيلا، وأحيانا بدون ان يمس طعامه ليوم كامل ، مما أدخل ألسرور إلى قلب السجان ، وتوقع أنه سيتخلص قريبا من هذا السجين ، ألعالم الخطر ، وأنه سيرى نهايته قريبا.
وفي اليوم الرابع من القطيعه ، سمعت روزا أباها وهو يحدث صديقه البغيض جاكوب عن حال سجينه ، ويتأمل قرب وفاته والتخلص من مراقبته ، وجاكوب يتتبع بشغف أخبار السجين ، وأحست المسكينه بالندم لقسوتها نحوالشاب ، وقررت أن تبدأ المبادره , وأن تتصل به ، وهي تظن أن سبب مرضه ، هو هاجسه وخوفه على مصير مستقبل وردته السوداء ،فسارعت إلى غرفتها ، وقضت تلك الليله وهي تحاول كتابه رساله إلى الشاب.
في صباح اليوم التالي ، نهض كورنيليوس من سريره ، واتجه نحو النافذه ، ليطل من خلالها على المتاظر الجميله التي أحاطت بسجنه ، ودهش لرؤيه قطعه من الورق قد دست تحت باب غرفته ، ولم تكن تلك الورقه إلا رساله حبيبته روزا , واقتصرت على جمله واحده وهي ( لا تقلق إن وردتك بخير) ، وأصاب الفتى حزن وإحباط ، وتبين له أن روزا لم تأت بسبب المرض، وإنما إنها كانت مجروحه العواطف ، وتعمدت بعدم المجييء لرؤيته ، وهو الذي كاد أن يموت من وحشه الفراق.
وقد فهم السجين أن حبيبته تنتظر إجابه لرسالته ، ووجد قلم وورقه ، سبق أن تركتهما له الفتاه ، وانتظر حلول الليل ليكتب لها رساله ، تركها تحت باب الغرفه ، وكتب بها(ليس همي هو بصله التوليب ، وإنما حزني ووحشتي أن لا أراك ) ، وانتظر أن يسمع صوت خطواتها وهي تصعد السلم ، أو حفيف ثوبها كالعاده ، ولكنه تفاجأ بسماع صوت رقيق يهمس عبر كوه الباب :
( إلى الغد) وذلك بعد ثمانيه أيام من الفراق المر.
أحداث جرت خلال أيام الفراق
في مساء الليله التاليه ، وفي الموعد المعتاد ، بان وجه روزا الجميل خلف قضبان الكوه ،ومضاء بالفانوس الذي كانت تحمله ، ولم يكن الحبيب بعيدا عن تلك الكوه بعد هذا الفراق الطويل ، وعندما رأت الشابه ذلك الوجه الشاحب لم تتمالك أن تسأله:
- هل أنت مريض سيدي كورنوليوس؟
- نعم آنستي هناك مرض في جسمي ، وآخر في كياني.
- نعم علمت من أبي أنك لا تترك الفراش ، ولا تتناول طعامك ، لذلك كتبت لك لتطمئن على وردتك.
- نعم وأنا قد كتبت لك ، ياعزيزتي روزا ، وكنت أظن عند رجوعك إلي ، إنك قد استلمت رسالتي.
- ذلك صحيح ، أنني قد استلمت رسالتك.
- إنك لا تستطيعين أن تبيني لي عذرا لعدم اتصالك بي هو جهلك للكتابه ، بعدأن علمت إنك تستطيعن ألآن الكتابه ، وبتحسن .
- نعم إنني استلمت رسالتك واستطعت قرائتها ، ولذلك تجدني هذه الليله أمامك ، قد تعيد لك رؤيتي شيئا من صحتك.
وصاح الشاب فرحا - هل يعني هذا أن لديك خبر مفرح لي؟
- نعم إنني حضرت لأخبرك شيئا مفرحا عن وردتك التي سببت لك كل ذلك المرض.
ولقد تكلمت روزا ذلك ببرود مما سبب ارتجاف الشاب ، ولم يفهم ما قصدت به الحبيبه أن هناك منافسه لها في حب الشاب وهي تلك الورده السوداء.
وتمتم الشاب قائلا وبحزن:
- آه ياروزا ، ألم تفهمي، وقد كتبت لك أن لا أحد يشاطر حبي لك ،وإنك الوحيده التي أفتقدتها خلال تلك الأيام الثمانيه ، وإنك خلال تلك الأيام قد جعلتيني أحرم من الإحساس بالهواء والضوء ، وكل شيىء أحاط بي.
وابتسمت روزا بحزن ثم أضافت - ومع كل ذلك ، فقد تعرضت وردتك السوداء إلى مخاطر جمه.
وارتجف المسكين من الخوف ثم سألها - ماذا حدث ،أخبريني ماذا حدث ؟
ونظرت الفتاه نحوه وبدى عليها الشفقه والتعاطف بعد ما سببته له من إيذاء وقالت:
- كان لك الحق أن تقول أن السيد جاكوب لم يأتي إلى هنا بسببي.
- ماذا تعنين بذلك؟
- إن هدفه هو ورده التوليب السوداء.
وشحب وجه الشاب عند سماعه ذلك الخبر ، كما تم ذلك فيما قبل ، عندما ظن أن السيد جاكوب كان يأتي للتودد إلى روزا ، ولاحظ على وجه حبيبته وكأنها كانت تفكر مثله ، فأضاف :آ
- سامحيني روزا ، إنني أعلم طيبه وعفه قلبك ، إن خالقنا قد وهبك ألتفكير ورجاحه العقل والطيبه والقوه ، لتدافعي عن نفسك ، لكنه لم يعطي وردتي المسكينه كل ذلك لتدافع عن نفسها.
وتجاهلت روزا ماسمعته وقالت - إن ذلك الرجل أخافني أكثر مما أخافك ، وتبعت وصيتك لي في اليوم التالي لمقابلتنا ، فعندما كان جاكوب في زيارتنا كالعاده ، خرجت إلى الحديقه وأنا متأكده أنه كان يتتبعني بنظره ، وبدأت بحفر وترتيب بقعه ، وكأنني أزرع قطعه البصله تحت ترابها ، وبذلت جهدا بترتيب التربه ، وأنا أراقب خفيه ذلك الرجل وهو يراقب ماكنت أعمله ، بعد أن تبعني واختفى خلف إحدى شجيراه الحديقه ، ثم تضاهرت بالدخول إلى القلعه وبقيت أراقب خلف الباب ما سيفعله الرجل ، ورأيته يذهب إلى تلك البقعه التي ظن إنني زرعت بها القطعه ، وأخذ ينبشها بلطف ويفتت ترابها لعله يجد البصله.
-- إذا أنت لم تزرعي القطعه حتى الآن ، وقد مرت ثماني أيام على ما قلت , ولقد فات الأوان الآن لزراعتها.
فابتسمت روزا وأجابته بلطف:
لا تقلق ياسيدي العزيز ، إن القطعه الثانيه بأمان ، وقد زرعتها في وعاء بعد أن ملأته بالتربه التي أنت قد أخترتها من تراب الحديقه ، وهي الآن في غرفتي ، وأعرضها للشمس لمده كافيه يوميا كما أرشدتني أنت , ولن يستطيع جاكوب الملعون الحصول عليها إلا إذا استطاع الحصول على مفتاح باب غرفتي ، الذي أحتفظ به دوما معي.
- لقد مرت إذا سته أيام على دفن تلك القطعه؟
- نعم هو كذلك.
- إذا إنني أعتقد إن النبته ستبدأ بالظهور غدا ، هل يمكنك ياعزيزتي أن تطمنيني على ذلك بزيارتك لي غدا ؟
وأجابت روزا بحزن - قد لا استطيع غدا أن أأتي ، لأن لدي مشاغل كثيره.
- نعم إنك لديك مشاغلك بينما أنا هنا وحيدا ، وليس لدي غير تفكير واحد لا يتغير.
وأجابت الشابه والدوع تترقرق في عينيها الجميلتان :
- إطمئن يا سيدي كورنوليوس ، إن الشيء الوحيد الذي تفكر به ، أي الورده ، ستكون دوما بخير.
- ألورده؟وهل تظنين أنما يشغلني هي الورده؟ كلا ياروزا إنك أنت شاغلي الوحيد ، والذي لم أعد أستطيع العيش بدون أن أراك.
وهنا نزلت الدموع بغزاره لدى الفتاه وقالت :
- تذكر إنك عندما كنت وشك أن تعدم في لاهاي . طلبت مني أن أختار بعد موتك شريك لحياتي ، شاب في مثل سنك ، وأنا وجدت دوما إنك أنت أملي وحلمي ، إنني أوافق على زيارتك يوميا ، بشرط أن لا نتحدث عن ورده التوليب السوداء خلال الثلاثه أيام القادمه. ولم يتردد ألشاب بالموافقه.
للراغبين الأطلاع على الحلقة الخامسة:
http://www.algardenia.com/maqalat/20709-2015-12-16-07-32-08.html
978 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع