رواية وردة التوليب السوداء / من روائع الأدب العالمي /ح٣

                                                 

                             د.طلعت الخضيري

     

    ورده التوليب السوداء / الحلقة الثالثة

    

ألضيف الجديد
في منتصف ليله مظلمه ، إستقبل  سجن بوتنهوف في لاهاي ضيفه الجديد ، وكان في إستقباله ألسجان غريفوس وابنته روزا ، ولم يكن ألضيف إلا المسكين ألشاب كورنيليوس  فان  بيرل ، وبما أن  ألسجان كا ن من أنصار العهدالجديد ،فلم يفته أن يستهزء بقريب الأخوين كورنيل و جان ألذان قتلوا صباح ذلك اليوم ، فأخبره أن غرفه ألعائله ، أي  الغرفه التي كان قد سجن بها قريبه كورنيل تنتظره ،وأنارت روزا لهما ألطريق وهي حامله شمعه مضيئه ، إنعكس شعاعها على وجهها ألجميل ،وشعرها ألأشقر ، كما تبينت لها  هي ملامح ذلك   الشاب الجميل ،  ألذي ظهرت ملامح وجهه البريئه أمامها ، وقد حدق هو ، وهو يصعدالسلم بذلك الوجه الجذاب ألذي رسمتعليه  صوره ألبرائه  والطيبه.
وأشار السجان عند دخولهما الغرفه ،إلى سرير قريبه الذي تركه  صباح اليوم نفسه ، واستلقى  عليه الشاب  ،ولم ينم تلك الليله ، و كان نظره مركزاعلى النافذه الصغيره التي تطل على الميدان  الأمامي للسجن  ،وقد ثبتت عليها ألقضبان ألحديديه.
وعند حلول  الفجر،  توجه السجين إلى النافذه   ليرى ما حول ذلك  السجن , ونظر إلى الساحه  الممتده أمام السجن وقد توسطتها أعمده  ، علقت عليها بقايا جثث  سوداء اللون  وملوثه بالدماء  ، ولم تكن تلك الجثث  إلا بقايا جثث أقربائه كورنيل وجان ، والذين قد قطعتها الجموع الثائره  من أهالي لاهاي الطيبون  إلى قطع  ، ثم سحلوا  ما تبقى منها في شوارع ا لمدينه ، حتى ذلك المكان  ،وقرأ لافته   تدلت حولهما  وقد كتب عليها (  هنا  يتدلى الأخوان جان وكورنيل فان ويت ،أعداءالشعب وأصدقاء ملك فرنسا ). ، وانتابت المسكين نوبه من الفزع  والهلع  ، وأخذ يضرب باب الزنزانه  بقدميه  ،   فهرع السجان إليه  وهو يتبرم من إزعاجه وصاح:
- هل جن جنونك  ، كما هي عادتكم يأبناء عائله ويت؟  
- سيدي، سيدي ،هل صحيح ما أراه هناك؟
- نعم أيها السيد ، هذا  ما يحصل لمن يتصل بأعداء  سيدي الأمير وليم أورانج.
- إذا فقد أغتيل أقربائي؟
-  أيها  السيد إن  الخونه قد عاقبهم الشعب.
و خرج غاضبا بعد أن أقفل  باب الزنزانه ورائه.
أما السجين ،  فقد سقط إلى جنب فراشه واسترد هدوئه ،وغلبت نزعته الفلسفيه والدينيه على عواطفه ،  فركع يصلي ويدعوا لأقرباءه بالرحمه والمغفره.
ثم تذكر  ما يحمله تحت ثيابه من أعزما يملك  ، وهي القطع الثلاثه لبصله ألورده السوداء   ،  ملفوفه بورقه الكتاب  المقدس، فذهب وأخفاها في ركن الغرفه المظلم  ، خلف قاروره الماء ، وفكركيف أنها ستعيش بعيده عن أشعه الشمس أو التراب ، كلا أنها  ستموت كما سيموت هو ، وسيخسر كل ما كان لديه من طموح وأمل في نجاح تلك  التجربه.
لقد دخل في دوامه يأس  لن يخرج منها إلا بظروف نادره سنتعرف عليها لاحقا.
إبنه السجان روزا
عند حلول المساءأتى السجان حاملا وجبه العشاء ،وعند  دخوله الغرفه وبسبب عجلته ورطوبه الأرض ، فقد توازنه وسقط على الأرض ،وأحدث له ذلك كسرا في  أعلى  رسغ يده ، وحاول السجين إسعافه ،ولكن  السجان  صرخ وأمره بعدم التحرك ، ثم حاول النهوض ،  ولكنه سقط مغشيا عليه  ، بعد أن  شعر بألم لا يطاق. وبالرغم أن باب الغرفه كان   قد بقى سالكا ،  لم يخطر ببال السجين  الهرب ،  وكان بإمكانه أن يفعل ذلك .
وفوجأ كورنيليوس بسماع  صرخه خافته بجنبه ،أطلقتها إبنه السجان  ألشابه ،  عندما هرعت إلى الغرفه ،  بعد سماع صراخ والدها ، وحسبت عندما رأت والدها فاقد الوعي ،  أن السجين قد إعتدى عليه  بغيه  الهروب ,و لكنها بعد أن شاهدت الشاب وهو يحاول مساعده المصاب ، تفهمت الموقف وتكلمت بصوت خافت
- أستميحك العذر  يا سيدي ،  أولا لما قد فكرت به نحوك ، وأشكرك  ثانيا على مساعدتك أبي.
واحمر وجه الشاب ثم قال - ليس لي فظل في ذلك ،وإنما أنا أئدي  واجبي كطبيب جراح.
- إنك بعملك هذا ،  قد  تناسيت ما وجهه لك أبي صباح اليوم  ، من كلامقاسي ، إنه عمل يفوق ألعمل الإنساني وأنا أعتبره وازع ديني . ونظرالشاب إلى  الفتاه  بتعجب وحنان ، واندهش لسماع تلك الكلمات الجميله  ، تنطق من شابه ،لم يتح  لهاالحظ التعلم ، أومخالطه  أعالي القوم.
واستفاق  غريفوس  واسترد طبعه  ألفظ فأردف فائلا :
 -هكذا إذا ،  لقد  تركتني ممددا على الأرض . فنهرته إبنته قائله:
- إنني وجدت السيد يحاول إسعافك  ومساعدتك.
وتدخل االشاب قائلا
إنهاالحقيقه ، وأنا لازلت مستعدا لمساعدتك بما أنني كنت سابقا ، و قبل أن أتصرف لهوايتي في ألزراعه ، كنت  طبيب وجراح.
وبعد تفكير قصير سأله السجان - وما يلزمك لعلاج الكسر ؟, فأفهمه  أنه  بحاجه  إلى لوحتين وقطعه من  ألقماش ليسند  ذراعه عليها، ثم لفها بالقماش , وأحضرت ألإبنه ما طلبه ،  وتمت معالجه ألمريض ألذي فقد وعيه  ثانيتا  خلال ذلك.
طلب كورنيليوس من روزا أن تحضر قليلا من الخل  ،  ليدلك به وجه المريض حتى  يستفيق  ،ولكنها بدل ذلك أقتربت منه وهمست بصوت خافت؛
- إنك أسديت لنا خدمه  ،  وأود أن أسدي لك في المقابل خدمه  لك.
-  وماذا يعني ذلك يا طفلتي الجميله ؟
-  إني أعني أن  القاضي الذي سيحاكمك غدا ، أتى ليتأكد من وجودك ، وأنه استهزأ بك  وبأقاربك المساكين ، مما لا يبشر بخير ، ومن الأرجح أن محاكمتك ستكون  غدا.
-  ومم أخاف وأنا بريىء .
- فأشارت الفتاه إلى النافذه وقالت :
- إنك رأيت ما جرى لأقاربك ، وهم أيضا أبرياء ، إن الجماهير الهائجه  تريد أن تكون  مذنب ،  وستحاكم  غدا ، وسيصدر ألحكم عليك بعد غد.إن الأمور تسير بسرعه ، فلا تنتظرطويلا  ياسيدي.
- وما ذا تعنين بكلامك هذا.
-  أعني أن  والدي فاقد الوعي , وكلب الحراسه مربوط ألآن , وأنا فتاه ضعيفه لا أستطيع مقاومتك ، كل ذلك يسهل هروبك , إهرب ياسيدي ولا تتردد كثيرا.
- ماذا تقولين ؟
-  أقول أن  الوقت ينفذ، وإنني لم أستطع إنقاذ أقاربك  كورنيل وجان وأحاول إنقاذك الآ ن من الموت . أسرع  ،أسرع.
وبدأ غريفوس يستيقض ، فهمس الشاب بإذن الفتاه (إنني بريىء ولن أهرب ) ، أما الفتاه فطلبت منه السكوت ، بعد أن  استرد والدها الوعي وهمست له  (لا أريد أن يمنعني والدي  من الحضور إلى غرفتك ).وحدث ما ظنته ،  إذ  أمرها الأب أن لا تحضر بعد الآن إلى غرفه  السجين ،  وإذا توجب ذلك فستكون بمعيته.
وصيه كورنيل فان بيرل
لم  تكن روزا على  خطأ في ما توقعته ، ففي صباح  اليوم  التالي ، حضر الحكام  إلى السجن و حققوا مع المتهم  ، وتأكد لديهم  أن كورنيليوس  قد  احتفظ  حقا بالمراسلات التي كانت بين أقربائه الأخوين  فان ويت  وفرنسا ، واتضح لهم  بما لا يقبل الشك ، أنه كانت هناك ، حسب  إعتقادهم  ، مؤامره ،و قد أشترك بها ألمتهم وأقربائه ، بالرغم أن  المتهم دافع عن نفسه ،  وأخبرهم أن لا شأن له  في السياسه  ،وحبه الوحيد هو زراعه التوليب , وأنه   احتفظ  بتلك  الوديعه  ، دون أن يعرف ماهيتها ، أو يطلع على مضمونها.
ولم يستطع الحصول على شهاده الخادم كراك، حيث أنه غادر هولندا , أو البحث عن الرساله التي أرسلها  له قريبه قبل موته ، والتي لم يطلع هوعلى فحواها.
دامت  مداوله الحكام حوالي النصف ساعه ،  وانتهت بقرار إعدامه ،وكان خلالها قد أرسل المتهم إلى  غرفته ، وتبع ذلك  وصول  ألمبلغ ليبلغه قرارالمحكمه ، وانتهزت روزا مرض والدها ،  فاختبأت خلف باب الغرفه ، لتتنصت على  ما سيقوله المبلغ ،  ممسكه بمنديل أمام فمها ،  لإخفاء أي صوت  قد  يصدر منها ، وسمع  ألمسكين قرار المحكمه بإعدامه ، واستفسر بصوت خافت عن موعد تنفيذ الحكم ، فكان الجواب أنه سينفذ عند  ظهر ذلك  اليوم ،  وبقطع رأسه  بسيف الجلاد , ولم يبق للموعد المحدد  إلا نحو الساعه والنصف.
وعند خروج ألمبلغ  وخلفه حارس آخر أناب عن السجان غريفوس ، شاهد ألسجين روزا وهي تهمس في أذن السجان البديل ، ولذي  ترك بعد ذلك الباب مفتوحا , و ذهب وجلس في منتصف  السلم ، ليحول دون هروب  السجين ،  بينما  تواجد كلب  الحراسه ألشرس في أسفله.
جلس  كورنيليوس مستسلما لقدره ، ثم ألقى نظره  نحو الباب ليرى ذلك  الوجه الجميل  ،  وقد ملأت  الدموع تلك العينان الزرقاء بزرقه  السماء , وتقدمت  الفتاه نحوه  وولولت
- آه ياسدي ، آه ياسيدي.
- لاتبكين هكذا يا روزا ، إن ذلك يؤلمني   أكثر من ألموت الذي ينتظرني.
وركعت الفتاه بجانبه ثم قالت:
_  أرجوك أن تعفو  عن أبي.
- والدك ؟
- نعم إنه كان فظا معك,  لكن هي  تلك طبيعته ، إنه يتصرف نحو ذلك مع الجميع .
 - لقد تمت معاقبته يا روزا بما حصل له ، وإني أغفر له كل شيئ.
 - والآن  أخبرني  ياسيدي ، هل أستطيع أن أساعدك بشيئ.
وابتسم الشاب وأضاف - نعم بأن تجففي دموعك. ثم أضاف
-إنني دوما عبدت ربي ولم أعمل ما يغضبه ، وفي آخر ما تبقى لي من العمر ،  أود أن أمجده ، كما فعلت ذلك دوما ، لذا أرجوك  أن تساعديني أن أفعل  ذلك  خلال ما تبقى لي من العمر.
وبكت الشابه وهي تولول آه ياسيدي أه  ياسيدي.
- أعطني يديك ياطفلتي  وأوعديني أنك لن تضحكي.
- أنا أضحك ؟ ألم  تر دموعي ويأسي؟
- إنني لم أر في حياتي وجها أجمل من وجهك ،ولا روح أطهر من روحك ، لذا أتمنى أن أحتفظ بتلك الذكرى وأنا  أفارق الحياه قريبا.
 وارتجفت روزا عندما سمعت  جرس ساعه الساحه يعلن الساعه الحاديه عشره ، أي لم يتبق للشاب  إلا ساعه واحده من الحياه.
وأخرج كورنيليوس من طيات ملابسه  القطع  الثلاثه  لبصله التوليب السوداء  ،وأضاف :
-  إنني أحببت الورود قبل أن أكتشف ألحب الآخر ، لا تخجلي ياروزا، ولا تشيحي بوجهك عني  ، حتى لوقدر لي أن أصارحك بهذا الحب.
إنني أحببت  ورده التوليب  ، وأعتقد إنني توصلت إلى بصله ورده التوليب  السوداء ، وهناك جائزه عرضتها بلديه مدينه هارلم لمن يكتشف تلك  الورده ،قدرها مائه ألف فلوران ، إنني أهبك ياروزا  قطع البصله الثلاثه لتنالي أنت تلك الجائزه. ،هي هديتي لك ، ليس لي أخ أو أخت  في الحياه ، واليوم أنا وحيدا أمامك ،  تقبلي ما أقدمه لك  ياروزا.
ثم أخذ يشرح لها  كيفيه  زراعه القطع ،وأنه يتوقع  نمو كل قطعه لتعطي بعد  سبعه أشهر ألورده المنشوده ، وناولها القطع وهي ملفوفه بصفحه الكتاب المقدس  كما كان قد أسستلمه من ألرسول ، ثم طلب منها أن تناوله ورقه ،  ليكتب عليها  شهاده إهدائه ما اكتشفه إلى  تلك الفتات ،  فلم تجد  إلا ورقه ألصفحه ألثانيه للكتاب المقدس الذي تركه  لها قريبه على سريره ، والتي كما ذكرنا أن  ألصفحه ألأولى كانت قد  انتزعت  من  ألكتاب  ألمقدس ليكتب عليها كورنيل رسالته كما ذكرنا  غلى قريبه كونوليوس، وكتب كورنيليوس على الصفحه الثانيه من الكتاب المقدس إهدائه البصله إلى روزا , وأوصاها أن  الجائزه  النقديه التي ستستلمها  ، ستكون هديته لها في ما يتمناه لها من زواج سعيد.
وناولها  الكتاب المقدس،  وأخفت  هي ألبصله التي سبق و لفت في أول ورقه من الكتاب المقدس،  بين ملابسها ، وهي تذرف الدموع ، وقد قاربت على فقدان  الوعي ، عندما سمعا أصوات أقدام  تصعد السلم ثم دخول الجند ، وترك كورنيليوس الغرفه ، ولم تخنه شجاعته وإيمانه ، وآخر ما نظر إليه ، هو تلك  الفتاه  وقد شحب وجهها وقاربت أن تفقد الوعي.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

http://www.algardenia.com/maqalat/20325-2015-11-26-16-02-21.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1019 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع