تأليف
الدكتور عبدالرزاق محمد جعفر
أستاذ جامعات بغداد والفاتح وصفاقس / سابقاً
القائمقام أبوعَـزام !
رواية واقعية تنقصها الصـراحة,من الحياة الأجتماعية
في العراق,.. في الحقبة بين سنة 1948- 1958م
الحلقة الثالثة
صباح اليوم التالي الذي أعتدى فيه القائمقام على أبنة بائعة الكيمر"نسـمه", توجه الى مكتبه الرسمي,.. ثم أستدعى مديرالشرطة ورئيس البلدية, لتوطيد علائقه معهما, تحسباً لما قد يحدث بسبب سوء تصرفه مع تلك القروية,.. وأحتمال وصول الخبرالى الشــيخ الحاج خيون آل عبيد شــيخ عـشائرالعبودة وعضو مجلس الأعيان في بغداد, والأب الروحي لمدينة الشطرة.
الحاج خيون آل عبيد
* أكتمل أجتماع الزملاء, في مكتب القائمقام, وأخبرهم برغبته بأقامة ســهرة نهاية الأسبوع في بيته,.. ففرحوا للخبر, وعَقب أحدهم على المبادرة قائلاً : أفضل من السهربأطراف المدينة عند الغجر, فنحن نعتبرمن عُليةَ القوم , ثم عَـلق معاون الشرطة على المقترح, وقال:
* ليكن مشروبنا من العرق والمزات (مثل اللبلبي والباكله),.. ثم أقترح رئيس البلدية بجعل
العشاء (سمك) من ناظم البدعة,... والسـت "صبرية" سـتشرف على الشوي وفق الطريقة البغدادية,.أي ســـمك مـسـكوف,... فوافق الجميع على تلك المقترحات!
الســمك المســكوف
*** خرج الزملاء من دائرة القائمقام, وتزاحم المراجعون عند بابها, وراح البواب (الفراش), يزجرهم ويطالبهم بألتزام الهدوء والدخول بالسَره (أي وفق الأسبقية), وفي تلك اللحظة وصل عريف الشرطة, وهمس بأذن البواب : أخبرعمك بوصولي, هو طلبني لمواجهته !, وبعد برهة أستحصل البواب الموافقة, وطلب من العريف الدخول,..وما أن دخل العريف حتى أدى التحية العسكرية وقال بصوت مرتفع : أنا العريف جاسم,.. مستعد لتنفيذ أوامركم سيدي!,..فرحب القائمقام به وسأله: هل تعرف عنوان دارأم "نسمه" بائعة الكيمر؟!, فقال: نعم, وأكد له معرفته لعنوان سكنها في القرية,... ففرح القائمقام, وطلب منه الذهاب الى والد " نسمه " ويطلب منه مواجهتي لكي أعتذرمنه لما سببت من ألـَم لأبنته, فقد عَـثرت أثناء أستلامي منها صحن الكيمر وسقط على (دشداشتي), وكدت أضربها, فهربت من الدار,..وأنت تعلم, أذا ما وصل الخبرالى أهل المدينة , فأنهم سيعملون من (الحبه كبه), ولربما يفسرالأمر بشكل سيئ , ويصل الخبرالى شيخ المدينة, فأذهب مع أحد زملاؤك الخيالة الى والدها وأطلب منه الحضور, غداً لمواجهتي وسوف يلمس مني كل خيروأنفذ مطالبه!
***
أدى العريف جاسم التحية للقائمقام وتوجه مع رفيق له مباشرة نحو قرية (الكصبات), بأطرف الشطرة حيث يسكن هناك أبو"نسمة" مع مجموعة من مربي الجاموس !
***
في منتصف نهار كل يوم يخرج موكب شيخ المدينة من قصره الواقع في الطرف الجنوبي لمدينة الشطرة, محاط بأزلامه (الحرس), ليتوجهوا الى سوق القماشــين,حيث يجلس الشيخ في (دكان أحد المقربين, المدعو محسن الحاج محمد), لكي يمارس حُكمه, ويَحلَ كافة مشاكل أبناء قبيلته, وحتى أبناء المدينة,وما أن يجلس يتوافد عليه العديد من الناس للسلام عليه, ويبدأ توافد أبناء عشيرته ممن لديهم مشـاكل حول موضوعه أو قبيلتة أوعائلتة,لعرضها عليه, فهو الحاكم بأمره في المدينة, ولا يجرؤ أحداً مهما كانت منزلته ان يخالف رأيه,... فكلامه مطاع وأن كل موظف في الدولة لا ينفذ أوامره, يصبح وجوده في المدينة أمراً مشكوك فيه!
***
يهمس بأذن الشيخ بين الحين والآخرأحد حراسه,.. ليقدم له آخرالأخباروالمعلومات عن كل صغيرة وكبيرة حدثت في المدينة ليبتَ فيها رأيه, ويصغي الى شــكاوي الناس,.. وفي ذلك اليوم يخبرونه عن موضوع القائمقام أبوعزام الذي شـاع بين الأهالي, حيث راود الصبية "نسمة" عن نفسها وهي في حديقة داره وأستطاعت أن تفلت منه وصارت قصتها ترويها كل بائعات الكيمر,... فيغضب الشيخ مما سمعه ويطلب المزيد من المعلومات, ثم يأمرأحد أزلامه بالتحري بين الأهالي لجمع المعلومات وبيان المستخبي والمستور, لتلك الحادثة التي أقترفها القائمقام حامي حمى أهالي الشطرة !
***
تبدأ القرويات عند غروب الشمس,بمغادرة الشطرة بصورة جماعية,والعودة الى قريتهن, مخترقات أسواق المدينة وأزقتها بأتجاه الجسر, ويتقدم نحوهن الجابي مدلول ويسأل أم نسمة : عن الأشاعة التي سمعها, فتستغرب أم نسمة لأنتشارالخبر بسرعة,وتقول له:عجيب,هل وصل الخبر الى هنا ؟!,..صحيح بهذه المدينة لا يمكن كتم أي ســر من الأسرار مهما كان بسيطاً ,.. وتستطرد حديثها معه بعصبية وتقول:
شـوف يا خويَ مَدلول , أللي أيصبح أبوجهك كل يوم شـنو أيحصل؟,..فأنت وأللي أمشغليك (طز,..بيكم),أنت وأسيادك َمصَتوا دَمنه, وما شفنه منكم خير,..خذ أفلوسك وأبعدواعنا ,.. ليش ما تخافون الله!
**
يستغرب أمحيسن من هجوم أم نسمه على شخصه,..فهو يحاول التقرب منها من أجل التودد "لنسمه", وشفقة منه, فهو ايضاً لا يحب المستبدين, وعمله معهم من أجل أكل لقمة العيش,..ثم حاول بكل جهده التخفيف من حزن أم نسمه لما أصابها من الأشاعة, حتى يخفف عنها الألم الذي أكتنفها وقال: أنا والله يا خاله أحب نسمة وأريد أخطبها, فتستغرب ام نسمة من صراحته,
وتفاجأ بنيته الزواج من أبنتها,..وخافت من أن يزيد تصريحه َبلة, لما أشيع اليوم حول تحرش القائمقام بأبنتها, وراحت تشك بأبنتها!,.. ولذا أرادت أن تبعد الشبهات عنها وأخبرته بان بنتها "نسمة" مخطوبة لأبن عمها سرحان وهي الآن طالبة في الثانوية وتأتي معي أحياناً لمساعدتي بتوزيع صحون الكيمرعلى الزبائن, وراحت تتودد لمدلول لتطرد ما اشيع عن أبنتها, وقالت:
أشلون تريد تتزوج "نسمة" وأنت حتى أسمك ما تعرف تكتبة؟,وعلى أية خال ,لم تـَعر"نسمة" أي أهتمام لحديث أمها مع الجابي ,... ثم يودعانه.
***
وصلت أم "نسمة" لبيتها وناقشت أبنتها بما جرى لها اليوم قبل عودة الأب من السعي عند المساء, وقالت لها : سوف أقول لأبيك أن" نسمة "عثرت بحجارة وسقطت صحون الكيمر من يدها على (دشداشة القائمقام), ومن خوفها رمت الصحون عليه وهربت خوفاً من عقابه!, فتؤيد " نسمة " المخطط (السيناريو) الذي وضعته أمها وتقول: هذا صحيح!,.. فقد خفت منه عندما أمرني بالتوجه الى داخل غرفة صغيرة في الحديقة, ولما رفضت,.. أمرني بتسليم الصحون لزوجته!, وأنا على علم بأنها في بغداد, فكيف لا أخاف؟ فقد تصرفت من دون وعي,.. ولم أشعر بما فعلته ورميت الصحون عليه وهربتُ!
***
يرعى أبا "نسمة" الجاموس بعد حلبها عند الفجر ويعود بها قبل غروب الشمس,..وما
أن يدخل أبو "نسمة" الدار,تستقبله زوجته بتحية لم يعهدها سابقاً, فيسـتغربَ ويقول لها:
لماذا تأخرتما اليوم؟!.. فترتبك أم نسمة وتحاول تغييرالموضوع وتهرع نحوه وتتناول منه الحاجيات التي يحملها في يده, وتتودد له, وأخبرته باللي صاروجرى مع نسمة قبل أن يسمعها من المفترين ويشوهون الحقيقة, وما أن أتمت الزوجة سـردها لما تعرضت له "نسمة", أنزعج أبو "نسمة" وراح يصفق يداً بيد, لخوفه مما قد ينجم من وراء تلك المصيبة,وخرج بدون وعي الى صحن الدار, وما أن وقعت عينيه على "نسمة" الحاملة للحطب لوضعه في التنور, لأجل أعداد الخبز للعشاء, حتى أنفعل وتطاير الشــرر من عينيه, وقال لها:
* أريد تنهين شغلك, وتحضرين الى كوخي, فلبت "نسمة" الأمر ولحقت بأبيها وأنحنت على يده وقبلتها, وفهمت من نظراته ما يضمره من كلام, فطلبت العفو, وأكدت له أن ليــس هناك ما يدعو للغضب لأنها لم تسمح للقائمقام أن يمس حتى يدها, وراحت تبكي!, ثم تدخل الأم على الخط, وتؤكد له صَونَ شرفها,.. وأنها طاهرة ولم تـُمكـنهُ من الأقتراب منها!
***
َرقَ قلب الأب على ابنته, ونادي على الجميع لتناول العشاء معه, فقد تخطى أبو" نسمة"
العادات القروية التي لا تجيزللمرأة بتناول الطعام مع الرجل,لأنه أدى الخدمة العسكرية وعاش فترة طويلة في بغداد, وسـاير التمدن الذي طرأ على الحياة العامة في بغداد,.. وصارت زوجته تشاركه أعباء الحياة العامة,وأستوعب الحقاق التي يجب أن تنالها المرأة كأنسانه لها حقوق كما للرجل, فهي الآن ساعده الأيمن تـَحـمل منتجات حقله كل يوم الى المدينة لبيعها,... وتشتري بثمنها ما لذ وطاب من أسواقها, كما منحها القانون المساواة مع الرجل,غيرأن العادات ما زالت متأصلة لدى القرويين,.. وليس من السهل أزالتها , فهناك عادات لا يجوز التفريط بها,.. مثل المحافظة على شرف العائلة , فهي خط أحمرلايجوز تجاوزه البته ,وأضافة الى ذلك, فأن الدين يميزبين العلاقة المشينة و الشريفة بين الجنسين, ولقد ألتزمت "نسمة" بتلك التربية وسمح لها فقط بالحديث مع بن عمها سـرحان! والويل لها أن زلت عن الطريق وأنحرفت عن العادات السائدة في القرية!
*** في تلك اللحظة يُسمع طرقاً على الباب من دون هوادة,..فيرفع أبو "نسمة" الفانوس ويتجه ليعرف من الطارق في هذه الساعة وما أن يفتح الباب حتى يفاجئ بأثنين من الشرطة أمامه !,
وبعد تبادل التحية على الطريقة القروية, يقول الشرطي جاسم : يا أبو"نسمة", سيدي القائمقام يبلغك السلام ويطلب منك عدم التكلم بما أصاب"نسمة" عندما سقطت منها صحون الكيمرعلى على دشداشته!, ولم يكن وحده, بل زوجته الجديدة بمعيته,وكانت تنتظر"نسمة" لأخذ الصحون منها وتضعها على مائدة الفطور,..ولما أراد القائمقام مساعدتها وأدخال الصحون بنفسه, خافت وظنت السوء به لأنها لا تعلم بوجود زوجته الجديدة!,.. وأذا لم تصدق تعال غداً بنفسك للمدينة وأطرق الباب,وسترى بنفسك العروسة, وسوف تسرد عليك كل أللي صاروجرى مع "نسمة"!
***
لم يستغرب أبو "نسمة" تلفيقات الشرطي جاسم, فقد عاش مع امثال هؤلاءسابقاً, ويعرف
أساليب تسترهم على فضائح أسيادهم!,.. وعلى أية حال أجابه أبو"نسمة" بمرارة:
*حسناً,..كل شي صار معلوم , وغداً سأحضرلمقابلة القائمقام , وأنشا الله ماكو غير الخير!
يتبع / الحلقة الرابعة ,.. مع محبتي
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
http://www.algardenia.com/maqalat/18933-2015-09-14-06-21-58.html
2176 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع