داعش ، من المملكة إلى الصعلكة

                                                               

                                       إبراهيم الزبيدي

إن أكثر المؤمنين بحتمية زوال دولة الخلافة الإسلامية (داعش) هم الداعشيون أنفسهم، لسبب بسيط هو معرفتهم بأن قيام (دولتهم) وقوتها وتمددها العاجل السريع عائد إلى صراع المصالح والإرادات بين القوى والدول الإقليمية والعاليمة، وإلى تواطؤ بعض هذه القوى والدول معها، لأغراض وأهداف خاصة قد تكون مرحلية، الأمر الذي يجعل بقاء دولتهم مرهونا بتغير الظروف، وتبدل التحالفات، والتقاء الإرادات، وهو ما يبدو أنه في طريقه إلى الحدوث هذه الأيام.

وبمراقبة دقيقة لمجمل قرارات قادة داعش وتكتيكاتهم وخطاباتهم وتصرفاتهم يمكن التسليم بأنهم، دون شك، متطرفون مقامرون وحمقى إلى حد بعيد، ولكن لا يبدو أنهم جهلة وغافلون لا يعون حقيقة أن كيان دولتهم هوائي مبني برمل وعلى أسس من رمل، وتحاصره الرياح من كل جانب.
ثم لابد أن  يكونوا قرأوا وتأملوا حكايات (دول) مشابهة قامت في التاريخ الإسلامي الطويل، كانت أكبر من داعش عددا وعدة، وأوسع حدودا، وأكثر مالا وقوة، وعنفا ودموية، فسادت، ولكنها بادت في النهاية، لأنها كانت تعوم ضد تيار الزمن وخارج منطق الطبيعة.
فدولة القرامطة، مثلا، تمكنت من إخضاع مناطق واسعة امتدت إلى كل بادية الشام والعراق، كما شملت الجزيرة العربية كلها، عدا منطقة عسير، كما خضعت مناطقُ أخرى لبعض الفئات التابعة لها وإن حملت أسماءً غير اسمها، وأرهبت المنطقة والعالم آنذاك، لكنها سقطت بأسرع مما كان يظن الآخرون.
والأكثر شبَها بداعش كانت حركة الحشاشين الإسماعيلية النزارية التي انفصلت عن الدولة الفاطمية في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، وكانت معاقلها الرئيسية في بلاد فارس والشام. وقد تجمعت لقتالها ومحاولة اجتثاثها قوىً مهمة، في ذلك العهد، كانت في طليعتها الخلافة العباسية والدولة الفاطمية والدول والسلطنات التابعة لهما كالسلاجقة والخوارزميين والزنكيين والأيوبيين، وفشلت كلها في القضاء عليها، إلى أن غزاها التتار بقيادة هولاكو فذبحوا من أتباعها خلقا كثيرا، وأحرقوا قلاعها في بلاد فارس. وبانتهاء سلطتها في إيران سقط جناحها السوري، بعد ذلك، بسهولة.  
والدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) نفسها، ألم تولد من رحم القاعدة التي دوخت العالم بما بلغته من جبروت وهيبة وخطورة، وبعد أن تمكنت أذرعها من التغلغل في أرجاء المعمورة كلها، ثم غربت شمسها أو أنها توشك على المغيب، في زمن قصير، بعد مقتل مؤسسها وقائدها الأول بن لادن وهو في حصنه السري المكين؟
ثم ألم تسقط طالبان من عليائها لكي تتحول إلى عصابات متفرقة تضرب وتهرب، ولا تطيق حروب المواجهة مع خصومها الأفغان والأمريكان؟
وبالعودة إلى ظروف ولادة داعش نجد أنها لم تكن لتكبر وتقوى وتمتد وتحتل مدنا وقرىً وأجزاءً واسعة من دولة العراق والدولة السورية لولا تشرذم الدولتين، وضعفهُما وفسادُ حكامهما، ولولا الغزو الأمريكي الذي مسح جميع مؤسسات الدولة العراقية، وحل جيشها وقوات أمنها، وترك حدودها مشرعة لمن هب ودب، ليكون ذلك فرصة مناسبة لإيران لتُطبق على العراق، بالوكالة، ولتسلط عليه نوري المالكي بسياساته الطائفية التهميشية الطائشة التي جعلت ملايين العرب السنة يُكاتفون داعش، أو يسكتون عن نموها السريع، وعن تغولها وتحولها إلى بعبع ظنوا أنه ما وولد ولا ترعرع إلا للثأر لهم ولنجدتهم، ولمناطحة المستعمر الإيراني، ولإسقاط وكلائه العراقيين. ولا ننسى أن الدولة التي أراد تأسيسها أبو مصعب الزرقاوي، وورثته من بعده، ومنهم البغدادي، كان اسمُها (الدولة الإسلامية في العراق).
أما في سوريا فلا يختلف الأمر عما هو في العراق. فإن عنف النظام السوري الدموي المبالـَغ فيه ضد مواطنيه، وتمزق الدولة، وتشرذم السلطة والجيش، وإقدام بشار والمالكي على إطلاق سراح قادة التنظيم، والسماح بانتقالهم إلى الشمال السوري لمقاتلة المعارضة السورية، مضاف وسكوت سكان المناطق الشمالية الغربية السورية الناقمين على النظام وعلى إيران، هو الذي مكن داعش من الانتقال من العراق إلى سوريا، واحتلال المدن والقرى بسهولة ويسر لتوحد دولتها، وليصبح اسمها (الدولة الأإسلامية في العراق والشام) د.ا. ع. ش.
 وهنا نصل إلى النقطة الفاصلة في هذه المقالة. فجميع الحركات والسلطنات والممالك، عبر التاريخ الإسلامي الطويل، والتي ولدت من ضعف دول محيطها، ومن فساد حكوماتها، واعتمدت قطع الرؤوس بالسكاكين، والخنق، والحرق، والسبي، والاغتصاب، والاغتيال وسائل وحيدة لحكمها وإدامة كيانها، سقطت، وأصبحت هباءً منثورا، حين نهضت تلك الدول، واستعادت عافيتها وقوتها وقدرتها على المكاسرة.
وهذا هو حال داعش اليوم. فحماقتها الفرنسية الأخيرة دليلٌ قاطع على خُوائها، وعلى بدء انتشار التحلل والتفسخ في مفاصلها، وفي عقول قياداتها العليا. فليست دولة تلك التي تقوم بعمل العصابات. ولكن العصابات التي تتخذ شكل دولة هي التي لا تستطيع أن تتخلى عن أخلاق العصابات، ولا تحتمل مواجهة خصومها إلا بالطعن من الظهر، وفي الظلام، وبالواسطة.
وأغلب الظن أن قيادات داعش لابد تدرك أن (حماقة) باريس وحدت العالم عليها. فكثير من الدول الكبرى والصغرى التي كانت لا تعتبر داعش وما تفعله بالسوريين والعراقيين همَّاً من همومها قد مس عصبَها الحساس هذا النوع من الإرهاب الداعشي الخطير.
ولو تتبعنا هزائم التنظيم الأخيرة المتلاحقة في سنجار والرمادي والفلوجة وتكريت وشمال غرب سوريا وليبيا، وبدء العمل المشترك بين الطائرات الأمريكية والروسية والفرنسية، وعشرات من طائرات دول أخرى في المنطقة، لاستطعنا أن نستعيد تجارب التاريخ، ونقتنع بأن بداية نهاية داعش أصبحت قريبة، ولن يطول بها الزمن.
ومُحقٌ ومصيب إلى حد كبير من تنبأ بعمليات عديدة أخرى مشابهة لجريمة باريس قد تجتاح أوربا، وربما أمريكا ودولا أخرى في العالم تقوم بها الخلايا النائمة التي لابد أن تكون داعش قد ورثتها من القاعدة، أو قامت بتجنيد أعضائها وإعدادهم وتخبأتهم ليومٍ قادم عصيب.
وعليه فلن يكون سقوط داعش الآتي القريب نهاية ألم شعوب المنطقة والاعالم ورعبها، بل سيكون البداية لإرهاب آخر قد يكون أكثر إيلاما ودموية، وقد لا يكون من الهين التنبؤ به، والإمساك بعناصره، قبل فوات الأوان. ولنا في التاريخ أيضا أمثلة على أن نهاية ممالكَ ودولٍ وحركاتٍ إرهابية عديدة مشابهة لداعش كانت بداية لسلسلة حروب طويلة، من نوع مجازر باريس وأنقرة وبرج البراجنة ببيروت وبغداد، وقد امتدت لأجيال، ولم يتوقف أوُارها إلا بعد أن تبدلت القناعات، وتقلبت المفاهيم، وتفتحت العقول، وتنورت القلوب، وتغيرت الأفكار.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

821 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع