مؤتمر القاهرة والقضية الكوردية آذار ١٩٢١ / المحاضرة الأولى

                                                 

                           د.عبدالعزيز المفتي

    

     


     * مؤتمر القاهرة الأول في 12-24 آذار عام 1921م

كان تأمين الحدود الشمالية العراقية ضد التهديد التركي في الفترة (1921 – 1923م) من أهم أولويات السياسة البريطانية في العراق الجديد، فقامت بريطانيا بدعم الحركة القومية الكوردية وتطويرها، من أجل الوقوف بوجه تيار (الجامعة الإسلامية بين الكورد) الذي كان يشجعه وتستخدمه تركيا، لتحريض الكورد لمقاومة الإدارة البريطانية في كوردستان ـ العراق. وكان على الحكومة البريطانية أن توافق أيضاً بين آمال القوميين الكورد في الاستقلال، ومصالحها السياسية في العراق الجديد، الداعية إلى توطيد حكومة الملك فيصل في بغداد، ليصبح العراق الجديد مستعمرة تنعم بالاستقرار فكان تأسيس حكومة الشيخ محمود الحفيد الثانية سياسية وقتية، لخدمة أهدافه السياسة البريطانية في العراق.
إن الخسائر التي سببتها الثورة المعادية للانجليز في العراق (ثورة العشرين) عام 1920، أدت إلى حملة قوية في إنجلترا، للتقليل من تكاليف الحملات العسكرية في الخارج، ولقد وضعت خطة للسياسة البريطانية في الشرق الأوسط، في (مؤتمر القاهرة في آذار عام 1921). إن مؤتمر القاهرة جاء استجابة لنجاح القوات الكمالية في أناضوليا (تركيا) والتي أدت إلى تمزيق سياسة لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني في تركيا( )، لقد كانت تركيا المعادية في تحد مستمر لمنع سيطرة الإنجليز على كوردستان العراق، وإن المطالبة بتقليل الحملات العسكرية كانت متوافقة مع المطالب الإستراتيجية البريطانية؛ وبإيعاز من السيد (ونستن تشرشل (Churchill) وزير الدولة البريطاني للمستعمرات)، عقد مؤتمر القاهرة في آذار 12-24/1921 للتباحث في أوضاع الشرق الأوسط، ووضع أسس جديدة للسياسة الإنجليزية. وقد جرى الاتفاق على تسليم الإدارة في العراق إلى حكومة عربية، واستغلال نفوذ الإنجليز لضمان ترشيح الأمير فيصل ملكاً للعراق الجديد، ثم الدخول في مفاوضات مع هذه الحكومة العربية لإبرام اتفاقية التحالف، لتحل محل حكم الانتداب (Mandate).
وكان من المتوقع أن يؤدي ذلك إلى تقليل نفقات البعثات العسكرية( )، ومساعدة الحكومة البريطانية على تقليل النفقات، بالتدرج من 32 مليون جنيه إسترليني سنوياً في عام 1921 إلى 4.5 مليون جنيه، في نهاية العشرينيات، كما جرى الاتفاق على تخفيض عدد القوات البريطانية في العراق، من سبعة وثلاثين فرقة عسكرية إلى أربعة فرق فقط، وقيام الموظفين البريطانيين بتشكيل جيش محلي في العراق الجديد لملء الفراغ، قبل تكوين الجيش النظامي، وانسحاب القوات البريطانية. كما تم الاتفاق على تعزيز الجيش المحلي العراقي عن طريق الاستفادة من ثمانية أسراب من الطائرات، التابعة للقوة الجوية الملكية البريطانية( ).
ومن أجل تجنب الحساسيات القومية العربية تجاه سياسة الوصاية البريطانية على العراق الجديد، ولتمكين الملك فيصل من التعامل مع لندن، بدون أي تحفظ، رأت الحكومة البريطانية عقد اتفاق التعاون المشترك مع حكومة الملك فيصل( ). وكذلك فقد كان من المتوقع عقد (اتفاق للسلام بين تركيا وبريطانيا) في وقت قريب؛ الأمر الذي سيجعل حكومة العراق قادرة على تطوير مواردها النفطية في ولاية الموصل، وهذا يتطلب إعطاء دعم للعراق الجديد، مما سيمكن بريطانيا من جعل العراق الجديد مستعمرة، قادرة على الإنفاق الذاتي على نفسها( ).
مما سبق، يتبين أن التصور البريطاني في مؤتمر القاهرة، كان قائماً على وجود نوع من السلم في جنوب كوردستان، ووجود علاقات ودية مع تركيا، ولذلك فإن المسألة الكوردية كانت من القضايا الرئيسة التي جرت مناقشتها في مؤتمر القاهرة (الملحق أ)، وأكثر المسائل إثارة لوجود وجهات نظر متباينة بين الموظفين البريطانيين حول السياسة التي يجب إتباعها في جنوب كوردستان.
لقد تمركز النقاش حول محوريين أساسيين في مؤتمر القاهرة آذار 1921:
المحور الأول: الذي نادى بإقامة كيان كردي مستقل في العراق الجديد، ومن مؤيدي هذا الرأي (ونستن تشرشل وزير المستعمرات البريطاني) وغيره من رجال الدولة، فقد رأى تشرشل أن الحكومة البريطانية يجب أن تقيم دولة كوردية في جنوب كوردستان، بدلاً من الدولة الكوردية التي جرى إقرارها في مؤتمر سيفر (Sever) 1920 والتي كان من المقرر إقامتها في أناضوليا، مع إعطاء الكورد في ولاية الموصل الخيار في الانضمام إلى تلك الدولة التي لم تقم بسبب مقاومة القوات التركية الكمالية لها، وقد قرر في حينه أن كل المدن التي لا تتوفر فيها الأغلبية العربية أي المدن الكوردية ستضم إلى الدولة الكوردية( ). لقد ناقش (ونستن تشرشل) ورفاقه كراهية الكورد الشديدة للعرب، وأدركوا أن الكورد سيصابون بخيبة أمل كبيرة، إذا أخرجوا من يد الترك، وسلموا للعرب وبالعكس، والذين هم ليسوا بأكثر حضارة من الترك في نظر الكورد.
كما ناقش ونستن تشرشل إمكانية جعل الدولة الكوردية أداة لعرقلة انتشار الخطط البلشفية الشيوعية، ومنع الإمبراطورية الروسية الجديدة من التوسع( ). وقال ونستن تشرشل: "إنه في حالة إذا ما قرر إثارة عداء الكورد، فإن عملية الدفاع عن ولاية الموصل ستكون غالية الثمن، إذا ما قرر الترك مهاجمتها، لأن الكورد سيقفون بدون شك مع القوات التركية"( ).
المحور الثاني: الذي يمثله السير بيرسي كوكس، المندوب السامي البريطاني في العراق الجديد، واغلب الموظفين البريطانيين ومن أهم الأسباب التي يراها هؤلاء في رفض قيام الدولة الكوردية لكونها هي الطبيعة الجغرافية للعراق الجديد، إذ لا يمكن الدفاع عن العراق الجديد بدون أن تكون الجبال الكوردية تحت السيطرة في الشمال والشمال الشرقي (كوردستان العراق)( ).
ولقد شاركت (مس جيرترود بيل السكرتيرة الشرقية في المندوبية السامية البريطانية في العراق الجديد)، مشاركة فعالة هذا مؤتمر القاهرة، ورأت أنه من الأهمية المحافظة على حدود العراق الإستراتيجية على خط الهدنة (موندرس) في 30 تشرين الأول 1918، وإلا فإن السهول العراقية حتى البصرة ستكون مفتوحة للقوات التركية. وأكدت كذلك أن انفصال جنوب كوردستان (ولاية الموصل) ذات الأغلبية الكوردية سيجعل حقول النفط في المنطقة بيد الأتراك، وسيهدد حقول النفط التابعة لشركة النفط الإنجليزية ـ الفارسية في جنوب إيران( ).
وفضلاً عن ذلك، فقد كانت هناك معارضة كبيرة لدى القوميين العرب في بغداد لإقامة دولة كوردية، وقد كان هؤلاء القوميون يشككون في السياسة البريطانية في كوردستان، ويرون أن بريطانيا تحاول أن تجعل كوردستان السلاح الذي تعاقب به العراقيين العرب المعارضين لها( ). كما أن الملك فيصل الأول كان متردداً في قبول فكرة تشكيل دولة كوردية في كوردستان العراق، لأن ذلك يضعف موقفه عند القوميين العرب العراقيين، لأنهم سيعدونه عميلاً لبريطانيا، ومساعداً في عملية تمزيق العراق الجديد. يقول (برسي كوكس) المندوب السامي البريطاني في العراق الجديد في هذا الصدد: "في الحقيقة كان السلاح الأنجح لمقاومة أي هجوم تركي، أو بلشفي، هو تماسك التكتل القومي العربي، وينبغي لنا أن نتجه في سياستنا نحو هذا الاتجاه"( ). كما فكر (برسي كوكس) - وهو الخبير في هذه المسالة - بعدم قدرة الكورد على القيام بالحكم المستقل، وأدعى أنهم منقسمون جداً فيما بينهم، ويفتقرون إلى الشعور القومي المتماسك( )، وقد أيد هذا الرأي "ستيفن لنغريغ" المشرف الإداري البريطاني في كركوك. ورأي أيضاً أن الكورد  مقسمون إلى قبائل متعددة، زعماؤها رؤساء متناحرون فيما بينهم، ولا يملكون أي شيء من الشعور القومي( ).
كانت (السيدة مس بيل) مقتنعة تماماً أن أية مغامرة في كوردستان العراق الجديد ستكون فاشلة، وقالت: "إن موضوعكم سيكتب له الفشل، فأغلب الكورد يظنون أنهم مقدسون، وشبه عقلاء، وشبه جياع، وبربريون تماماً، والكل في كوردستان يعادي الكل، فكيف تخلقون دولة كوردية مستقلة؟"( ).
لقد أخذ (مؤتمر القاهرة القضية الكوردية بسبب حساسية القضية)، وذلك بتشجيع من السير برسي كوكس المندوب السامي البريطاني في العراق الجديد، الذي أراد أن يجمد المسألة الكوردية إلى حين، لكي يستطيع أن ينفذ سياسة تهدف إلى الدمج التدريجي للمناطق الكوردية في العراق الجديد. وقد كان هناك إجماع أيضاً على أن أية محاولة لإجبار الكورد على الدخول، مباشرة، تحت حكومة عراقية عربية جديدة في العراق، سيقاوم بلا شك. ولذلك فقد أوصى المؤتمر ببقاء كوردستان تحت إشراف المندوب السامي البريطاني، المباشر والمستقل عن العراق الجديد( )، إلى أن يأتي الوقت الملائم الذي يستطيع فيه الكورد تقرير مصيرهم.
ويبدو أن المحورين أعلاه في النقاش بين (ونستن تشرشل وبرسي كوكس) قد تركا القاهرة في 24 آذار 1921، وهما مقتنعان بأن الجانب الآخر قد قبل وجهة نظرهم، في السياسة التي ستتبع في كوردستان. فقد كتب (برسي كوكس إلى وزير المستعمرات ونستن تشرشل) قائلاً: "إنه وتماشياً مع السياسة البريطانية التي أقرت في مؤتمر القاهرة في آذار 1921، فقد عقد اجتماعاً مع الخبراء المحليين البريطانيين، بعد عودته إلى العراق مباشرة، للاستماع إلى آرائهم في السياسة التي ستتبع في جنوب كوردستان وكذلك أكد المندوب السامي البريطاني برسي كوكس لوزير المستعمرات ونستن تشرشل أنه يفكر في إقامة منطقة يكون للكورد فيها حكم ذاتي تام ضمن العراق الجديد( ) (الملحق ب). ومن أجل تخفيف المخاوف التي طرحها تشرشل من إمكانية تقارب الكورد مع الأتراك قال كوكس: "أشعر بأن برنامجنا يجب أن يكون أكثر جاذبية من أي بديل، يمكن أن تطرحه تركيا، ولا بد أن يكون هذا المشروع واسع النطاق حتى يضم تحت جناحيه أغلب الكورد القوميين الطموحين"( ).
وقد رد ونستن تشرشل على كلام برسي كوكس قائلاً: إنه مقتنع تماماً بأن ترك الكورد تحت أي حكومة عربية لن يكون في صالح الحكومة البريطانية، وأضاف: "لقد رجع (تشرشل) من القاهرة بانطباع مختلف عن برسي كوكس، وكان رأيي متوازنا تجاه السياسة في كوردستان، وقد كان في ذهني (تشرشل) أن تقام دولة كوردية مستقلة في جنوب كوردستان، لتكون حاجزاً بين تركيا الحديثة والعراق الجديد"( ).
لقد كانت فكرة تشرشل هي جعل المنطقة الكوردية أن تكون دولة كوردية مستقلة لتكون درعاً لحماية العراق الجديد من تركيا الحديثة وإيران، وهذه الدولة الكوردية ستوفر تلك الحماية، وتحرر العراق الجديد من الدفاع عن نفسه بجيش نظامي( )؛ وهذه الخطة هي إحياء للخطة التي وضعها (السير هنري رولنس) لهذا الغرض في عام 1853. ولكن (برسي كوكس) كان لهُ رأي مخالف.
لقد كان للأوضاع المحلية في العراق الجديد تأثير كبير، فقد ضغط الملك فيصل الأول بمعاونة بعض رجال الإدارة البريطانيين على المندوب السامي البريطاني برسي كوكس، لتنفيذ سياسة الضم (ولاية الموصل)، فقد أقنع الملك فيصل المندوب السامي بأن وجود دولة كوردية سيحرم العراق الجديد من نسبة كبيرة من السكان السنة، الأمر الذي سيجعل حكمة في دولة أغلبيتها شيعية صعباً للغاية( )، وكان الملك فيصل يرى أنه لن يقبل بفصل كوردستان الجنوبية عن العراق الجديد. لكن (الميجر يونغ) رفض طلب الملك فيصل بضم كوردستان، وبين أن الملك فيصل لم يطالب بكوردستان عندما قدم له العرش في لندن، بقوله: "نحن وعدنا بتشجيع القومية العربية وليس الإمبريالية العربية"( ). ومع ذلك فقد قرر المندوب السامي برسي كوكس تقوية موقف الملك فيصل، عن طريق إدعاء أن مصالح الإنكليز ستكون مع تقوية دولة العراق الجديد، فكتب كوكس إلى تشرشل قائلاً: "لا ينبغي لنا بأي حال من الأحوال أن نغفل عن الحقيقة التي تؤكد أن قضية كوردستان تأتي في المرتبة الثانية بعد القضية العربية، وإذا أردنا أن نكسب ود العرب في العراق الجديد، فلا يمكن لنا أن نعمل أي شيء يؤثر فيهم على نحو سلبي، ويبقى العراق الجديد منفذناً إلى كوردستان"( ).
استطاع برسي كوكس في آب 1921 أن يقنع ونستون تشرشل بتأييد سياسته في كوردستان، فقد كتب تشرشل في يوم 25 آب 1921 مؤكداً له أن القضية الأساسية هي تأمين مكانة الملك فيصل الأول، وأن القضايا الأخرى ثانوية ولكنه وفي الوقت نفسه أمره بأن لا يفضل العرب على الكورد في جنوب كوردستان. وقد أمر وزير المستعمرات ونستن تشرشل المندوب السامي البريطاني كوكس بتنفيذ خطته، وإعطاء الكورد حكماً ذاتياً واسع النطاق لمدة سنتين، حتى يتم توطيد حكم الملك فيصل الأول في العراق الجديد( ).
إن الاختلاف بين (كوكس وتشرشل) كان امتداداً للخلاف حول القضية نفسها (الكوردية) بين (كرزون رئيس وزراء بريطانيا وولسن نائب الحاكم البريطاني) في العراق الجديد بين عامي 1918 – 1920، وهذا يؤكد عدم وجود سياسة بريطانية واضحة في القضية الكوردية. وربما يعود السبب في عدم الوضوح هذا إلى عدم وجود اتفاقية سلام مع تركيا.
كانت خطة كوكس في الحكم الذاتي للكورد تتألف من نقاط رئيسية ثلاث هي:
1. تكوين شبه لواء كردي (محافظة كوردية) يشمل أربع أقضية من ولاية الموصل، وهي: (زيبار، وعقرة، والعمادية، ودهوك)، وستكون المنطقة هذه تحت إمرة مساعد المتصرف البريطاني، مؤقتاً، إلى أن يتوفر موظف إداري كردي كفوء.
2. تكوين لواء (محافظة) في أربيل، وتشمل هذه المنطقة، كوي (كويسنجق)، وراوندوز، وستعطى بعض التعيينات الحكومية المهمة للكورد بالتعاون بين الإنجليز والعراقيين.
3. وأما منطقة السليمانية فسيحكمها متصرف ومجلس اللواء (محافظة)، وسيتولى الضابط السياسي البريطاني منصب المتصرف مؤقتاً، وسيكون المندوب السامي البريطاني هو حلقة الوصل بين المتصرف في السليمانية ومجلس الدولة في بغداد( ).
وقد أخبر (نولد سميث الضابط السياسي البريطاني في السليمانية)، الزعماء الكورد أن سياسة الحكومة البريطانية تهدف إلى تدريب الكورد على قيادة أنفسهم، تحت سيطرة الإدارة الإنجليزية إلى أن يجري تكوين مؤسسات الحكم الذاتي للكورد( ).
لم يقتنع الملك فيصل الأول، ومن خلفه القوميون العرب، بالسياسة التي اتبعها برسي كوكس، وعدوها خطة لإقامة دولة كوردية، وفي عام 1921 استفسر الملك فيصل عن هذه السياسة، وطرح الأسئلة الآتية على برسي كوكس المندوب السامي البريطاني في العراق الجديد:
1. هل بريطانيا مستعدة للدفاع عن كوردستان إذا ما هوجمت من الخارج؟ وبالتالي هل هي قادرة على تأمين العراق الجديد من أي هجوم عبر كوردستان؟ ولو كان الأمر كذلك، فإلى متى؟
2. هل بريطانيا مستعدة لتحمل المسؤولية في منع أية فوضى، داخل كوردستان، والتي قد تكون خطراً على العراق الجديد، وإذا كان الأمر كذلك، فإلى متى؟ وإذا عبرت بعض المجموعات الكوردية عن رغبتها في الدمج مع العراق الجديد، فهل في نية بريطانيا إجبارهم على الانفصال عن العراق الجديد؟
3. وفي حالة الانفصال، فأي نوع من الحكومة تتصوره بريطانيا لكوردستان؟( ).
وقد أجاب (ونستن تشرشل) وزير المستعمرات البريطاني على هذه الأسئلة بقوله: "إن الحكومة البريطانية لم تكن تتطلع إلى تأسيس دولة كوردية، بل كانت تفكر في إلحاق جنوب كوردستان (ولاية الموصل) بالعراق الجديد في إطار (كونفدرالي). والحكومة البريطانية لن تمنع أي جزء من كوردستان في الانضمام إلى العراق الجديد، كما  أن إعطاء كوردستان حكماً ذاتياً، كان بمثابة إرضاء الكورد، حتى لا يتجاوبوا مع الحملات التركية عبر الحدود( ).
إن الأسئلة التي وجهها الملك فيصل إلى برسي كوكس توحي بفهم الملك فيصل الأول الدقيق للوضع الهش في كوردستان. لقد كان الملك فيصل واعياً بأن الحكومة البريطانية ليست مستعدة لتحمل المسؤولية في كوردستان، ولعله أراد بهذه الأسئلة أن يترك الإنكليز الحرية للعراق الجديد في إقامة الحكم الذاتي في المنطقة الكوردية (كوردستان). كما أن رد ونستن تشرشل يظهر أن مسألة الحكم الذاتي للكورد لم تكن أمراً ثابتاً، بل كانت حركة سياسية تهدف إلى احتواء التأثيرات التركية في الكورد.
إن نجاح إستراتيجية مؤتمر القاهرة 12-24/تموز/1921 كان متوقفاً على وجود السلم والأمن في كوردستان، وعلاقات طيبة مع تركيا، وعدم وجود معارضة من السلطات الفرنسية في الشرق الأوسط( ). ولكن كان هناك عدم ارتياح في المنطقة من الخطة السياسية البريطانية في كوردستان، وقد زاد عدم الارتياح هذه الدعوة التركية لإقامة الجامعة الإسلامية، وقد ترك هذا الأمر أثراً سلبياً في المصالح البريطانية في المنطقة. وقد ظهر عدم الارتياح في البحث الذي قام به برسي كوكس في مايس 1921، والاستفتاء الذي تلاه عند تتويج الملك فيصل على عرش العراق الجديد في آب 1921م.
حاول المندوب السامي برسي كوكس بعد عودته من القاهرة أن يتعرف إلى شعور الكورد تجاه حكومة الملك فيصل الأول. وقد قام بعض القوميين الكورد، في السليمانية، بالتحريض على إقامة دولة كوردية، وكان هؤلاء من النخبة المثقفة والقوية الكوردية، على الرغم من قلتهم، وقد رفضوا أية علاقة مع بغداد العربية، لقد كانوا وأعين تماماً بأن هناك صلات اقتصادية قوية بين كوردستان وسائر مناطق العراق الجديد، ولكنهم رأوا أن هذه العلاقات الاقتصادية يجب أن تقام على مبدأ التبادل المشترك بين دولتين ذواتي سيادة (بغداد العربية وكوردستان الكوردية)( ).
لقد عدّوا إدعاء برسي كوكس بأن عدم وحدة الكورد أمر يمنع الإنجليز من تشكيل دولة كوردية قومية غير صحيح. وقد وجه الكورد سؤالاً إلى (الميجر غولد سميث)، الضابط السياسي في السليمانية: "لماذا يجعل المندوب السامي إقامة دولة كوردية في المناطق الكوردية التي تقع تحت الانتداب البريطاني أمراً مستحيلاً؟ ولماذا لا يقدم لهم المساعدة والتوجيه لتشكيل حكومة قومية مثلماً فعل مع العرب في العراق الجديد"( ). وكانت آراء وجهاء الكورد وزعمائهم في كركوك وأربيل والموصل تتباين حول مسألة الدمج الكامل مع العراق الجديد، وفي الحكم الذاتي للكورد تحت الانتداب البريطاني( ).
إن الاستفتاء الذي أجراه برسي كوكس يعطي مؤشراً واضحاً لموقف الكورد تجاه الوحدة مع العراق الجديد، فقد رفض الكورد في السليمانية المشاركة في الاستفتاء حول ترشيح الأمير فيصل ملكاً على العراق الجديد، وكانت الأصوات في كركوك تشكل أربعة بالمئة من الناخبين( ). وصوت الناس في أربيل للملك (الأمير) فيصل، ولكن هذا التصويت كان من طبخ (الرائد ليون)، مساعد الضابط السياسي هناك (أربيل) ودسيسته، وعلى الرغم من أن وجهاء الكورد في الموصل انتخبوا (الأمير) الملك فيصل، إلا أن ولاءهم كان مشروطاً بـ:
1. استمرار انتداب بريطانيا في العراق الجديد.
2. الاعتراف بأن اللغة الكوردية هي اللغة الرسمية للتعليم والقضاء والإدارة.
3. توفير ضمان قانوني لحقوق الكورد.
4. وأن للكورد الحق أن ينضموا إلى كوردستان الشمالي متى أصبحت كوردستان دولة مستقلة كما هو منصوص عليه في اتفاقية سيفر 1920م( ).
ولم يحضر أي وفد كردي من السليمانية أو كركوك حفلة تنصيب الملك فيصل في آب عام 1921، وذلك لإظهار عدم الرضا( ). لقد برهن الاستفتاء الذي قام به برسي كوكس في مايس 1921، واستفتاء حزيران 1921 في العراق الجديد أن الكورد في السليمانية وأربيل وكركوك التي تشمل أكثر من ثلثي سكان جنوب كوردستان، وقد أجمعوا على رفض الملك فيصل ملكاً على العراق، وهذا أمر طبيعي لأنهم لم يألفوه، ولم يعرفوه من قبل (أي أنه من خارج العراق). إن الإشارات المتناقضة التي كانت تأتي من قبل (ونستن تشرشل)، ومن بغداد من قبل (برسي كوكس) قد سببت إلى حد ما الاتجاه السلبي في كوردستان تجاه الملك فيصل، وهذا مؤشر آخر على أن الملك فيصل لا يفضل الكورد في حكومته، وقد استغل هذا التوتر الواضح في محاولته لإعادة سيطرته علـى ولاية الموصل ذات الأغلبية الكوردية.
لقد عقد هذا المؤتمر (القاهرة) في 12-24 آذار 1921 لوضع الخطوط الأساسية للسياسة البريطانية في الشرق الأوسط حيث صدر بعد ذلك على هامش المؤتمر (القاهرة) تصريحاً في 6/5/1921م، اقترح فيه الإنكليز ما يلي حول مصير المنطقة الكوردية:
1. يشكل لواء كردياً في السليمانية على غرار لواء الموصل ويكون تحت إدارة بريطانية عملياً ويفضل أن تكون أغلب موظفيه من الأكراد.
2. تعتبر السليمانية متصرفية ويحكمها مجلس متصرفية من الأكراد المنتخبين والمختارين.
3. اعتبر اعتراف الحكومة البريطانية بوضع الأكراد حينذاك بمثابة تبدلاً ملحوظاً في سياسة الإنكليز، وقد نشأ هذا بسبب عوامل منها ما يلي:
أ. مطالبة تركيا بولاية الموصل واعتراضها على معاهدة سيفر 1920م.
ب. وصول مبعوث من مصطفى كمال أتاتورك إلى راوندوز واتصاله مع رؤساء العشائر الكوردية لغرض كسبهم إلى جانب تركيا وتحريضهم ضد الإنكليز والعراق الجديد( ).

الفريق الركن الدكتور
عبد العزيز عبد الرحمن المفتي
أيلول 2013

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

651 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع